}

الإرهاب الناعم: في إجبار العالم على أن يكون صهيونيًا

سعيد نجدي 25 يناير 2024
اجتماع الإرهاب الناعم: في إجبار العالم على أن يكون صهيونيًا
"الملّا" بايدن، الضحّاك، الذي يذكّرنا دائمًا أنه صهيوني (غيتي)

ماذا يكون الإرهاب سوى أنه ضرب من ضروب الفرض والإكراه والإجبار والتنفير، على اعتناق فكرة أو سردية أو أيديولوجيا معينة، مهما اختلف شكلها وفصلها وسياقها، إن كانت مغلفة ومخرجة بمخرجات دينية أو قومية أو علمانية أو غيرها من المرتكزات العصبية التي تجبر الفعل وتكرهه على ممارسة أنماط من التفكير والسلوك؟ وطالما هناك نبذ وملاحقة ومساءلة وعنف جسدي، وحتى رمزي، تجاه كل مخالف ومعارض، فهي حتمًا تغدو وتتحول إلى ممارسة تعسفية انطلاقًا من أبعاد الهيمنة والسيطرة والإخضاع، فهذه الممارسة الإلغائية مأخوذة على التراتب والتناظر والتصنيف والتحديد والوسم والنفي بطريقة معيارية على مقاسات وأطر مرجعية محددة، والتي تملك خطابها الموزع على شتى مؤسسات القول والمعنى، وذلك انطلاقًا من موقع القوة الذي يأخذ مستويات عدة يصار فيها ببعض الأحيان إلى عقلنة الفعل، وأحيانًا أخرى إلى التفلت من العقلنة، وذلك عندما يكون هناك نوع من أنواع التهديد للمصلحة التي تسري في النسق العام الذي يحدّد الانتظام، فتتحرك أدوات النظام وموظفوه في تحديد المسموح والمكروه، وضباط السلطة الأمنية والعسكرية والرمزية، من "مثقفين ومحامين وبيروقراطيين"، على ممارسة شتى أنواع الترهيب بحق كل صوت آخر واخراجه من دائرة النسق العام، أي على القتل والنفي الرمزي.

في الإرهاب الذي يقوم على سلطة القول ومؤسسات الشرعية

اللغة عبر الكلمات تشير إلى شيء، إلى هناك، إلى خطاب له مراسيله التي تكشف عنه، والمنغمس في جو وبيئة هذا الخطاب إن كان يعي أو لا يعي فإنه يقول ويشير إلى اتجاه هذا الخطاب وما يحمله من نظام تعريفي للأشياء التي تمنح الشرعية، وبالتالي فإن الذوات هي الحوامل التي تنقل عبرها قوانين الأشياء المعرفة سلفًا. من هنا، إلى أي حد يكون الحامل له سلطة القول على المحمول، والتي يتحول معها الحامل إلى شيء أشبه بالرضاع الذي لا تتوفر حالات الإشباع إلا بهذا المحمول المستبطن الذي يستريح فيه لأنه أشبه بالرحم الذي يسكنه ويُشعره بهوية الإنتماء الهوياتي، فتصبح الكلمات أشبه بالسهام التي تطارد كل مخالف لنظام الخطاب، والذي يعمل على إحراج الخطاب بالأخطاء والاختلاف، وعلى هذا، تغدو إكراهات الخطاب تأخذ بعدًا إرهابيًا، طالما أنها تقوم على نفي كل قول آخر.

من هنا، وتأسيسًا على هذا الكلام السابق، نرى اليوم وسابقًا أن كل مخالف للصهيونية يُرمى بالحرم، من خلال أدوات القوة التي تأخذ شرعيتها من قوة خطابها واللغة السحرية التي تملكها أدوات القوة التي تهرّب إرهاب الأفكار في الخطاب، فيشار إلى هؤلاء بعصا الصورة التشويهية، التي تهمّش كل قول مغاير في مؤسسات الخطاب والإعلام والأكاديميا ومؤسسات توزيع الجوائز والمكافآة والغنائم والاحتفالات الشعائرية التي تنصّب أنبياء جددًا لغواية الناس بضباب الاستعارات والمجازات لخطاب الحقيقة المصنعة، وعلى ذلك، وخوفًا من كل تلك الدورة الاتهامية، من أن توجّه لهم تهم معاداة السامية، يصار إلى الجنوح نحو التواطؤ الأيديولوجي للمحافظة على الموقع والمكانة. والخطاب، كما هو معروف، ليس ناتجًا من ذات فردية بل إنه يحيل إلى مؤسسة في فترة زمنية تسري على البنى المعرفية وعلى الأطر الاجتماعية والثقافية والمعرفية، فهي من ناحية أخرى تملك منطقًا جوانيًا يصبح غائبًا بفعل خفاء مراميه وإكراهاته، لكنه يظهر بكل تعجرف وتطرف في لحظات التحشيد والفرز عند ظهور أزمة في النسق، خوفًا من فقدان السحر الذي يغلف الحقيقة بشكل عنيف، فقوة الخطاب هي في تحديد الحقيقة وتشكيلها على منوال المنطق الداخلي للمؤسسة، لأنه مدار الرغبة والسلطة.

لا يمكن عندما يتعرض شعب لهكذا إبادة أن يكون "المثقف" محايدًا ويصف ما يجري فقط بالصراع، كما فعل معلوف على إحدى المحطات الفرنسية، من دون التنبيه لما يتعرض له الشعب (الصورة: غيتي)


الأكاديمية الفرنسية من فوكو وبورديو إلى أمين معلوف

في الدرس الافتتاحي الملقى في الكوليج دو فرانس سنة 1970 م "نظام الخطاب"، يشير ميشيل فوكو من نفس الموقع السابق لأستاذه هيبوليت، إلى خطاب المؤسسات وكيفية تنظيم مراقبته وإخفاء ماديته الرهيبة، وإجراء الاستبعاد، وارتباطه بالسلطة.

وعلى نفس المنوال يفتتح بيير بورديو درسه الافتتاحي في الكوليج دو فرانس تحت عنوان "درسٌ في الدرس"، يحدد فيه كيفية عمل المؤسسات خصوصًا من منبر الكوليج دو فرانس، وكيف تندرج شعائر التبريز والتنصيب التي تحقق رمزيًا عملية التفويض التي يسمح بمقتضاها للأستاذ الجديد أن يتكلم بنوع من النفوذ فتجعل من كلامه خطابًا مشروعًا، والذي يتولد عن التبادل الصامت اللامرئي بين المرشح الجديد وبين الأساتذة ليشهدوا أن الكلام أصبح مبرزًا، وهي العلاقة مع المؤسسة التي تنزع حالة البراءة التي تسمح لنا بأن نقوم بكامل الرضى بما تنتظره منا المؤسسة، فالتاريخ الاجتماعي يعلمنا كيفية الهيمنة الحاضرة شأن الموضة الثقافية، وكمية المسبقات والحدود والرقابات التي تمارس في المؤسسات النخبوية (كوليج دو فرانس). من هنا يلمّح بورديو بأنه لا ينبغي أن ننتظر من الفكر الذي يرسم الحدود والنهايات أن يفضي بنا إلى فكر لا يعرف الحدود وإلا سيكون بعثًا لوهم كارل مانهايم بوجود فئة مثقفة لا تشدها روابط ولا جذور.

ويشير بورديو أيضًا إلى أنه لن يجرؤ أي عالم على خرق غلاف الإيمان الذي يغلف المؤسسات إذا لم يكن مؤمنًا بإمكانية التحرر إزاء المؤسسة كمؤسسة الكوليج دو فرانس وهو الوفاء اللائق الذي يجب أن تعمل عليه المؤسسة، وأن لا يلعب بنفس اللعبة من أجل الغنيمة والمكافآت، لأن الوظائف الاجتماعية أوهام، وأن طقوس المؤسسة هي التي تجعل ممن تعترف له بالدخول في المؤسسة ملكًا أو فارسًا أو قسًا أو أستاذًا فترسم له صورته الاجتماعية، وتشكل التمثل الذي ينبغي أن يتركه كشخص معنوي أو مكلف من لدن جماعة ناطق باسمها، لأن المتفرج المحايد لا يساهم بشيء، وإن أكثر المجالات الاجتماعية كمجال البلاط والأحزاب أو المجال الجامعي لا تعمل إلا إذا وجد أعضاء يستثمرون فيها أنفسهم ويوظفونها للحفاظ على بنيتها أو على تحويلها في بعض الأحيان.

ندخل إلى أمين معلوف الذي انتخب هذا العام أمينًا عامًا للأكاديمية الفرنسية (الكوليج دو فرانس) مدى الحياة، وقد شغل سابقًا المقعد رقم 29 الذي كان يشغله في السابق العالم الأنثروبولوجي والمفكر الفرنسي كلود ليفي شتراوس، بالإضافة إلى الجوائز والتكريمات العديدة، ولأن أمين معلوف يشغل منصبًا فاعلًا يستطيع أن يؤثر في البنى والمؤسسات العلمية والثقافية، على غرار ما فعله فوكو بنقد المؤسسات، وكذلك بورديو، خصوصًا في التعليم والتمايز الثقافي وكيفية عمل مؤسسة كمؤسسة الكوليج دو فرانس بشكل نقدي، وأيضًا على غرار كلود ليفي شتراوس في العرق والتاريخ والعنصرية الثقافية التي قام بنقدها والمركزية الحضارية الموهومة والاستعمار، وخصوصًا الاستعمار الصهيوني الذي أشار مرة إلى أنه لا يمكنني أن أستشعر عملية تدمير الهنود الحمر مثل جرح في خاصرتي، وأن أغض الطرف عندما يتعلق الأمر بعرب فلسطينيين، أي أن مواقعهم لم تمنعهم من ممارسة حقهم في التعبير عن بعض القضايا، وها نحن اليوم نعيش إبادة وتطهير عرقي في فلسطين على غرار إبادة الهنود. من هنا لا يمكن عندما يتعرض شعب لهكذا إبادة أن يكون "المثقف" محايدًا ويصف ما يجري فقط بالصراع، كما فعل معلوف على إحدى المحطات الفرنسية، من دون التنبيه لما يتعرض له الشعب، وأن لا يخرج عن أدبيات الخطاب للموظف الموكل له الاعتناء بالمفردات والاستعارات للثقافة فقط، وغير البريء في تمثل عالم السياسة، كما يعلمنا الدرس لبورديو وإلا بقي موظفًا غير فاعل، فالمثقف النقدي هو الذي يقول قولًا آخر غير متعارف عليه، خصوصًا إن كان مثقفًا كونيًا، غير "منتمٍ"، ولأنها قضية عدالة للشعب الفلسطيني وتحرر بوجه الاستعمار بغض النظر عن التوازنات السياسية.

ومن ناحية أخرى، لا يصح إغفال ما يرتكب من جرائم والتعامل بشكل عقلاني محايد معها وإلا دخلنا في أفق الهويات القاتلة، والتي اعترف بها كلود ليفي شتراوس، وهو يهودي أيضًا، وقبله حنة أرندت وهي كذلك يهودية، إلا أنه لم يُغفر لها واتُهمت بمعاداة السامية، بعدما كشفت في كتاب "أيخمان في القدس" دور المجالس اليهودية في التعاون مع النظام النازي عبر إعداد قوائم بأسماء اليهود وتسليمها للنازيين، وبعدما رفضت السمة العسكرية للدولة الإسرائيلية وارتباطها بالدول العظمى وتنفيذ مصالحها ونفي الأقليات الأخرى من قبل المشروع الصهيوني، والمضحك اليوم أنه سحبت جائزة حنة أرندت من ماشا غيسين لأنها تعاطفت مع أهل غزة، والتي وصفت فيها غيسين أنه ولنفس الأسباب كانت حنة نفسها ستحرم من الجائزة التي تحمل اسمها.

لم يُغفر لحنة أرندت واتُهمت بمعاداة السامية، بعدما كشفت في كتاب "أيخمان في القدس" دور المجالس اليهودية في التعاون مع النظام النازي عبر إعداد قوائم بأسماء اليهود وتسليمها للنازيين، وبعدما رفضت السمة العسكرية للدولة الإسرائيلية وارتباطها بالدول العظمى وتنفيذ مصالحها


الفكرة ورومانسية الإكراه

استدعت رئيسة اللجنة الجمهورية في الكونغرس الأميركي فيرجينيا فوكس كلًا من رئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي، ورئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سالي كورنبلوث، للإدلاء بشهادتهن في مسألة الاحتجاجات المعادية للسامية، ووقع المئات من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة المرموقة على رسالة دعم لكلودين غاي، بحسب صحيفة "بوسطن غلوب"، بعد استقالة نظيرتها في جامعة أخرى منضوية ضمن رابطة "آيفي ليغ" للجامعات العريقة، في مواجهة انتقادات حادة وضغوط سياسية بسبب مثولها في الجلسة، وجاءت هذه الضغوط للاستقالة والمساءلة في الكونغرس، وتهديد المانحين بإلغاء ملايين الدولارات على خلفية التعاطف مع غزة، ولكن هذا النوع من الإرهاب هو إرهاب ناعم وجميل لأنه يأتي من عالم القوة لأصحاب نموذج الأحلام في مصنع الصورة الأضخم وعبر السينما، وليس من طالبان أو جماعات إكراهية أخرى، تختلف بالشكل ولكن بنفس المدلول الإجباري، إلا أن إيقاعه مرتب ومنظم ومشرعَن بشكل أنيق وبهيج، لأنه يصدر من "الملا" جو بايدن (الرئيس الأميركي)، الضحاك البسام، الذي يذكرنا دائمًا أنه صهيوني، وآخرها في احتفاله بعيد الأنوار اليهودي (الحانوكا) وهو يتلو من التلمود آيات الهداية والإرشاد والوعظ على مسامع العباد على طريقة الشيخ والمريد، لإسكاتولوجيا العودة وأمراض الطفولة للجماعات اليهودية، ليس على طريقة فرويد بموسى والتوحيد المأخوذة من الطوطم والتابو الاختزالية للتاريخ، إنما على منوال الرغبة بالقوة.

حسنًا لا بأس، ليعتنق بايدن الذي يعبّر عن خلفية الهيمنة ما يريد، لكن إجبار كل العالم على أن يكونوا صهاينة فهو الإرهاب بعينه، وإلا جاءت تهم معاداة السامية التي يشير إليها المفكر سلافوي جيجيك بأن الصهيونية هي أصلًا معاداة للسامية، وهو الذي دافع عن عدنية شبلي التي كان من المقرر أن تستلم جائزة في معرض فرانكفورت للكتاب، ولكنها حُرمت منها لاحقًا بتهمة معاداة السامية.

والشبيه يعرف شبيهه أيضًا مع الرئيس الفرنسي الذي احتفل بهذا العيد ليؤكد الولاء والاتباع والإمتاع والمؤانسة والموادعة، في تعارض وجه له من أن الدولة الفرنسية العلمانية لا تقيم إحتفالات دينية في دوائرها الرسمية، ولكنه جاء ليؤكد على غرار الأمصار الأخرى أن هذا السنجق هو رأس حربة أيضًا، ضاربًا بعرض الحائط قيم الزمان والمكان، ليتماهى مع ما هو ميت، ويزداد قساوة تجاه الفئات الأخرى، وهذه هي حال شبيهه الآخر المستشار الألماني الموظف داخل صندوق النموذج الأحادي- الكلياني، الذي نفى كل اختلاف باتجاه تعميق الفروقات، والذي اشترط في ربوع الرايخ الألماني الكئيب الموحد الآن، اعتراف كل مواطن ولاجئ ومقيم بإسرائيل.

تماثيل القول العنصري

ومن جهة أخرى، يطل علينا هابرماس الفيلسوف النافل، الذي ربما اعتمد على سفر الخروج، وهو خروج العقل على أخلاقيات الفعل التواصلي في دفاعه عن إسرائيل. وهي ربما إشارة إلى هجران بومة كبيرهم هيغل، عندما يرخي الليل سدوله على العقل الذي أحلّه في الدولة الكليانية من خلال التنوير المجروح الذي أصابه في لحظة الصراع الألماني الفرنسي، والذي خلف إرهابًا بعد ارتطام العقل المجرد بالواقع الملموس، وهي لحظة شبيهة الآن تفرز ظاهريات لهذا العقل، الذي يغادره روح التاريخ المطلق.

من هنا، فإن هابرماس ضاقت مخرطته الفكرية على هذا المنوال من الاستنكاف إلى باطنية هذه الروح- الفلسفة ذات الخطاب الكلياني المؤسس على القول الواحد، لذلك تأتي معاداة السامية التي يحمل مشعلها هابرماس كاتهام ومضبطة للآخر. وإن معاداة السامية كما لاحظ كل من ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، (وهما يهوديان)، في كتابهما "جدل التنوير"، قد شرحت بمخرطة أوسع، ضمن حدود التنوير ذاته، بوصف اليهود موضوعًا وذريعة للسيطرة، وهذه الآلية للاختلاف المصطنع تؤثر على الابن الشرعي للحضارة القائمة على كره الأجنبي. وهذه هي المشكلة العنصرية بالأساس في البنى المجتمعية الأوروبية، والتي قرّر هابرماس أن لا ينظر فيها على غرار أستاذه أدورنو، إنما من مخرطة ضيقة جدًا لا تنظر إلا من زاوية تهميشية للشعب الفلسطيني صاحب الأرض المحتلة. من هنا، ومع هابرماس فإن الذات غير القادرة على إعطاء الموضوع بقدر ما تتلقى منه تفتقر بدل أن تغني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.