}

عن الشخصية الإسرائيلية وجذور روحها العدوانية

أحمد الجندي أحمد الجندي 19 أكتوبر 2023
استعادات عن الشخصية الإسرائيلية وجذور روحها العدوانية
(gettyimages)
تحكي الأسطورة المسيحية التي ظهرت للمرة الأولى في كتاب "تاريخ فلوريس"، الذي ألفه المؤرخ الإنكليزي روجر ويندوفري في القرن الثالث عشر أن راهبًا أرمنيًا كان يزور إنكلترا عام 1228 وهناك حكى أنه شاهد في أرمينيا رجلًا يسمى كارتافيلوس، وكان هذا الرجل يدعي أنه كان حاجبًا لبيلاطس البنطي، حاكم ولاية يهوذا في عهد المسيح عليه السلام، ويزعم أنه هو ذلك الرجل المذكور في سفر يوحنا 18: 22 الذي ضرب المسيح على رأسه كي يسرع الخطى بعد القبض عليه. هنا تقول الأسطورة أيضًا إن المسيح التفت للرجل وتوعده بأنه، أي المسيح، سيذهب أما هو، الحاجب، فسيبقى هائمًا منتظرًا حتى يعود المسيح. تحكي الحكاية أيضًا أن كارتافيلوس تعمد لاحقًا وأطلق على نفسه اسم يوسف، وعاش عيشة الرهبان يتمنى أن يتم إنقاذه من المصير الذي توعده به المسيح، لكن من دون أمل.

عادت الأسطورة لتروى من جديد في ألمانيا بتفاصيل مختلفة قليلًا في القرن الـ 16، فكان اسم اليهودي التائه أحشويروش، لكن لم يتم تعميده هذه المرة، وقد حكي أن كاهنًا ألمانيًا التقى أحشويروش، ذلك الشيخ اليهودي الطاعن في السن، الذي زعم أنه هو من ضرب المسيح أثناء أخذه للصلب. ولا شك في أن الاعتقاد المسيحي في ذلك الوقت الذي كان يلقي بمسؤولية صلب المسيح عليه السلام على اليهود، قد ساعد على انتشار هذه الأسطورة، فانتقلت من مكان لآخر؛ وانتشرت باللغات الفرنسية والدانماركية، والسويدية، وظهر منها في عام 1602 في ألمانيا وحدها ثماني نسخ على الأقل يختلف بعضها عن بعض اختلافًا طفيفًا، وبنهاية القرن الـ 18 كانت هناك 40 نسخة مختلفة من الأسطورة، ثم تحولت فيما بعد إلى قصائد وروايات، وقدمت كمسرحيات، وأفلام سينمائية، ورسمت على الورق وحفرت كجداريات.

كان الناس يزعمون أنهم التقوا بهذا اليهودي التائه، وتوالت الادعاءات بمشاهدته في أماكن، وأزمنة مختلفة؛ فرآه أحدهم في هامبورج عام 1547، وثان في إسبانيا 1575، وثالث في فيينا 1599، ورابع في بافاريا 1604، وخامس في بروكسل 1640، وسادس في نيوكاسل 1790، وآخر في أميركا 1868.

إنها إذًا قصة ذلك الشخص الملعون الذي كتب عليه التيه من دون أمل في الراحة، ولا الموت، والتي تحولت من أسطورة تروي حكاية شخص آثم، لرمزية عرق هائم. هنا تحديدًا يربط الباحثون بين هذه الأسطورة وقصص التيه والشتات الممتدة عبر مراحل التاريخ الإسرائيلي القديم.

حين نعود إلى أحداث ذلك التاريخ في مراحله المختلفة، نجده يكشف لنا عن طبيعة نفسية معقدة، غير قابلة للتعايش مع الآخر، وجماعة ارتبط وجودها بإثارة الأزمات، وصناعة المؤامرات. لا يمكن إنكار أن بعض الإسرائيليين القدامى كانوا أتباعًا مخلصين لموسى والأنبياء من بعده، لكن أحدًا لن ينكر أيضًا أن موسى نفسه والأنبياء طالما تعرضوا للإيذاء من ذلك الشعب العنيد "صلب الرقبة".

تاريخ تيه بدأ بأربعين عامًا في سيناء بعد الخروج من مصر، ولم يتوقف بعدها: سبي أشوري في 721 ق. م. وسبي إلى بابل وهروب إلى كل جهة وصولًا لأراضي الحجاز في 586 ق. م.، وشتات روماني في كل بقاع الأرض في 70 م.  وتهجير من مدن الحجاز بعد خيانات ضد الدولة الإسلامية الناشئة، وهجرة اختيارية بعد سقوط الأندلس إلى شمال أفريقيا، ومصر وفلسطين خوفًا من اضطهاد المسيحيين الأوروبيين، نفس الأوروبيين الذين أرادوا التخلص منهم، والاستفادة بهم فساعدوهم في الهجرة إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ودعموهم في تكوين عصابات إرهابية من أجل تأسيس كيان محتل ليكون لهم وطنًا.

يصف التلمود الآخر بالنجاسة المادية والمعنوية، وبالمكر والخبث، ويتهمهم بالشذوذ ومضاجعة الحيوانات، وينهى عن نجدة غير اليهودي إذا سقط في بئر!


لكن الراحة لم تأت، وظل اليهودي تائهًا، ينتقل من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الوسط، ومن شقته إلى الملجأ مع كل حجر، وزجاجة حارقة، أو طلقة رصاص، أو صاروخ كان يُظن يومًا أنه سيظل لعبة أطفال. هل تساءلت يوما لماذا حيثما تواجدوا تواجدت الاضطرابات، والمؤامرات، ولماذا كلما شعروا بالقوة مارسوا كل أشكال الانتقام على الضعفاء؛ شيوخًا، ونساء، وأطفالًا؟ لا تكمن المشكلة في جينات وراثية، أو موروثات جسدية، بل تعاليم دينية ووصايا تلمودية وضعها بشر أنتجت في النهاية شعبًا عدوانيًا غير سوي في معظمه؛ فالرب نار آكلة، تبيد البشر وتهلكهم أمام إسرائيل (تثنية 9: 3)، وهو نفس الرب الذي يأمرهم بقتل نساء المديانين وأطفالهم (العدد 31: 17)، وهو من يأمر شعبه باستعباد وتسخير أهل كل مدينة تستسلم لهم، أو قتل كل ذكر، والاستيلاء على النساء والأطفال والبهائم غنائم من رافضي الاستسلام ( تثنية 20: 10 - 14)، وهم من أفنوا الرجال والنساء في حروبهم في أرض كنعان في عهد يشوع، وهو يشوع نفسه الذي اعتبره بن غوريون يومًا "بطل التوراة، الذي لم يكن مجرد قائد عسكري، بل مرشدًا وحد إسرائيل"، وهو نفسه الذي سار الإسرائيليون في كل مجازرهم على هديه، وما زالوا.

يصف التلمود الآخر بالنجاسة المادية والمعنوية، وبالمكر والخبث، ويتهمهم بالشذوذ ومضاجعة الحيوانات، وينهى عن نجدة غير اليهودي إذا سقط في بئر، وأمر التاجر اليهودي بالغش وأن يفسد بضاعة الغير وأدواته. (شيماء حسن: الآخر في التلمود؛ ترجمة باب العبادات الأجنبية في التلمود، دار العلوم للنشر والتوزيع، القاهرة 2007. ص. 53، 57- 58 60، 65).

لم يأت العنف والقسوة الإسرائيلية التي نراها اليوم من فراغ إذًا، بل من تاريخ ونصوص دينية تأمر بالقتل من دون رحمة، أضف إلى ذلك أن ما مر به اليهود عبر تاريخهم على يد نبوخذ نصر وتيتوس وهادريان، وصولًا إلى مواجهتهم مع النازية، لم يؤد كما يقول المؤرخ أرنولد توينبي "إلى تجنب بعض الجرائم التي ارتكبها النازيون ضدهم، بل إلى تقليدها". تحكي الرواية اليهودية الحديثة، التي أصبحت مقدسة، رغم كل ما فيها من مبالغات، ولم يعد بإمكان أحد رفضها أو نقدها، أن اليهود تعرضوا لمذابح "بوجروميم" في روسيا في القرن الـ 19، وأن 6 ملايين منهم قتلوا على يد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لكن الرواية نفسها لا تحكي أبدًا عن فقدان البوصلة في تحديد العدو، فلم يكن العدو في فلسطين، ولم يكن أهلها من أوقعوا بهم المجازر، وهكذا يحتاج الأمر إلى تحليل نفسي لفهم تلك الطبيعة المعقدة للشخصية اليهودية.

في نهاية أربعينات القرن الماضي نشرت المجلة الشهيرة "أميركان إيماجو"، وهي دورية علمية متخصصة في علم النفس يعود تأسيسها لعالم النفس سيغموند فرويد، بحثًا عنوانه "اليهودي كنمط نفسي" للأكاديمي أنطون لوري ذهب فيه إلى أن أحد أهم معالم تلك الشخصية هو الميل إلى العنف، وأن نفس هذا النمط يمكن أن نجده بين اليهود في التاريخ القديم (A. Lourie: The Jew as a Psychological Type. American Imago, vol. 6, no. 2 (June 1949) pp. 119 – 155.)

لاحقًا وفي عام 1986 ألف المرحوم رشاد الشامي كتابه الشهير "الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية" تتبع فيه تلك الصفة تحديدًا ومؤصلًا لها بنصوص من العهد القديم، وبالواقع في العصر الحديث قبل عام 48 وبعده. ومؤخرًا كتب الباحث في علم النفس هارولد أورلانسكي، مقالًا عنوانه "دراسة الإنسان؛ سمات الشخصية اليهودية" حدد فيه سمات نفسية للشخصية اليهودية على المستوى الجماعي؛ كالعنف، والتطرف، وكراهية الذات، والتأرجح بين الاستعداد للخضوع والسعي للهيمنة (https://tinyurl.com/yqpz7hp5) ولعل الصفة الأخيرة تفسر سبب توظيف مآسيهم التي ارتكبها الأوروبيون بحقهم ضدنا نحن، وضد فلسطين وأهلها.

يبدو إذًا أننا أمام طبيعة شخصية غير سوية أنتجتها بالأساس نصوص دينية بشرية، توراتية وتلمودية، وتعاليم حاخامات، وإحساس دائم بالتفوق على البشر جميعًا، وكل ذلك أنتج في النهاية مزيجًا غير قابل للتعايش مع الآخرين؛ منعزلًا في حارته عند الضعف، ويقتل أعداءه ويستعبدهم إن كان قويًا.

في عام 2014 وأثناء واحدة من المعارك التي لا تنتهي بين إسرائيل والمقاومة في غزة، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" رسمًا كاريكاتوريًا لأسرة يهودية تهرب من صواريخ المقاومة، حاملة أمتعتها فوق ظهرها، كان الرسم يحمل عنوان "اليهودي التائه"، مشهد متكرر لا يمكن أن ينتهي، مشهد لم تصنعه المقاومة، بل صنعته تلك اليد القاسية والنفس التائهة التي لا تقبل الآخر، ليتكرر تيه التاريخ القديم والحديث، وليتأكد أن اليهودي، مهما بلغت قوته، سيظل تائها رُبما من دون أمل في الوصول.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.