}

أحياء القدس ونواحيها: سرديةٌ راسخةُ الجذور دامغةُ الهويّة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 4 فبراير 2023
أمكنة أحياء القدس ونواحيها: سرديةٌ راسخةُ الجذور دامغةُ الهويّة
أحياء القدس ونواحيها

جبل المكبّر، المشارف (المشهد)، سلوان، الشيخ جرّاح، شعفاط، السعدية، الشيّاح، رأس العامود، باب حطّة، الواد، القرمي، الحيادرة، الصلتين، الريشة، بني الحارث، الضويّة، مأمن الله، يافا، نابلس، غزة، صلاح الدين، طريق الآلام، الزهراء، السلطان سليمان، النصارى، المغاربة، الشرف، الأرمن، الإسلامي، وادي حلوة، وادي الحمّص، الحمراء، الخان الأحمر، كفر عقب، سميراميس، بيت حنينا، الرام، عين كارم، بيت ساحور، اللوز، بيت إكسا، جبع (وهي غير جبع محافظة جنين)، أم ليسون، شيخ بدر، جب الروم، التنّور، بيت صفافا، عناتا، الشيخ سعد، شرفات، بتّير، بيت جمال/ الحكمة، النبي صموئيل، مخماس، قلنديا، أبو غوش (العنب)، اسم الله، دير رفات، دير عمرو، قالونيا، بيت ثول، علّار (وهي غير علّار من أعمال طولكرم)، قطنّة، حِزْما، العيسوية، العيزرية، الطور، الجيب، السواحرة الشرقية، القبيبة، صور باهر، رافات، جديرة، بيت إجزا، بيت دقّو، بير نبالا، أبو ديس، بيت عنان، بيت سوريك، عمواس، الولجة، نِطاف، المالحة، لفتا، كسلا، القسطل، القبو، عقّور، عسلين، بدّو، عرتوف، صوبا، سفلة، جرش، ساطاف (أو صطاف)، صرعة، ساريس، رأس أبو عمار، دير الهوى، دير ياسين، دير آبان، دير الشيخ، العمّور، الجورة، بيت نقّوبا، بيت عطاب، بيت أم الميس، البريج، أِشوِع، هي، وغيرُها، أسماءُ أحياءِ القدس وبلداتها وخِرَبها وجبالها وشوارعها ومختلف نواحيها، على اختلاف قرب تلك المناطق، أو بعدها، عن مركز المدينة المقدسة، وتباين انتسابها لها، وارتباط تاريخها ومصائرها بتاريخ القدس ومصائرها، كما هي الحال، على سبيل المثال، لا الحصر، في قصص أحياء الشيخ جراح، وشعفاط، وحلوة، وبلدة سلوان، وجبل المكبر، وسرديات وجودهم المرتبط عضويًا بصمودهم.
وفي حين ينحصر التركيز، كلّه تقريبًا، على البعد الدينيّ للبلدة القديمة، حيث الأقصى والقيامة، والذاكرات الدينية الموثّقة، أو المدّعاة، فإن لتلك الأحياء، ولتلك القرى والنواحي والخِرب والمسارات والجغرافيات، سردياتها القائمة بذاتها ولذاتها، وهي، وبما لا يقل عن التدافع الدينيّ (الإقصائيّ في بعض الأحيان)، تحوز على قيمتها الإنسانية المجتمعية الخالصة، الطالعة من هوية وطنية (فلسطينية) قومية (عربية) قائمة على التمسك الجذريّ النهائيّ بتلك الهوية ببعديْها الوطنيِّ والقوميّ.

 
مبضعُ الشيخ جرّاح

الشيخ جراح: لن نرحل


في الجانب الشرقي من مدينة القدس الذي وقع تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1967، عند منعطف الطريق الذاهبة نحو شارع نابلس، والأُخرى المؤدية إلى جبل المشارف، يمثّل حي الشيخ جرّاح صورة الصمود في نسخته المقدسية وارفة الظلال، صلبة المراس.
ولأن الحي أخذ اسمه الذي يحمله اليوم من اسم الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي (الملقّب بالجرّاح)، طبيب القائد صلاح الدين الأيوبي، فإن الحي بات في مداه الراهن، وهو يواجه (بلدوزر) التهويد، مبضعًا يعرف أين يجرح، ويتقن كيف يضمّد.
الحي الذي يعود عمره إلى زهاء 900 عام ماضية تحوّل إلى رمزية فلسطينية عربية جامعة، وهو يواجه مخططات الاستيطان الصهيونية الاستعمارية، المستندة إلى عقد إيجار، تريد أن تحوّل فزعةَ إنسانٍ فلسطينيٍّ مقدسيٍّ نبيلٍ من أبناء الحي (عبد ربه خليل بن إبراهيم)، وحسن أخلاقه حين أجار في عام 1880 يهوديًا هاربًا من بطش أوروبا واضطهادها لأبناء دين بعينه، وأجّره قطعة أرض، إلى سببٍ وجيهٍ للاستيلاء على الأرض، واستباحة الحق، وجعْل الخيّرين يندمون على أيِّ فعل خير يتبنّونه مع من لا يستحقونه، لا وبل يركبونه ويستغلّونه.
يوجد في الحيّ الذي يزيد عدد الفلسطينيين فيه على ثلاثة آلاف مقدسيٍّ مرابط، عدة مؤسسات ومعالِم مهمة، منها: مقر مؤسسة دار الطفل العربي، دار إسعاف النشاشيبي، قصر المفتي أمين الحسيني (مُهدد بمخططات استيطانية تهويدية)، وداخل قصر المفتي دشّن بيت المشرق (مقر منظمة التحرير الفلسطينية في القدس الذي أغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي، قسرًا، في عام 2003)، مسجد الشيخ جرّاح، وبقربه ضريح الشيخ الطبيب، المسـرح الوطنـي الفلسـطيني، مكتبة سمير منصور التي دمّرها الاحتلال في غزة، وأُعيد افتتاحها في أحد شوارع الحي، فندق شبرد (هُدم عام 2011)، ومعالم أخرى كثيرة. ولا بد أن معظمنا تابع ما يقوم به الشقيقان منى ومحمد الكرد من توهجات صمود داخل تفاصيل الحيّ العنيد.





لا يختلف الحي بتفاصيله المناخية والجغرافية والعمرانية عن باقي أحياء القدس، خصوصًا الموجودة في الجزء الشرقيّ منها (الجزء الغربيّ أقرب لروح البحر الأبيض المتوسط)، ومما لا شك فيه أن دار الأديب الفلسطيني إسعاف النشاشيبي (بناها في عام 1922) تبقى المعلم الألمع داخل حواضر حي الشيخ جراح، بطابقيْها البالغة مساحة كل منهما 296 مترًا مربعًا، إضافة إلى تسوية تبلغ مساحتها 110 مترًا مربعًا، وبعمارتها المنحازة أساسًا لجماليات العمارة الإسلامية (الأقواس والزخرفة)، مع توشيحات من العمارة اليونانية (صمم الدارة/ القصر المهندس اليونانيّ الأصل سبيرو خوري)، وبإطلالة الدار الشرقية الدافئة.
لا يقل قصر المفتي في حي الشيخ جراح (شيّده إسماعيل الحسيني عام 1897)، إبهارًا عن دارة النشاشيبي، يشمخ عاليًا بحجارته الملوّنة، وذاكرته الحيّة، وقيمته الرمزية، وخصب مرجعياته المعمارية، ومشربياته وقرميده ومختلف تفاصيله.
 

مقاومة المكبّر

دارة إسعاف النشاشيبي في القدس 




فوق أعلى تلّة جنوب شرقيّ القدس المحتلّة، يرسو عاليًا جبل المكبّر، مواصلًا فضح المؤامرة على يسوع المسيح عليه السلام، مرددًا حتى يومنا هذا تكبيرة الفاروق عمر لحظة فتح بيت المقدس وتسلم مفاتيحها من بطريركها صفرونيوس عام 15هـ، الموافق في 637 ميلادي، يشكر الله، ويؤسس لمسيرة من التسامح الحقيقيّ حظيت بها المدينة على امتداد تاريخها الإسلامي.
تحدّ القرية القائمة فوق الجبل من الشرق قريتا أبو ديس والسّواحرة الشرقية، ومن الشمال سلوان والبلدة القديمة، ومن الغرب الثوري وصور باهر، ومن الجنوب الشيخ سعد وصور باهر التي تحيطه من الغرب والجنوب.
ومنذ وقوعه في براثن الاحتلال بعد عام 1967، وكان جزء منه وقع في الأسر قبل ذلك في عام 1948، وقطّع أواصره، وشق صف عوائله، يدوّن أبناء الجبل، منذ التاريخيْن العدوانيين، أنصع آيات الصمود، ويسطرون أبهى قصص المقاومة، خصوصًا أن الاحتلال لم يكتفِ بكل الشتات الذي سببه للقرية، بل تسبب في مزيد من تقطيع سبل التواصل بين أبناء الجبل وأسره، بعد بنائه جدار الفصل العنصري الذي انتهى منه في عام 2006.
شرور جدار الفصل العنصريّ تطال قرى ومناطق أخرى كثيرة تابعة للقدس، منها: قرى قلندية، كفر عقب، والرام، وغيرها ممن أصبحت بعض بيوتها، في حالات بعينها، نصف البيت غرب الجدار (داخل الخط الأخضر)، ونصفه الآخر شرقه (خارج الخط الأخضر)! وبالتالي من يقيمون في النصف الغربي من البيت يستطيعون الحصول على هوية القدس، ومن يقيمون في النصف الشرقي لا يمكنهم ذلك، في تلاعبٍ عنصريٍّ بشعٍ مقيتٍ لمصائر الخلق ومشاعر الأسرة الواحدة.
150 شهيدًا قدمتهم قرية جبل المكبّر منذ احتلال فلسطين، عشرات العمليات المقاوِمة النوعية، ولأني لا أريد أن أكرر ما ورد في غير موقع عربيّ وعبريّ حول بطولات أبناء المكبّر وعملياتهم الفدائية، فسوف أذهب مباشرة إلى آخر الأخبار حول الإضراب العام هذه الأيام في الجبل احتجاجًا على نية الاحتلال هدم بعض مباني القرية الصامدة الواقفة كالشوكة في حلقه. الجبل الذي زرع أعلام الوطن فوق أعمدة العُلا احتفالًا ببطولة الشهيد خيري علقم ابن قرية بيت ثول المقدسية، وتأكيدًا على هوية الجبل الذي فيه يقيمون منذ مئات السنين.

 
سلوانُنا..

دروب سلوان ومعراجها


في كل حجر من حجارتها سلوان، يعبق شجنٌ كنعانيُّ الرحيقِ، فلسطينيُّ الزمان.
هي سلوانٌ لنا، وشوكٌ وعلّيقٌ لهم. البلدة الأساس النبراس التي تقيم إلى جوار الأقصى في الجهة الجنوبية الشرقية منه، وهي هناك منذ آلاف السنين، بناها الكنعانيون، وجرى ماؤها في عهودهم، فامتلأت بعذبه العيون.
عند سفوح تلال الضهور، جنوب البلدة القديمة، شمال بيت صفافا وجبل المكبر، غرب قرى أبو ديس، والعيزرية، وجبل الطور، وشرق حيّ الثوريّ، لن ينسى مدوّنو التاريخ بطولات "صف الوادية"، الحلف العشائريّ الذي صمد في عام 1948، وجعل سلوان عصية على عصابات الصهاينة، وليتأجّل احتلالها حتى عام 1967.
انطلاقًا من عين سلوان حفر اليبوسيون نفقًا إلى داخل المدينة لتأمين الماء في أوقات الحصار، وجعلوه على شكل درج ينزل إلى العين.
العين باتت، بعد ذلك، مقدّسة عند المسيحيين، لأن المسيح عليه السلام استعمل ماءها لشفاء الرجل الأعمى. ويقال إن السيدة مريم العذراء غسلت بمائها ملابس الرضيع عيسى عليه السلام، ولهذا سمّيت أيضًا بعين العذراء.
وفي سلوان معالم عريقة عديدة، منها: كنيسة صياح الديك، دير القديس أنوفريوس، بئر أيوب، طنطور فرعون، إضافة إلى قصور أموية. ولا ننسى، بالتأكيد، العين؛ عين سلوان، حيث يبدو أنها أمّ بدايات كثير من المعاني والمعطيات والقضايا الجوهريات.





ولعل سلوان من أكثر بلدات فلسطين ومدنها تعرّضًا لِأَزاميل النّبش الصهيونيّ الباحث عن وعدٍ في سجلات الوهم، وعن حجرٍ قد يسعفهم في إقامة مملكة الزّيف.
ورغم أن الثابت تاريخيًا/ آثاريًا/ حفريًا أن تاريخ المدينة لا يتضمّن ملكًا اسمه حزقيا، ولا نفقًا، ولا نقشًا، ولا ما يحزنون، إلا أن عُتاة الاستيطان لا يكلّون ولا يملّون.

 
كلّها قناديل..
كل محيط القدس قناديل لها، ولا شك في أن تناول مختلف بلداتها وقراها وأحيائها وخِرَبها وشوارعها وجبالها وسهولها ومعالمها بالبحث والإضاءة يحتاج إلى مجلداتٍ مُنْصِفات، فأحياء القدس ونواحيها تتجلّى جميعُها بوصفِها سرديةً راسخةُ الجذور دامغةُ الهويّة.

وفي المسك نود أن نختم بشعرٍ تغنّى ببعض أحياء القدس ونواحيها، فها هو أبو العلاء المعري (973 ـ 1057) يشعُر بعين سلوان قائلاً (في بيتيْن مُنفصليْن):
"وبعين سلوان التي في قدسها          طعم يوهم أنه من زمزم".

"سيحان للروم عذب ليس مورده ملحاً كزمزم أو عينٍ لسلوان".

أما الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (1909 ـ 1980) الملقّب بأبي سلمى، فقد كتب في عام 1936 قصيدة حملت عنوان "يا فلسطين"، تغنّى في بعض أبياتها بجبل المكبّر:
"جبل المكبّر طال نومك فانتبه         قم واسمع التكبير والتهليلا
فكأنما الفاروق دوَّى صوته             فجلا لنا الدنيا وهزّ الجيلا
جبل المكبر لن تلين قناتنا               ما لم نحطّم فوقك البستيلا".
كما تغنى الشاعر الفلسطينيّ المقدسيّ، الطبيب عزّ الدين أبو ميزر، بالمكبّر، قائلًا:
"جبلَ المكبّرِ قد أضأتَ سَمانا/ وأريْتنا صُوَرَ الفِدا ألوانا
أيقظتَ أرواحًا غَفَت وكأنّها/ عقدت على النّومِ الطّويلِ قِرانا
وأعدت للنّفسِ الحزينةِ سِحرَها/ فَغَدا بها إنسانُنا إنسانا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.