قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تكتف بتجويع أهالي غزة وتركهم جرحى ومصابين على قارعة الطريق بلا مأوى أو علاج، بل تريد أن تقضي تمامًا على ذاكرة غزة التاريخية، ومحو إرثها وأثرها الحضاري عبر استهداف مواقعها التاريخية، لتضيع غزة في غياهب النسيان، فتسقط من الماضي كما تريد إسرائيل إسقاطها من الحاضر أيضًا.
نددت وزارة الآثار في حكومة غزة بتدمير الجيش الإسرائيلي لمواقع تاريخية وأثرية عبر قصفه لقطاع غزة منذ أسابيع، ودعت منظمةَ اليونيسكو للحفاظ على الكنوز الأثرية المتبقية في قطاع غزة. ورأت وزارة السياحة والآثار في غزة أن جريمة استهداف وتدمير المواقع الأثرية ينبغي أن تدفع العالم واليونيسكو إلى التحرك لإنقاذ هذا الموروث التاريخي الحضاري الأثري العظيم. وأكدت أن "الاحتلال يتعمّد ارتكاب مجزرة بحق الأماكن التاريخية والأثرية في البلدة القديمة وسط غزة ليغتال التاريخ وآثار الحضارات التي مرت على قطاع غزة منذ آلاف السنين".
الدكتور محمد السقاف، وكيل الهيئة العامة للآثار والمخطوطات في اليمن، قال إن حماية التراث الثقافي في غزة مسؤولية دولية استنادًا إلى اتفاقية لاهاي لعام 1954، والبرتوكول الأول لحماية التراث في أثناء النزاع، والبرتوكول الثاني لعام 1999.
وأكد السقاف في تصريحات لـ"ضفة ثالثة" أن ما تقوم به الصهيونية في غزة، من إبادة وتدمير ممنهج للهوية الثقافية الوطنية الفلسطينية، "يعد انتهاكًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان، ويتطلب هذا الأمر اصطفاف المنظمات الدولية ذات العلاقة كي يكون لها موقف من هذه الأفعال التي تستهدف التراث الإنساني العالمي، وتبني موقف دولي في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وإدانة الصهيونية العالمية، ومن يقف وراءها للقيام بهذه الانتهاكات الجسيمة التي تعد جرائم حرب ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي".
وبحسب المرصد الأورومتوسطي، استهدف الجيش الإسرائيلي ثلاث كنائس تاريخية في قطاع غزة، لا سيما كنيسة القديس "برفيريوس" العريقة، التي تعد أقدم كنيسة في غزة، ويعود تاريخ البناء الأصلي للكنيسة إلى عام 407 ميلادية فوق معبد وثني خشبي يعود لحقبة سابقة.
بموازاة ذلك، تعرضت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة، وفيها 146 بيتًا قديمًا، إضافة إلى مساجد وكنائس وأسواق ومدارس قديمة وتاريخية، إلى تدمير شبه كلي في هجمات جوية ومدفعية إسرائيلية.
ودمر الجيش الإسرائيلي موقع البلاخية الأثري، وميناء غزة القديم- "ميناء الأنثيدون الأثري"- في شمال غربي مدينة غزة، والذي يعود بناؤه إلى 800 عام قبل الميلاد، وكان يعد من أهم المعالم الأثرية في غزة، وهو مدرج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، ولائحة التراث الإسلامي.
إلى جانب ذلك، دمرت طائرات حربية إسرائيلية "بيت السقا" الأثري في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي يعود تاريخ بنائه إلى 400 عام على مساحة كانت تبلغ 700 متر.
وتم رصد أضرار متفاوتة لحقت بمواقع تراثية أخرى، مثل موقع تل أم عامر "دير القديس هيلاريون"، الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 1600 عام، وبيت "الغصين"، وهو مبنى تاريخي يعود إلى أواخر الفترة العثمانية، وحمام "السمارة"، الذي يعود تاريخه إلى عام 1320م على الأقل.
بحسب الدكتور السقاف، فإن غضّ المجتمع الدولي لبصره عما يحدث من انتهاك التراث الحضاري والتاريخي في غزة يعد جريمة دولية متكاملة الأركان تشترك فيها كل الأطراف المعنية "حيث سيصبح من المستحيل تقريبًا إعادة ترميم هذه الآثار في ظل عمليات القصف المتواصلة. هذا الصمت الدولي المخجل لا يعني سوى إمعان الكيان الصهيوني في قصف مزيد من المواقع الأثرية في غزة، لتصبح المدينة التاريخية بكل ما تملك من تاريخ وقداسة في مهب الريح، وعلى وشك الانهيار في الحاضر والماضي".
يختتم وكيل الهيئة العامة للآثار والمخطوطات في اليمن حديثه لـ"ضفة ثالثة" مؤكدًا أن تصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الشهر الماضي، بشأن قصف غزة بقنبلة نووية، لم يكن وليد الصدفة، "بل تبعته استهدافات ممنهجة من جانب قوات الاحتلال للتراث في غزة. في الوقت نفسه الذي يشهد إدانات دولية خرساء من دون تقديم يد العون للمواقع التاريخية التي تواجه واقعًا على قدر من القسوة والحدة غير مسبوق من قبل، لتظل غزة بمفردها تواجه العدوان الغاشم من جانب المحتل الصهيوني، الذي لم يقو حتى على مواجهة الحجر الشاخص أمامه، فقرر استهدافه وقنصه، تمامًا كما يفعل مع الأطفال والنساء، في محاولة يائسة وبائسة لاغتيال التاريخ الغزاوي، غير أن العودة إلى التاريخ تخبرنا بعكس ذلك تمامًا"...