}

"غضبُ الله": استعارة مجازيّة للعوامل الكامنة

دارا عبدالله دارا عبدالله 23 مارس 2023
اجتماع "غضبُ الله": استعارة مجازيّة للعوامل الكامنة
نيكلاس لوهمان- من مؤسسي نظرية الأنظمة الديناميكية
بعد أنْ ضرب زلزال شماليّ سوريّة وجنوب تركيا، وشقّ الأرض وأدخل مياه الأمطار مع جثث أكثر من 50 ألف شخص إلى جوفها، ارتفعَت نبرةُ السؤال حول المسؤوليّة: فوضى الطبيعة، أم خطأ البشر؟ ظهر السؤال خصوصًا بعد التقارير حول فساد المقاولين الأتراك في عمليّات البناء، وعدم التقيّد بإجراءات السلامة، وغياب اليقظة الكاملة من ضرورة تشييد أبنية مقاومةً للزلازل.
في عام 1990، نشرت الفيلسوفة والمنظّرة السياسيّة الأميركيّة، جوديث إن شكيلار/ Judith N.shklars (1928 - 1992)، مقالاً تناولت فيه هذا السؤال بالضبط، سؤالَ العلاقة بين الكارثة الطبيعيّة التي تبدو حتميّة ولا يمكن التنبُّؤ بها، والفعل البشري الذي يفتح هامش التكيُّف والمقاومة، وبالتالي المسؤوليّة. تضع شكيلار السؤال بصيغةٍ مشابهة: متى تكون الكارثة حدثًا اعتباطيّاً من الطبيعة، ومتى تكون ظلمًا بشريّاً؟ الإجابة تبدو سهلة وبديهيّة لأوّل وهلة. إذا كانت قوى الطبيعة الخارجة عن إرادتنا هي سبب الحدث الرهيب، فيجب تقبّل الخسائر، وتحييد المسؤوليّة البشريّة، والتطبيع مع المعاناة. وإذا ما كانت الكارثة مرتبطةً بمسؤوليّة بشريّة، أو نوايا شريرّة، فهو ظلمٌ، والمحاسبة واجبة، والناجون أحرارٌ في التعبير عن غضبهم وسخطهم.
الفيلسوف الشاب تيم فان غيلدر/ Tim Van Gelde يرى أنّ هذا التفريق لا يصمد أمام الواقع. ما يقرّر إذا ما كانت الكارثة حدثًا طبيعيّاً حتميّاً لا يمكن التحكُّم به، أو كانت حدثًا يمكن تغيير مساراته والتنبُّؤ باندلاعه بالعمل الذهني ـ الجسدي الاجتماعيّ المنظَّم، عاملان أساسيّان: مستوى التقدُّم التكنولوجي لحظة الاندلاع، ونمط الأيديولوجيا المفسِّرة للكارثة. اليابانيون مثلاً يتعاملون بنجاح أكبر مع الزلازل، إذْ لمّا ضربها زلزالٌ بقوّة 9.4 على مقياس ريختر، وهو أقوى بكثير نسبيًا من زلزال فبراير/ شباط في تركيا وسورية، تمايلت الأبنية، وكأنّ المشهد بكامله فقد تماسكه للحظة، وصار رخوًا، ولكنّ شيئًا لم يَنهرْ. بعضهم يرى في الكوارث عقابًا ربّانيًّا على انحلال جماعي، وآخرون يصفونها كردّ من الطبيعة على فساد البشر إزاءها، في حين يراها آخرون تفلُّتًا لطاقةٍ ما في الكون، والتفسيرات كثيرة.




غيلدر، وهو أهمّ مطوُّري نظرية الأنظمة الديناميكيّة/ Dynamical System Theory، أشار بشكل لمّاح إلى دلالة التفسيرات الربانيّة للكوارث، بذكر صرخة المرأة السورية من شمال غرب سورية: "هادا غضب الله". نظريّة الأنظمة الديناميكيّة ظهرت في فلسفة العلم في الربع الأخير من القرن العشرين، وتمارس في أيّامنا تداعياتٍ كثيرة على فلسفة الوعي والتحليل النفسي. رغم أنّ هذه النظرية تطوُّرت بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأميركيّة، إلا أنّها في الدرجة الأولى استكمالٌ لعمل عالم الاجتماعي الألماني نيكلاس لوهمان/ Niklas Luhmann (1927 ـ 1998).
يرى لوهمان أنّ أي نظام: رقمي، كالذكاء الاصطناعي، أو بيولوجي، كأيّ "شيء" فيه دورة حياة، أو فيزيائي، كالطقس والزلازل، أو اجتماعي، كمؤسسات الدولة والعقد الاجتماعي، هو عبارة عن تفاعل ديناميكي بين مجموعة من الأنظمة المتداخلة. أي تغيُّر في أي نظام من هذه الأنظمة سيؤدّي إلى تغير في كلّ الأنظمة المتداخلة معه، وبالتالي سيتغيّر النظام ككل. كلّ نظام ممكن أن يكون نتاجًا من علاقات ديناميكية لأنظمة فرعيّة مُشكِّلة له، وأن يكون، في الوقت نفسه، نظامًا فرعيًا مُشكِّلاً لبنية أكبر. العلاقات بين هذه الأنظمة الديناميكيّة ليست خطيّة، وتختلف من لحظة زمنية إلى لحظة زمنيّة أخرى. شكل التفاعل الديناميكي نفسه يتغيّر مع الزمن. الأنظمة الديناميكيّة كما يقول لوهمان هي "ملموسة"، وتفهم فقط من خلال المراقبة التاريخيّة والعلم التجريبي والرصد المستمر عبر الزمن، وهي مختلفة عن الأنظمة "المجرّدة"، كالرياضيات، إذْ لا تتأثر العلاقات بين الحقائق الرياضيّة بالزمن. الرياضيات هي فعل خارج الزمن. لذلك، يشير لوهمان إلى استحالة إعطاء نظرة كليّة عن آلية التفاعلات الديناميكيّة للظواهر الملموسة المعقّدة، وذلك عبر تحنيطها في معادلة رياضيّة غير زمنيّة.
والحال، يشير لوهمان أيضًا إلى "عوامل كامنة" تؤثّر على شكل التفاعلات بين الأنظمة. عوامل لا يمكن كشفها، إذْ ربّما لم يتمكّن التطور التقني والعلم التجريبي من رصدها بعد. تطلّب الأمر وقتًا طويلاً لتغيير النظرة للأمطار على أنها بكاء الآلهة، إلى حقيقية تجريبيّة بأنها تفاعل يتحوّل من خلاله الماء من حالة لحالة. يشير غيلدر إلى أنّه لا يوجد، بالفعل، تطبيقٌ للطقس قادرٌ على إعطاء توقّعات لأكثر من أسبوعين، وليس غريبًا أن تخطئ هذه التطبيقات، أو تحدِّث من بياناتها بشكل مستمر، لأنّ الطقس تفاعل ديناميكي بين مجموعة متداخلة من الأنظمة. الزلازل والطقس لا يمكن رصدها أو توقعها بشكل كليّ. لا توجد معادلة رياضيّة تتوقّع الطقس للأبد، مثل مساحة المثلث.
المثير هو أن غيلدر يرى أن "غضب الله" ليس إلا استخدامًا مجازيًا لما لا يمكن رصده تجريبيًا في تفاعلات الأنظمة الديناميكية... إلى العوامل الكامنة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.