تحت عجلات الترام، وبسبب حادثة قاسية تسبّبت في بتر ساقيه، ترك الروائي والقاص المصري رفقي بدوي حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم وقتذاك لينغمس في القراءة ويصبح واحدًا من أبرز كتّاب القصة القصيرة، عبر عدد من الإصدارات القصصية التي لاقت حضورًا نقديًا وجماهيريًا جيدًا، في حين ظل الحزن رفيقه الأبدي حتى النهاية، ليرحل أخيرًا في هدوء كما عاش، عن عمر يبلغ الرابعة والثمانين.
كان الحزن رفيقًا له ومحفّزًا للكتابة. يقول في حوار نادر له: "الحزن كان ثالث محفّزات الكتابة. فقد كان الحزن كثيفًا، وكانت الكتابة دواء ذاتيًا، ناقشت الحروف فتشكلت قصصًا قصيرة بعد نكسة 67، وقامت الكتابة بإعادة صياغتي بعد بتر قدمي، وتحوّل الحلم من القدم للرأس للقصة".
بحسب بدوي، ارتبطت تجربته الإبداعية بتجربته الحياتية؛ "حين كنت طفلًا أعيش طفولتي بقوة، كنت أفرغ طاقتي في لعب الكرة، ففي سن الثالثة عشرة كنت اللاعب الأساسي بفريق كرة القدم بالمدرسة وأنا بالصف الأول الإعدادي، وكانت قدمي اليمني شديدة التصويب، وكأنها تمارس العزف بالكرة، أما رأسي فكان يؤلمني لدرجة أنني كنت أحس أنه سينفجر من الداخل، لعدم مفارقته للحلم، كنت أشعر داخليًا بالظلم الاجتماعي، وكنت أتمنى وأطمح إلى تحقيق العدل الاجتماعي بدون أن أعرف كيف، وكان مثالي في ذلك الوقت اللص الشهير محمود أمين سليمان الذي كان يسرق الأغنياء ويوزّع ما يسرقه على الفقراء".
يتابع بدوي: "قبل أن أبلغ الرابعة عشرة، وفي 15 شباط/ فبراير 1964، سقطت تحت عجلات الترام، فبُترت قدماي اليمني واليسرى، لكن رأسي حتى في لحظة الحادث نفسه كان يعمل ويحلم وكنت قادرًا على تحريك أصابع قدمي بإشارات عقلية ولما لم أعد طفلًا جميلًا رشيقًا، ولما أصبحت محمولًا علي ساقين صناعيتين، لم تعد الكرة حلمي ولم يعد طريق محمود أمين سليمان طريقي، فصرت عاجزًا عن تحقيق أجمل الأهداف وتطبيق العدل الاجتماعي بيدي".
وعن استمراره بعد هذا الحادث يقول: "انطويت على نفسي التي لم تعد تملك سوى الحلم، فكنت أمكث بالساعات أمارس لعبة الأوامر العقلية، فأعطي الأمر لشبكة الجهاز الحركي بعقلي بتحريك أصابع القدم اليمنى أو اليسرى، أن أضع الخنصر فوق البنصر، أن أقيم من جزئي المدفون علاقة بباقي الجسد الحي، الذي يحمل في أعلاه رأسًا به عقل يُلح في السؤال والتفكير والحلم.
كانت القراءة بعد الحادث هي المحفّز الأول، فقرأت جميع أعمال دوستويفسكي وتشيكوف وكازنتزاكي وهرمان هيسه وهمنغواي وهوغو وجان جاك روسو، وحياة فان غوخ ونجيب محفوظ وسعد مكاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم ومحمود البدوي وغيرهم، ثم كان الحزن ثالث محفّزات الكتابة، فلقد كان كثيفًا".
كانت مجموعته القصصية "القابض على الجمر" هي أول الأعمال التي لفتت الانتباه إلى قاصّ قوي، حيث نجحت محاولاته الأولى لامتلاك اللغة، ثم كان التأصيل الحقيقي في مجموعة "صباح الحب الجميل"، فاللغة عنده أشبه بشحنات روحية وامضة تقتحم قلب وشعور وإحساس المتلقي دفعة واحدة بدون أن يكون لهذه اللغة صدع في لغة الآخرين، فنجح في تتبّع لغة على درجة عالية من النفاذ والشفافية الفنية والاقتصاد اللغوي، بحيث لا يجد فيها القارئ جملة أو كلمة زائدة.
كانت اللغة تحدّيًا لوهم كبير لدى بدوي، حيث كان يؤمن أنه لا بد من تطهير الذات وتطهير المتلقي من هذا الانتهاك الخطير، والعودة باللغة إلى بكارتها ومصداقيتها، فلم يكن يحرّض القارئ، بل يتركه يجاهد معه، ويشاهد المساوئ التي هي في الوقت نفسه مساوئ القارئ، فنحن جميعًا في حالة واحدة، حالة تدنّ، ولا حلّ إلا بالتطهّر، بحسب تعبيره.
تطورت الكتابة عند بدوي من ذاتية إلى جماعية، "فذات الكاتب ذات النحن، وبالتالي فهي قادرة على العراك مع الواقع، أو إعادة صياغته بعدما تفرّغ من صياغة ذاته المفردة أولًا".
هكذا انطلق بدوي من الحزن، حزنه وحزن الآخرين، من عجزه الشخصي إلى عجز الآخر، متشبثا بقناعة أن الزمن الخالد هو الزمن الماضي الذي يطوى الحاضر والمستقبل كطيّ السجل للكتب، ويحيله إلى خلود.