}

إسرائيل وأضاحي القتل

سعيد نجدي 10 نوفمبر 2023
اجتماع إسرائيل وأضاحي القتل
شهداء في غزة جراء الحملة الإسرائيلية الهمجية (Getty)
الأضحية فعل تكريسي، بحيث ينقل الفرد، أو الجماعة ذات البعد القومي كحالة إسرائيل، إلى حالة أخرى بشكل رمزي شعائري، على اعتبار أنها فعل تطهري ذات بعد جماعي تراتبي بين المكونات، ليخفي حالة من حالات التباعد، ومع هذه العملية يصار إلى نوع من أنواع التماسك من خلال استئناف عملية البدء بوصفه تكرارًا للزمن. وثمّة شرعية يقع إضفاؤها، واعتراف يتمّ التأسيس له وتمريره ضمنيًّا، لجعل الفواصل و"الامتيازات" التي تتصل بالمقام الجديد حقيقة قائمة تحظى بالشرعية والاعتراف. فبواسطة الطقس والاحتفالات التي تصاحبه، تبنى الحدود الرمزية بين المكانات القوية والمكانات الأقل قوّة في سلّم المواقع. وتسمح عمليّة التأسيس بالعمليات "السحرية" والبروتوكولات التي تتمّ بها بتعزيز الامتيازات والحقوق المعنوية والرمزية التي يقتضيها المقام الجديد، وبهذا تتم عمليات الترميم للهوية، وهذه الحال نراها ماثلة مع الجماعة الحربية الإسرائيلية التي تعتبر مجتمعًا من أجل الحرب والقتل، والتي تخفي هذا التعارض بوجودها داخل الدولة الحديثة. وما أطفال العرب إلا خطيئة يجب تصحيحها على حد قول أ. شارون، وحرب غزة الآن هي أضحية تكريسية لتذكير الجماعة الإسرائيلية التي من الممكن أن يتشتت وعيها، حتى ينصب كله على معيارية هذه البنية التي توحي أنها مهدّدة باستمرار، لأنها بنية وعي اصطفائية من حقل الثقافة التي كوّنت خطابًا كلما انزاح نحو النسيان يُستعاد بلغة الدماء، من خلال النخبة التي عهد إليها بممارسة فعل التذكير.
الأضحيات لا تندرج كلها في مدلول واحد، على ما حاول كلود ليفي شتراوس (1908 ـ 2009) تقديمه حتى يبرر منهجه البنيوي من دون الرجوع إلى الأساطير السامية، كما يشير بول ريكور، على اعتبار أن التعميم المنهجي يؤدي إلى تجهيل معرفي، لأن التعارض واضح ما بين الأضحية اليهودية التي تكرّس فعل إزاحة لكل آخر، فهي بمعنى من المعاني أضحية لتكريس البعد القومي على عكس العديد من أديان الخلاص بوصفها أنماطًا من التسليم والانعتاق، نحو التوحيد، وهنا تختفي الفروقات التراتبية السلطوية والقومية وغيرها، على عكس الأضحية اليهودية التي تقوم على توكيد هوياتي. فعند إسرئيل تصبح تكريسًا للعنصرية القومية، باعتبار الاحتكار الإبراهيمي المؤسّس على فعل القرابة من خلال الفخذ الإسحاقي دونًا عن غيره، لهذا نرى التعارض مع المنهج الذي أسقطه شتراوس في الأسطوريات التي اشتغل عليها (النيء والمطبوخ/ الرجل العاري/ أصل آداب المائدة/ من العسل إلى الرماد/ الخزافة الغيور/حكاية أوس الرجل العاري... إلخ)، لناحية المحاور والشكل والهيكلية لتحليله البنائي.
في سفر التكوين الإصحاح الثاني والعشرون، الذي تكوّن عليه الخبر اليهودي، والذي أنشئت منه لاحقًا أسطورة ذات أبعاد قومية ودينية، حيث يشير: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم. فقال: هأنذا فقال: خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك"؛ تأسّس بعدٌ قومي تراجيدي تكراري، باعتبار أن الرواية اليهودية أولًا هي احتكارية لإبراهيم من خلال الفرع الإسحاقي الذي أتى منه نسل بني إسرائيل، وهي على هذا التأسيس رواية معيارية، بمعنى أنها الوعي الخلاصي من خلال بني يعقوب، فإبراهيم كما يشير الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد (1813 ـ 1855) في كتاب الخوف والارتعاد هو "وعي أبدي"، وهنا المفتاح اللاواعي الذي سرى في بنية الجماعة التي أسّست هذا الوعي، ولكن على بعد عنفي إلغائي مع الصهيونية. من هنا يصبح الموضوع موضوعًا تأويليًا للغة التي تشير إلى هذا الوعي الذي حصر في هذه الجماعة. ومن هنا نرى في الإصحاح، من خلال عملية التبادل، كيف أن الله أعطى إبراهيم أضعاف الهبات من خلال تمليك بني إسرائيل للأرض "أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه".
فلسطين الضحية هي هذا الكبش الذي يضحى بها والتي تم الاستعاضة عنها بدم إسحاق. نرى اليوم كمية السفك بالدماء البريئة في فلسطين، خصوصًا مع أيام (كيبور) وهو يوم الغفران، وهو الاستعادة المتكررة حتى يبت بمصائر الجماعة للعام الجديد. وهذه الرومانسية المتوحشة التي تنسحب على هذا الوعي هي استئناف للذكرى والمالكة لمفاتيح المعنى. وهي كينونة رجاء تقاس بنوع من أنواع كمية الدماء التي تسفك، ولأنها أيضًا أيديولوجيا، اختلط فيها المقدس مع القومي، والمطلق مع النسبي، لهذا يفترض أن يتم قطع أي عنصر عربي، وإلا اختل النسق. فالعربي هو من نسل إسماعيل، لذلك الصراع على إزاحة إسماعيل من أجل السيادة واحتكار الأب ـ إبراهيم أي المرجعية الشرعية، وهذا العربي اليوم هو بالثقافة من خلال اللسان. هذا العربي، من خلال الفخذ القرابي الآخر، ربما يكون مسلمًا وربما يكون مسيحيًا أيضًا، فالبعد ثقافي أكثر مما هو ديني وقومي من خلال اللغة بوصفها حضورًا وتأكيدًا للكينونة وللقوة، والدولة الإسرائيلية هي الحصان والجهاز الذي يجر كل ذلك التاريخ ـ الحاضر بشكل مستأنف.




وهذا المخزون الاحتكاري لإبراهيم على اعتبار أن هذه الجماعة التي كلّفت بحراسة هذا الصندوق، والتي تستعاد بأواليات دائمة، والتي تتغنى بشكل شعري من خلال الذكرى بالقتل والتعسف، وكأنها فعل تمجيد للاصطفاء. من هنا فإن فعل التذكير الدائم هو بالقتل والأضاحي، وهذه كينونة تعيسة لأنها قامت على شعور الضحية والمنافي والتعويض الذي لا يرتوي شبقه. ولا بد من لقاء مغاير مع إبراهيم، كما قدّمه كيركغارد في بعده الإنساني الإيماني، وكما يشير له المفكر فتحي المسكيني، باعتباره وعيًا أبديًا ولكن بتأويل آخر، مغاير للفهم الصهيوني "لقد كان إبراهيم أعظم الناس جميعًا، عظيمًا بطاقته التي لم تكن لها من قوّة غير الضعف، وعظيمًا بالحكمة التي لم يكن لها من سرّ سوى الجنون، وعظيمًا بالأمل الذي لم يكن له من شكل سوى الحماقة، وعظيمًا بالمحبة التي كانت كراهية لنفسه. إنّ الإيمان هو الذي دفع إبراهيم إلى ترك موطن آبائه، وأن يصير غريبًا في أرض موعودة، كأن ترك شيئًا هو عقله الأرضي، وأخذ شيئًا آخر هو الإيمان". أي بمعنى تخليص هذا الوعي ذات الهوية الأداتية للعالم، وكأن كل شيء متوجه صوبها، لأنها متمركزة على هذه الأنا المتعالية على كل شيء.

طوفان الأقصى وأزمة النخبة العربية مع "اتفاقية إبراهيم"
هذا الالتقاء مع إبراهيم لا يقوم مثلًا باتفاقيات سياسية كـ"اتفاقية إبراهيم" التي سُمّيت اتفاقية السلام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل رسميًا باسم معاهدة اتفاق إبراهيم للسلام، وكذا أطلق على اتفاقية السلام الموقعة بين البحرين وإسرائيل، وهما الاتفاقان اللذان رعتهما الولايات المتحدة وأعلنت عنهما في 11 سبتمبر/ أيلول 2020، لأن المشكلة أن هذه الاتفاقيات، منذ كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة، هي اتفاقيات اعتراف عربي بإسرائيل، لكن المشكلة أن إسرائيل لا تعترف نهائيًا بالعرب. من هنا الالتقاء مع إبراهيم يجب أن يكون لقاءً لاهوتيًا من خلال فلسفة اللغة بشكل وفهم آخر جديدين، لا التقاء سياسيًا غير متكافئ بين الحكومات العربية وإسرائيل التي ترى أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب الدياسبورا الذي هو بلا أرض. الالتقاء الجديد لا بد أن يقدم فيه فهم آخر مؤنسن داخل المؤسسة اليهودية، يأخذ بعين الاعتبار التأويل العنفي والعنصري والاعتراف بالآخر الذي يشترك بالإنسانية والحقوق كحد أدنى، فثقافة العنف لم تكن موجودة في أنساقنا قبل الاحتلال. كان اليهود يعيشون جنبًا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين في الشام ومصر، وكانوا أصحاب حرف وتجارة ولم يُرغم أحد منهم على اعتناق دين آخر، والسجلات المدنية تشهد على ذلك من دون إطلاق أحكام مسبقة، وهي الكذبة التي أقنعنا أنفسنا بها أننا نتلقى ما يقال عنا، كمقولات التعصب والتخلف والإرهاب من دون دراسة للبنى الموضوعية. بالعكس، فتاريخ الحواضر العربية مليء بالشواهد على وضع اليهود الممتاز، وتبوئهم مراكز في الحكم والإدارة، في الدولة الفاطمية مع ابن كلس الوزير اليهودي، أو في الدولة الأموية في الأندلس التي أعقبها تشريد اليهود بعد سقوطها. لهذا تكون ردة الفعل التي تمارس اليوم في أنماط عدة، في مجتمعاتنا، من خلال استثمار اجتماعي للدين بهدف إعادة تركيب هوية محطمة، بفعل فرض الهيمنة من الخارج والخضوع الاقتصادي والسياسي، فيصبح التنجيز الديني له طابع ملحوظ بوصفه مضادًا للإمبريالية، كما يشير عالم الاجتماع الفرنسي إيف غوسو في الحدود المتنازع عليها بين السياسة والدين في الدول المستعمرة.
مشكلة النخبة العربية الحاكمة أنها تقدّم وتقدّم ومن دون أن تأخذ على الأقل ضمانًا حقوقيًا للشعب الفلسطيني، لأن إسرائيل في الأساس لا تعترف بأي عنصر عربي، وهي ما إذا أقامت اتفاقًا فإنها تقيمه على أساس تبعية الآخر لها، وهنا إشكالية غياب أي مشروع عربي حقيقي.

كلود ليفي شتراوس (Getty)

لذلك فإن مؤشرات هذا الفعل السياسي العربي الهزيل والمهلهل هي في بنيتها إشكالية يصار إلى تأجيلها دائمًا، وهي أزمة النخبة العربية الحاكمة، لأنها تسمح للآخرين بالاستثمار على حقلها المتدافع، ولا تستطيع أن تمنع تدخل الدول الإقليمية (تركيا ـ إيران)، وهي لا تأخذ زمام المبادرة، وبالتالي تعطّل فعلها وتضعه في خلاء مجمد، فهو إذًا، فعل سياسي كأنه بين برزخ، بمعنى أنه فعل معلّق. وحماس، وإن كانت كنموذج فكري لا يعجبنا، لكننا لا نستطيع دائمًا وصمها بالعنف والتزّمت، فهي لا تعيش في النرويج أو السويد، وبالتالي تمارس هذا العنف، إنها تعيش في بؤرة الاحتلال والأسر والتعذيب وهدم البيوت والسجون والمجازر وفقدان الأحبة، وما استثمار الدول الأخرى فيها إلا مؤشر على غياب أي مشروع عربي يأخذ زمام المبادرة ويتخلى عن العقلية السابقة. فالإشكالية هي بالاحتلال أولًا وأخيرًا، وهذا ما ألمح له الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن طوفان الأقصى لم يأتِ من فراغ. فطوفان الأقصى نبّه بأن هناك شعبًا محاصرًا، ولا يوجد أي اعتبار علمي بوضع الضحية والجلاد على السياق نفسه.

التقاء الأسطورة مع التقنية وتوظيفها

الخوف ليس من التقنية والتقدّم التكنولوجي ومن الذكاء الاصطناعي، إنما من استخدام هذه القوة في تكبيل الضعيف، وضرب وجوده المعنوي والمادي، وهو ما تشهده الحرب الوحشية اليوم في فلسطين بعد عملية طوفان الأقصى، ومنذ أربعينيات القرن المنصرم. فأدوات هذا التحديث، وهنا المفارقة، هي في خدمة بنى العقلية التقليدية ولكن المغطاة بحجاب التقدّم، وهي اليوم تخدم أسطورة استرجاعية بروتستانتية أقامت تحالفًا ولقاءً مع مجموعة يهودية لها أسطورتها التي تقوم بطرد العرب وبناء هيكل سليمان لإقامة الأضاحي، فتكوّنت منهما الصهيونية العالمية، وأخذت في بريطانيا وعد بلفور، باعتبار أن هذه الأسطورة الاسترجاعية، والتي هي في الأساس كانت على علاقة بالنسق المجتمعي الأوروبي بإشكاليته مع اليهود (التاجر الذي يشتغل بالربى، والذي لا يندمج)، فالإشكالية هي بالعالم الأوروبي بين المجتمعات واليهود في تلك الأنساق، وهي بالطبع إشكالية سياسية تقوم على الهيمنة يوظّف فيها الثقافي والديني. وهكذا تلاقت الأسطورة الاسترجاعية التي تربط بين الخلاص وعودة اليهود إلى أرض الميعاد بوصفهم قتلة الرب، حتى يتم تنصيرهم، ومن أجل عودة المسيح. وهذه الأسطورة موجودة في وعي أصحاب رأس المال والتقنية والبيروقراطية في أوروبا البروستانتية التي قامت على فكرة الاستنكاف عن الدنيا بالعمل والادخار، بعدما كان ممنوعًا على اليهود الاختلاط مع المجتمعات، وتم وضعهم في غيتوات، ووضع قوانين تعسفية عليهم في أوروبا بسبب تمسكهم بهويتهم، تارة بطردهم، وتارة عند المصلحة، ويقوم، على سبيل المثال، كرومويل الذي كان الوصي على العرش في بريطانيا بإعادتهم، ولكن من أجل تمويل الحرب.
كانت دائمًا المصلحة والنسق المجتمعي هما الأساس للتعامل مع اليهود، مرة بتقديم البنى الفوقية (الأسطورة، بمعنى يجب إعادة اليهود)، ومرة بتقديم البنى التحتية (اليهود قتلة الرب) عندما يتم طردهم من المجتمعات الأوروبية، حسب الدراسة التي أقامها عالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري (1938 ـ 2008). وهذا ما جمع شخصيات الاستعمار للسيطرة على الشرق الأوسط ونهب ثرواته، مع شخصيات مثل فريدريك راتزل (1844 ـ 1904)، الذي توحي نظريته الحتمية في بعدها الطبيعي، بحتمية العودة إلى أورشليم، وهنا تداخل المقدس مع الطبيعي، وهذا ما نشهده اليوم بالدولة الإسرائيلية ذات القشرة العصرية، ولكن بمدلول قومي وعنصري ولاهوتي يحرك الفعل السياسي، وشخصيات كزعيم اليمين الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي (1880 ـ 1940)، وآحاد هعام (1856 ـ 1927)، ومنظّر اليسار الصهيوني دوف بير بوروخوف (1881 ـ 1917)، وهذه الشخصيات بدأت بلعب دور بوصفها ستقدّم خدمات للقوى الاستعمارية، أي لعب دور الكومبرادور من جهة لقوى الهيمنة، ولبدء تحشيد اليهود وتجميعهم بطرد الشعب الفلسطيني من أرضه بمساعدة الاستعمار الذي استوعب حسب الكاتب الصهيوني البولندي ناحوم سوكولوف (1859 ـ 1931) الحركة الصهيونية من خلال الطابع الإنجيلي للشعب الإنكليزي الذي يكن حبًا لفلسطين، وهذه الرافعة الاستعمارية انتقلت من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية. ونرى التحشيد الأميركي الفظيع اليوم، لأن إسرائيل هي الدينمو الأميركي في الشرق الأوسط، وقد قال الرئيس الأميركي بأنه صهيوني، بمعنى ليس من المطلوب أن يكون يهوديًا ليكون صهيونيًا، وهو بذلك يعبّر عن التقاء الأسطورة الاسترجاعية للبروتستانت، مع الأسطورة اليهودية التي شكلت الصهيونية لهذا الكيان. وكما هو مطلوب، فإن فعل الهيمنة الرأسمالية في حاجة دائمة إلى دوافع لتحريك الفعل، وعندها يصار إلى استثمار للديني والثقافي. وهاتان الأسطورتان وما يصاحبهما من امتلاك لشتى أنواع القوة، هما الدافع للهيمنة والسيطرة، من خلال تهيئة الظروف لنزع السحر عن العالم، كما ألمح إلى ذلك ماكس فيبر، ليصبح سهلًا القيام بأي مشروع ومخطط للتحكم من خلال أدوات العقلنة كمتغير تابع للبعد الميتافيزيقي الأساس.




جاء العالم الغربي، الذي كان مخلفًا اليهود كضحية، على حساب ضحية أخرى وهي الشعب الفلسطيني، ليضرب ضحية بأخرى، وليسخّر على أساس أسطوري كل بنى الحداثة التي خلّفت الهولوكوست، حسب ما أشار الفيلسوف زيغمونت باومان (1925 ـ 2017)، والآن فإن طوفان الأقصى كأنه تفجير للقضية الفلسطينية، وليذكّر العالم بالخطيئة التي تحاول فيها اليوم أجهزة القوة الأيديولوجية تصويرها كأنها هولوكوست جديد، لكنها على ما يبدو سوف تفشل، خصوصًا أن الأنساق المجتمعية والمعرفية في العالم الغربي، البعيد عن دوائر القوة بدأت تتلمس حجم الكذب واستثمار طوفان الأقصى كهولوكوست، إلا أن هذه العملية أتت بلحظتها من حيث قلب السحر على الساحر، خصوصًا ما تشهده أوروبا وأميركا من مظاهرات، ومن مؤثرين إعلاميين، ومن باحثين، وغيره من برلمانيين، في كيفية تسليطهم الضوء على المجازر التي ترتكب، وعلى سياسات الفصل العنصري والإبادة الجماعية وعلى التهجير والتهويد، وكأن كل عملية سلام في المنطقة رافقتها زيادة في الاستيطان والتهجير. أهمية طوفان الأقصى ليس بالتعاطف مع حماس، إنما مشاعر التضامن العالمية اليوم مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر عالمية تعد اليوم من أعظم القضايا المتبقية في العالم، عند كل إنسان يشعر بالمسؤولية أمام قضية بهذا التطرف العنصري، وبهذه الوحشية أمام الأطفال والنساء من قبل إسرائيل والعالم الذي يغطيها، والتي يشعر المرء أمام رؤساء هذه الدول كأنهم موظفون داخل صندوق لتحالف الشركات المهيمنة، وهو تحالف الأسطورة مع التقنية. من هنا فإن هذه القضية اليوم تخلق وعيًا عالميًا جديدًا سوف نرى تمثلاتها بشكل تعاقبي، وواهمٌ من لا يزال يحلل بأدوات الرؤية السابقة، أو بعين واحدة، أو بأطرهم ومرجعياتهم العصبية، وبالعدسات نفسها، لأن الواقع الجديد يفرض نوعًا جديدًا من التفكير انطلاقًا من الواقع.
ونحن عندما نقوم بنقد الغرب فإننا لا نضع الغرب بالميزان ذاته، نحن ننقد بنى الهيمنة والتحكم والسيطرة بتحويل العالم بشكل دائم إلى موضوع للتحكم، وليس الغرب الذي يشكله الشعب والنقابات التي ضُربت من قوى الهيمنة، ولا الأكاديميات والمفكرين النقديين، إنما ننقد سياسات التعسف، لأن اليهود ضحية أمام هذه البنى، فربما تأتي لحظة عندما تُستنفد وظيفتهم سوف تتم التضحية بهم من جديد. ونعود ونشير إلى أن الإشكالية كانت بينهم وبين ذلك العالم الذي أنشأ أيديولوجيا معاداة السامية، والمفارقة أن العرب الساميين متهمين بمعاداة السامية بكل تدليس. فإسرائيل اليوم هي هذه الهيمنة الخارجية لقوى السوق، ولكنها شكلها العاري العسكري الدموي، الذي يركّب الكذب على الكذب، ويولد من داخل الضحية ضحايا. إسرائيل ذات الأضحية التعسفية أضيفت لها أسطورة لتخدم أهداف الهيمنة والسيطرة والتي لا تعرف حليفًا، إنما تستثمر بالذي يكون تابعًا لها وتتخلى عنه عندما تنتهي وظيفته. وفلسطين اليوم، الذي يقرر فيها هو الشعب الذي رفض الاستسلام، فالقضية ليست قضية فصائل، وفلسطين لن تكون الكبش من جديد، وهذا هو فعل الحياة، أمام تكنولوجيا الموت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.