}

نظير الشر السائل أو كيف امتد الشر وتمدّد؟

منور بوبكر 28 ديسمبر 2023
اجتماع نظير الشر السائل أو كيف امتد الشر وتمدّد؟
"انتصار الموت" لبيتر بروغل الأكبر (1560)
هل الشر مرتكز أصيل يطبع وضعيات الكائن البشري؟ نظرًا لهشاشة هذا الأخير، ومحدودية قدراته، في سبيل تسوية المعضلات التي تواجهه، واختراق الأزمنة، وتسجيل حضور مشرف، يناظر طموحاته في مراحل تاريخية مر منها. انفصال واتصال بين صور الخير والشر، وبين تمثلاتها ورمزياتها، إلى درجة قد نتصور من خلالها أحيانًا، أن الفضيلة مجرد قناع يداري به أهواءه ونرجسيته، ووثوقه القوي في قدرات العقل، وفي مقدرات الكون، لارتياد مباهج الكمال، وتحقيق الأمن والطمأنينة، ورغد العيش الموعود. بيد أن نطاق التفاعل، وأزمة الأزمنة، واقتضاء الحاجات النفعية، حولت النعمة إلى نقمة، جعلت الصور البراقة، والآمال المنشودة، مجرد برق خلب، يخدع الأنفس والأبصار، إلى درجة ترسيخ أقنوم الشر، وسلطة الشيطان، أو على أقل تقدير إثارة محتوى العمى الأخلاقي[1]، في أمداء سوسيوجغرافية متعددة، هي قاب قوسين أو أدنى من وجدان الإنسان، ومن فكره، لقدرتها على توجيه حالات اختياره وانوجاده.

فمما لا شك فيه، أن زيجمونت باومان، وليونيداس دونيسكيس، حينما أرادا وضع خريطة لأهواء العالم، استندت في عمقها على مدرك واقعي، تحكمت فيه ثنائيات متعارضة، مثل الضوء والظلام، والحق والباطل، والقبح والجمال، والوحشية والإنسانية، والحقيقة والزيف، والعلم والجهل، والتخلف والتقدم، والصداقة والعداء، والعقل والعاطفة[2]، فإن تصورهما صدر انطلاقًا من توازنات قيمية صلبة، هي في الأصل مؤطرة بإسنادات عقدية إلهية، أو اقتناعات أيديولوجية بشرية، مثلت طاقة موجهة واقعية، لأن مركزَها قوي، حاز تماسكه من قوة التوجيهات الإلهية، ومن قيمة التنظيرات البشرية، إذ استطاعت على مدار حقب زمنية، تحديد الهويات، وتوجيه الاقتناعات. إلا أن الأمر سرعان ما تبدد، بعد موجة شك وارتياب، حولت القيم من حالة صلبة، إلى أخرى سائلة، أحس فيها الإنسان باغتراب قاتل، نتيجة صور ظلم متباينة الأبعاد، واستغلال، ومظاهر أسى، تكررت أنماطها وتعددت، إذ أضحى يحس بانصرام مقاليد تحقيق الفردوس المنتظر من بين يديه، لصالح ترسيخ مظاهر الأرض اليباب، إلى درجة سوغت إثارة الحديث عن شر أسود مستطير، لعله بداية استتباب مرحلة الشر السائل.

إذًا، كيف امتد الشر وتمدد؟ أَلأنه خِلة في الإنسان جُبِل عليها؟ أم لأن آفاق النظير جفَّت، ولم تعد مغرية؟ بحيث بلغ العقل مأزقًا، أفقده وَهَجه، وشرط استتباب مظاهر نشوة أحسها الإنسان، حينما غدا معادلًا موضوعيًا، تحكمت قصدياته في منابع الكون، وفي أهم مقدراته. وثمة بات من الضروري تفسير مظاهر الشر بشكل موضوعي، وبآليات علمية، لوضع تصورات ناجعة، قد تفيد الإنسان، في التحكم فيه، وتقليل آثاره، لعل السبيل يصبح سالكًا لتحقيق فردوس أرضي[3]، مخفف من الأزمات، ومن كثير من مظاهر أسى، سببت نكبات متوالية، وأزمات نفسية عميقة، بل وفسحت المجال أكثر، لشرور أشد وأنكى، لأنها اتخذت أحيانًا تمظهرات متوارية، لا نستشعر خطورتها على الأمد القريب.

عصر السيولة، والتطبيع مع الشر

مُذ ازدادت الرغبة في كبح جماح الذات، وتقليص وَقْع المعطيات الوجدانية المتصلة بها، وغير المتحكم فيها، ترسخت فكرة الاطلاع على عوالم الإله الخفي، أكثر فأكثر، إذ تعلق الأمر بتحيين خاص، توخى في عمقه، إزاحة الغموض عن النصوص، وعن حياة البشر بصفة عامة، لأن فهمها هو تجسيد فعلي، عبر تأويلات لا متناهية، لفهم حقيقة الإنسان، ومعرفة كنهه، واقتناعاته العقدية والأيديولوجية، وبالتالي توقع خطواته المستقبلية، بواسطة تمثيل محكم، لأهم مفاعلاته الفكرية والوجدانية، لأن الوقائع الحسية والمجردة، ستكون بمثابة خارطة طريق، نستوعب من خلالها تناقضات العالم، ونرسم بفضلها معالم طريق آمن، تحظى فيه الأجيال بإمكانية التخلص من الشرور، نظير سيرورة خير، تتكثف معها رويدًا حالات الطمأنينة، وتقليص مظاهر الصراع، في أفق استتباب نظام عيش متجانس، وعادل، يحظى فيه الجميع بحقوق الإنسان، وكرامة العيش، بما يستجيب لغايات الوجود، ويضمن شرط الخلاص المنشود.

تصاديًا مع الذي مضى، ظهرت سرديات تاريخية وأيديولوجية كبرى، ادعت من خلال أنساقها المختلفة، القدرة على بناء الحدود الممكنة لفهم واقع الإنسان، والتحكم فيه، وتوضيبه، بما يضمن رغد عيش هذا الكائن المتفرد، وكانت المعطيات الأولية كلها تشير، إلى خلق نظام عقلاني متجانس، يضمن الحقوق، ويحفظ المصائر، وينور البصائر. سيما بفضل التطور العلمي، وتوطيد عرى التكنولوجيا، سعيا لإشباع رغبات البشر، وإسعادهم، وإضفاء المشروعية على ادعاءات الإنسان لترسيخ فكرة التحرر، وتحويلها إلى واقع، ليس له دافع، إذ تم ذلك كله في لمح البصر، وباندفاعة قوية، لم يملك أحد القدرة على التحكم في وتيرتها، ما جعل الأمر ينقلب وبالا، من حيث لم نحتسب.

هذا الوضع المنفلت، قاد: "إلى تغول المجال الخاص، والأجندات الشخصية، وهي النقلة التي تمت في مشهد الحداثة في العقود الماضية... وصولًا إلى التدخل في الحياة الشخصية في ظل نظم سلطوية، ثم سيطرة السوق الرأسمالية على الثقافة"[4]، فكانت مغبة الفشل تلك، داعيًا إلى ضرورة إعادة تشكيل الهويات، والوعي بأبعادها، سيما مع اضمحلال نموذج الإنسان المواطن المؤمن بالحقوق والواجبات، الذي لا تكتمل سعادته إلا بسعادة الآخر، لصالح الإنسان الفرد، المستهلك الشره، المطوق بطموحات ليبرالية لا تتوقف، ولا تخوم لها. إذ تنوعت حالات الصدام بين النظم السياسية، والاقتصادية، واللاهوتية، بل والاجتهاد من أجل إيجاد مبررات لأبشع الحالات تعنتًا، وأقصاها تطرفًا، وتنكيلًا بمبادئ الإنسانية. فتراوحت هذه المقتضيات بين توجهات رأسمالية ليبرالية، وأخرى اشتراكية، باستقطاب طبقي بروليتاري، إلى جانب معطى يهودي صهيوني، تحكم في توجيه جملة من أحداث العالم. هكذا لم يعد الأمر غريبًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أن تظهر فكرة نهاية التاريخ، كما روج لها الكاتب الأميركي من أصول يابانية فرنسيس فوكوياما، انتصارًا للنظام الرأسمالي الغربي، باعتباره نموذجًا أوحد لا يمكن أن يُضاهى. هنا تغيرت البدائل، وتعمقت سطوة القوة، ونظام القطب الواحد الأوحد، إضافة إلى ما رافقه من تغيير في القيم، تعلقت أساسًا، بنموذج الإنسان المستهلك النهم، وهيمنة المركزيات الاقتصادية، وطاقات الإنتاج القصوى، التي كانت لها اليد الطولى، في إيجاد الأنظمة، وإسقاطها، ورسم أحلام الشعوب، وتسويق النماذج، والصور النمطية، حتى إن تطلب الأمر تزييف الحقائق، وتوجيه الوعي، بما يخدم نمط السرديات المشتهاة.

زيجمونت باومان وليونيداس دونيسكيس


هكذا، يقودنا واقع الأمر، إلى تفتيت مفهوم الشر، بداية من فكرة الخطيئة الأصلية الأولى، التي قالت بها المسيحية قديما، مرورًا بأقوال أخرى، لفلاسفة مسلمين، مثلما هو شأن المعتزلة والأشاعرة، وغيرهم، في إثارة موضوع علاقة الناس بأفعالهم، هل هي بالخلق أم بالاكتساب؟ إذ هناك تصورات كثيرة عالجت هذه القضية، ومباحث علمية بدورها قدمت إجاباتها عن مشكلة الشر، وعلاقتها بالسلوك الإنساني. هل هو مطلق؟ أم له فقط علاقة بنظيره المقابل، أي الخير؟ وما المفاعلات التي حركت الإنسان إزاء هذا المعطى، هل الأمر متعلق بتفكير عميق؟ أم بمجرد انفعالات متسلسلة قاد بعضها إلى بعض؟ وهل الإنسان مخير، أم مجبر في انتقاء مجمل القيم المشكلة لكينونته الوجودية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار الشر مجرد أمر طارئ، أم هو في الحقيقة خلة مطبوعة في نفس الإنسان، وفي أهوائه؟ وهل هناك حيلة يمكن أن ندرأ بها مخاطر الشرور بمجملها؟ كي لا نصل إلى أبعد نقطة، ألا وهي مرحلة الشر المحض[5]. بناء عليه لا يمكن الاستعانة بإجابات تاريخية، تولى أمر معالجتها مفكرون وفلاسفة من مختلف المذاهب، والمشارب، والملل، والنحل، دون أن نوجه نظرنا إلى الفترة الحداثية بالذات، لنستجلي علاقة الشر والخير فيها، وكيفية استنبات مختلف الردود المتعلقة بهما. فقضية الإجابة التاريخية نراها مستحيلة الآن، لوفرة المداخل والتصورات، التي وسمت فاعلية معالجتها، انطلاقًا من سيرورة زمنية طويلة، تعذرت الإحاطة بأهم مرتكزاتها في هذا السياق. لذا لا ضير أن نُذَكر بوعود كثيرة التزمت الحداثة تحقيقها، من أبرزها الخير العميم الذي وعدت بني البشر به، لكن في أفق احتدام العقلانية، وانتشاء الإنسان بمنجزاته، ووفرة الإنتاج التي حققها، ما فتئ أن فُتِح المجال أمام المصالح الذاتية، والنفعية، والبراجماتية، التي تحكمت في أبرز توجهاته، إلى درجة أصبحت معها بعض القيم من قبيل الفضيلة، والتضحية، والخير، والإيثار، مجرد سراب، يحسبه الظمآن ماءً، وهو ليس كذلك، لأنها في أساسها  مثلت عامل ارتكاس، كبح جماح الثروة، ووفرة الإنتاج، فهي في نهاية المطاف، قدمت مسوغات لنظم أخلاقية لم تعد ذات جدوى. لهذه الأسباب وغيرها، غدا: "الشيطان في السياسة ليس مجرد خيالات بل إنه تجسد في أشكال كثيرة، أحدها هدم وتدمير نظام أخلاقي كوني، أو على الأقل نظام أخلاقي قابل للحياة والنمو والتطبيق"[6]، ولم لا، السير إلى أبعد حد ممكن، بمحو الذاكرة الإنسانية، وحصيلة الشعوب المثمرة، التي امتدت أحيانًا أزمانًا، ولفترات تاريخية ممتدة، بما مثله تراثها المادي وغير المادي، بل والتشطيب نهائيًا عن الحس الأخلاقي، باستثمار مختلف المبررات الكائنة والممكنة، حتى استطاع البعض التسويغ لممارسات لاإنسانية، ببراعة مذهلة، جعلت  أصحاب الحق في حيرة من أمرهم، إذ تطورت الأساليب، وتعددت المبررات، في التعاطي مع الألم، ومع معاناة الإنسان، بانتقائية خاصة، سوغت التعاطف مع أنماط معينة، والتخلي بكل صلافة عن صنواتها الأخرى.

تصاديًا مع ذلك، اضطلعت الميديا بدور فعال، في توجيه الرأي العام، بالترويج للعنف، ولمظاهر الفظاعة، والوحشية، كي يغدو أمرُ سَفْكِ الدماء، وإراقتها، واقعًا معتادًا، ليخلق هذا: "حالة من تسكين الشر في التفاصيل اليومية حتى تتشربه النفوس"[7]، إذ بهذا المنطق، أمكن للشر أن يصبح مألوفا، بتحوله من حالة الصلابة إلى السيولة، وبالتالي يتم قبوله ببساطة تامة، بل والتعايش مع أنماطه كأنه غاية أساسية. هكذا، لا غرو أن تصبح الحروب– التي كانت مستكرهة في الحقب الإنسانية جميعها- ضروريةً، بل وفرصة لتحقيق المكاسب، رغم آلتها الفتاكة، وقوتها التدميرية، التي تأتي على الإنسان، وعلى الأخضر واليابس، وتحول الحواضر إلى خراب، بحيث يصبح واقعها قاعا صفصفا، كأنه لم يكن إلى حين من الزمن مفعما بالأنوار والعمران. فالأمر موجه بمصالح اقتصادية كبرى، وبمنطق نفعي، يقع خارج إرادة الأفراد، وما تشتهيه الأنفس. لذا لا يسعنا إلا الدعاء، بمنتهى الحس الإنساني، من أجل تجنب واقع مأساوي محتمل، قد يتحول بين الفينة وصنوتها، إلى حرب الجميع ضد الجميع[8].



حال الشر والسلم، حتمية التطلع إلى البديل

في إطار الوعي بمرحلة نعي القيم، ومحاولة الانتقال من واقع اللابديل، إلى جوهرية النظير، اعتبارًا لفاعلية البديل. واستجابة لأفق محورية عليا، تحتفي بأصل الحقائق، ومنطق المبادئ، في ركب ملاحقة أنساق قيمية، لها استشرافات مستقبلية، بحيث تكون بوصلتها الوحيدة إنسانية الإنسان، وانسيابيته بطمأنينة في محيط عيشه. تفاعلا مع ذلك كله، تعددت البدائل، من أجل طرح فكرة تتعالى عن قصديات متوهمة، ترصد في عمقها منظومة الشر السائل، ومنطق استشرائه، بما توحي به دلائل ذات طبيعة خاصة، كأنها في مرمى عين، عن أهواء الشيطان، وتفاصيله. فالمؤشرات كلها، تدل على أن تحقيق المصالح، والحب النرجسي للذات، هو مدخل الشرور جميعها، كما أن الجهل بدوره غذَّى المعضلة، لأنه في أصله انحراف، وتعصب وتطرف، ووقود حيوي للظواهر السابقة. هذه الحيثيات وغيرها، أمكنها أن تقود إلى عنف حتمي مجهول العواقب، وغير متحكم فيه، ذي أبعاد مدمرة للذات وللغير.

هكذا، تضمنت عناصر البناء أصنافًا من طاقات القوة، تؤول بمختلف أصنافها، إلى تحليل مظاهر الشر في الواقع، سيما وأن أشكاله أضحت متحولة، طرأت عليها تغيرات جذرية، حولته من حالة الصلابة، إلى وضعية السيولة. بحيث استجدت حالات، وتغيرت تأطيرات وقوانين، جعلت التقاط الصور المعهودة أمرًا متجاوزًا، غير مستدرك النتائج، ما حتّم تجديد الوعي، وتطوير آليات التحليل، وتبني أصناف مختلفة في طرق التفكير، من أجل معالجة الظواهر بفعل نقدي، يحتمي بالظواهر المستجدة في الواقع، وبمكاسب السياق، بما يمنح القدرة على رصد مواطن الشر، وبواطنه، وفهمها فهما مستفيضًا، استجابة للمصالح المتحكمة، ولنرجسية فادحة، ومظاهر شره استهلاكي، وجسارة في تجاوز منظومات القيم، واعتماد أساليب التشظي، والعبث، واللانسجام، واللانظام، والتشكيك، والتقليل من هيبة المؤسسات، فما "يبدو اليوم، بذات الطريقة بالضبط، أنه يكتفي أن تعترف بقوانين الضرورة، كي تنهار مفاهيم النفس، والخير والشر، والمؤسسات الحكومية"[9]، وغيرها من مؤسَّسات ومؤسِّسات، تتولى أمر استتباب القيم، والصهر على مناولتها بشكل ناجز يعم خيره الجميع، سيما وأننا نعيش في عالم، لو توفر له أدنى منسوب من الحكمة، لأمكنه استقطاب التعدد، واحتواء الاختلاف، واستتباب نجاعة الحوار، في أفق رأب التصدعات، وطمر الخلافات والصراعات، باعتبارها خطوة أولى في مسار نشر العدل، والخير، والأمن، والطمأنينة.


بناء عليه، كلما رام الشر ترسيخ مظاهر التمزق، والتفكك، والارتياب، في غفلة منا، غدا أكثر خطورة، مقارنة مع أبشع صوره الماضية عبر التاريخ، لأنه في مثل هذه الحالة أمكنه التحكم في خانات اللاوعي، وتوجيهها، ليستشري بانسيابية، وسرعة منقطعة النظير، تتعذر معها الظاهرة عن التشخيص، ليصبح الأمر متواريًا، يستبطن عددًا ضخمًا من الأبعاد توجب الوعي بها. فإذا كانت صور الشر في السابق، ملموسة ظاهرة، ذات مرتكزات واضحة، فإنها أضحت سيالة متملصة، استحال إدراكها بسهولة، نظرا لقدرتها المخاتلة، وإجادتها في المقابل لعبة الأقنعة، بغية إثارة الرغبات، والأهواء، والهواجس، انصياعًا لمظاهر الوهمي، والمزيف، والافتراضي. تأسيسًا على ذلك، يتوهم الإنسان في أحيان كثيرة، أنه اضطلع بأدوار فاعلة، وحقق إنجازات وانتصارات، لكنها لا تعدو عتبة عوالم افتراضية بحتة، تحيل في جوهرها على التراجع، والارتكاس، بل هي نقلة نوعية من حالة واقعية، إلى أخرى وهمية، لا يحصد منها سوى الأوهام، وتضخم الذات، وأقصى صور الفشل والخذلان، إذ من الطبيعي أن تكون النتائج على هذه الحال، وفي هذا المستوى، العاري عن الحقيقة، حينما نعتد بإنجازات صورية، وأنماط في الحياة متخيلة مشتهاة، تمثل في الواقع مدخلًا بديهيًا لشجب البدائل، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام مرحلة اللابديل. بذلك: "صارت حريتنا اليوم تنحصر في الاستهلاك والوجاهة، وفقدت الارتباط بأهم شيء، ألا وهو الإيمان بأنك يمكن أن تغير شيئًا في العالم"[10]، مع هذا التحول، من الطبيعي أن يتم الترويج لمفاعيل سرديات من نوع خاص، لا تحمل في عمقها إلا الوهم، والكوابيس المزعجة، وصور ارتكاس رائجة، تمهد السبيل أكثر أمام الفاشلين والتافهين، وتشجعهم على التمادي، باعتبارهم نماذج إيجابية، من المتعين الاقتداء بها، بل من المحمود فعل ذلك. حظوة اضطلعت بها الوسائط الاجتماعية، بمختلف شبكاتها، سيما مع التطور التكنولوجي المهول، الذي يسر مهمتها، فاندثرث الخصوصيات، ومظاهر الحياة الحميمية، لصالح استعراض الذوات والممتلكات، دون تمحيص في شرعيتها، وجواز عرضها. فالقضية في أساسها تعلقت بقصور عام أصاب الوعي الجمعي، إنه بالفعل وضع مزعج انصاع إليه المآل، في ظل غياب بوصلة حقيقية، ومؤشرات وعي، تَفْصل بين الوهمي والواقعي، والخير والشر، والجهل والعلم، والكرم والسفه، والحقيقي والافتراضي، والخاص والعام.

فلا مناص إذًا، من أن تتحول القوة الطاغية للاستغلال، ولوسائل الإنتاج، إلى نظير مغاير، بالاعتماد على طاقات بانية لسياسة ثقافية حقيقية، يجمع الكل على أهميتها وضرورتها، لأن التحولات العميقة، لا تتم إلا بواسطة رؤى وازنة، أولويتها المطلقة إنسانية الإنسان، والحفاظ على الكون ومقدراته، باعتبارها أمانة، توجب تحصينها لصالح الأجيال القادمة. وأي منطق لا يستقي مبرراته من عمق هذه التوجه، محكوم عليه بالفشل الذريع، وإن على الأمد البعيد، سيما بتزايد فجواته الحضارية، بحيث يدفع الجميع ثمنها الباهظ، وعلى رأس القائمة الأبناء والأحفاد. إنه مسح استشرافي لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، اقتضى الوعي بالبدائل الحضارية، وترسيخ أنماط إيجابية، تنطلق من الواقع، ومن ظواهره المستجدة، لامتلاك آليات تحليل ناجع، لأبرز المعضلات، وأكثرها تعقيدا، بما يستجيب لخلق حالات نظيرة، تنزاح صورها، وأنماطها، عن النماذج الفاشلة المعهودة. لأن حقيقة التنظير الحضاري، تبدأ من فحوى التدقيق في أصل العمران، وجوهر التجمعات البشرية، لمعرفة التغيرات الطارئة، والانتظارات المقبلة، لتقديم خلاصات موضوعية، لا تحيد أبدًا عن جوهرية الفعل المبدع البناء.

فأي ممارسة دائمة، لا بد أن يصاحبها وعي فاحص، لأهم المضافات الحضارية الطارئة، لأجل ذلك، مثَّل الاعتماد على مصادر فكرية وعلمية موثوقة، سبيلًا إلى تحقيق الأهداف، وفهم التحولات بشكل استباقي، عن وقت حدوثها، لأن أي ارتكاس، أو تقهقر، مرده إلى عدم النضج، باعتماد مقاربات علمية ومنهجية، لها القدرة على تحليل المعطيات، واستشراف الآفاق. خصوصا إذا كانت الهوة سحيقة بين مختلف النوايا، أي بين أصحاب المشاريع المادية القحة، الذين يزمعون تحقيق الأرباح الطائلة، بشتى الطرق والوسائل. وبين أصحاب الضمائر، المهتمين بمصير الكائن البشري، وبالوضع البيئي، الذي أضحى يرزح تحت نيره الكون برمته. فلا بديل إلا بواقع تتقوى فيه الروابط الإنسانية، وتحظى فيه المقاصد الناجعة بأولية خاصة، يجمع الكل على أحقيتها ومشروعيتها، وثمة تسود مبادئ التكامل، بما يخدم الأنا والآخر، ويضع حلًا للصراعات المفتعلة، والنزاعات التي تُسبب المزيد من الأذى، في أفق تحقيق سلم مستدام، تنعم فيه البشرية جميعها بالكرامة، والعدل، والمساواة، بمنأى عن أي تحيز عنصري، مآله في نهاية المطاف، تكريس الأزمات، وتصدير الحروب، بما ينتج عنها من مآس آنية وآتية، لم تعد القدرة لأي طرف على تحمل تبعاتها.


تركيب

شملت الرمزية الحضارية، مختلف الطاقات الإيجابية، التي من شأنها خدمة مصلحة الإنسان، والاهتمام بمصير الكائن البشري. وفي المقابل، أي انتظام يقوض المساعي الحضارية الإنسانية، هو بمثابة بداية التبشير بمرحلة جديدة، تستأثر فيها عينة من الكائنات البشرية الغريبة، توجيه ناصية التحولات الاجتماعية، وإعادة النظر في منظومة القيم، بطرح مفاهيم طارئة، اعتمدت في عمقها على الإغراء، وإسناد الوهج إلى الاختيارات المادية القحة لوحدها، دون غيرها.

هكذا، في موكب الوجاهة الحالي، والصور النمطية الجوفاء، تَصَدَّر المشهد ملء من التافهين، أصبحوا بقدرة قادر مشاهير، فلم يجدوا غضاضة في الترويج لأسمائهم بمختلف أشكال السخف والابتذال، الأمر الذي نبه منه بورخيس[11]، أصحابَ الذوق الرفيع، بضرورة نبذ البهرجات الفارغة، بمتعها العابرة، التي ينبهر بها العامة من الناس فقط. سيما في عصر السيولة، إذ يبذل التافهون مجهودًا خارقًا، للحفاظ على مصالحهم، والترويج لصورهم، فالمحتويات التافهة بدورها، تتطلب عملًا متواصلًا، لتحقيق غايات الإغراء، واستقطاب الإجماع من حولها، وأكبر قدر من الناس، فما هو جوهر "كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر، يدعم التافهون بعضهم بعضًا، فيرفع كلٌّ منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار"[12]، فالأمر خاضع لحسابات مادية دقيقة، هدفها الحفاظ على وضعية ثابتة، تجلب فقط مصالح فردية ضيقة، غير آبهة بمصالح الآخرين، وغاياتهم.

بيد أن نداء الشغف الإنساني، اقتضى الوعي بطبيعة النظم السائدة، ونوعية الأهداف المسطرة، قصد استجلاب بدائل حقيقية، تعبد الطريق، للتفكير الاستراتيجي البعيد المدى، وحينئذ لا يصح إلا الصحيح.

*أستاذ الأدب الحديث، كلية الآداب، الرباط.


لائحة المصادر والمراجع:

- الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، تر: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، والقاهرة، والدار البيضاء، ط3/ 2019.

- الحرب والسلم، ليو تولستوي، إلياذة العصور الحديثة، مج1، سلسلة عيون الأدب العالمي 20، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1/ 1995.

- الشر السائل، العيش مع اللابديل، زيجمونت باومان، وليونيداس دونسكيس، تر: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، والقاهرة، والدار البيضاء، ط2/ 2019.

- نظام التفاهة، آلان دونو، تر: مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، لبنان، ط2/ 2022.



[1] الشر السائل، العيش مع اللابديل، زيجمونت باومان، وليونيداس دونسكيس، تر: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، والقاهرة، والدار البيضاء، ط2/ 2019، ص: 7.

[2] نفسه، ص: 7.

[3] الشر السائل، العيش مع اللابديل، ص: 8.

[4] الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، تر: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، والقاهرة، والدار البيضاء، ط3/ 2019، ص: 16.

[5] الشر السائل، ص: 11.

[6] نفسه، ص: 13.

[7] نفسه، ص: 15.

[8] نفسه، ص: 14.

[9] الحرب والسلم، ليو تولستوي، إلياذة العصور الحديثة، مج1، سلسلة عيون الأدب العالمي 20، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1/ 1995، الفصل الثاني عشر، الضرورة والقوانين، ص: 586.

[10] الشر السائل، ص: 31.

[11] نظام التفاهة، آلان دونو، تر: مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، لبنان، ط2/ 2022، ص: 61.

[12] نفسه، ص: 70.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.