}

لغز خريطة: لمّا يرسم اشتراكي إمبراطوريّة استعمارية

دارا عبدالله دارا عبدالله 10 فبراير 2024
تغطيات لغز خريطة: لمّا يرسم اشتراكي إمبراطوريّة استعمارية
بقيت خريطة الرابطة لغزًا حتى عام 2005 (Getty)
فُتح اللغز لأوّل مرّة في عام 2002، عندما أشارت الباحثة البريطانية ليندا كولي Linda Colley (74عامًا) إلى شيء غريب لا يمكن تفسيره حول أشهر خريطة رُسمت حول الإمبراطورية البريطانية، وهي، أعلاه، خريطة "رابطة الإمبراطورية الاتحادية" الصادرة عام 1886. الخريطة متميّزة بشكل رهيب عن الخرائط الإمبراطورية المرسومة في تلك المرحلة، إذْ أنّها مليئة بالرموز والأيقونات، وفيها شيءٌ يبدو بأنّه "لم يحلّ بعد". أوّل شيء يقفز إذا وُضِعَت كلمة Imperial Map على "غوغل" هي خريطة الرابطة. هذه الخريطة هي الصورة الرمزية الأكثر ترسّخًا في الثقافة الشعبية البريطانية، إذا ما طُلِب من المرء أن يعبّر عن الإمبراطورية بصورة. تقول كولي: "غريب جدًا كيف أنّ الإمبراطورية البريطانيّة قد تمثّلت في الذهنيّة العامّة من خلال خريطة واحدة، لم يتم فحصها بشكل جيّد".
الخريطة الموجودة في "متحف فيكتوريا وألبرت" في بريطانيا، رُسِمَت بتقنية "إسقاط مركاتور" المشهورة في رسم الخرائط. تُرسَم الخريطة على أسطوانة، ويتم اختيار لندن، خط غرينتش، كمركز للعالم، وبعد الانتهاء من الرسم، تُفرَد الخريطة. "إسقاط مركاتور" المتمركز حول غرينتش هو تصوّر مشوّه عن العالم الفعلي، لأن الأسطوانة تغيّر من سعة المساحات الفعلية على الأرض. المناطق الخاضعة للحكم البريطاني ملوّنة بالوردي، والعالم خارج الإمبراطورية ملون بالأبيض. وكأنّ في إبراز هذا الامتداد العالمي ذلك الخوف من هشاشة التوسّع الاستعماري؟ وكأنّ الخريطة تحملُ قلق الوردي من الأبيض؟
ما قصّة التناقضات في هذه الخريطة؟ من جهة، الصناديق المغلقة الصغيرة الموجودة قرب كل بقعة ورديّة، تحمل معلومات عن التجارة وعائدات الإنتاج وأعداد السكان، وهي حقائق إحصائيّة تمجّد النجاح في المستعمرات. ومن جهة أخرى، الرجل الذي يحمل الكرة الأرضية، أسفل منتصف الخريطة، مكسور الظهر. ما هو بالضبط قول هذه الخريطة؟ هل هي احتفال تمجيديّ بسعة الإمبراطوريّة ومداها الكوني، أم هي إشارة مقلقة إلى استحالة دوامها؟
من نشر الخريطة، "رابطة الإمبراطورية الاتحادية"، كانت منظمة نشطة جدًا في بريطانيا في نهايات القرن التاسع عشر. نشرَت صحيفة The Graphics المقربة من الرابطة، الخريطة لأوّل مرة عام 1886، داعية إلى إعادة تشكيل الإمبراطورية على مبادئ الاتّحاد الطوعي بدلًا من الدمج القسري، تأثُّرًا بتجربة توحّد الولايات المتّحدة الأميركيّة. الرابطة نقدت الحكم المركزي، وأبرزت فكرة أنّ أي مخطط اتّحادي يجب ألا يتدخّل في عمل البرلمانات المحليّة التي يجب أن تدير شؤونها الداخليّة بنفسها في أنحاء الإمبراطورية. تاريخ الرابطة السياسي ربّما سيقول شيئًا عن الخريطة. بين عامي 1880 و1890، طرحت الرابطة برنامجًا نظريًا يطالب بالتفكير بعمق في بمستقبل الهيمنة البريطانيّة، ونال دعم كثيرٍ من السياسيين بسبب القلق المتنامي من عدم كفاءة المؤسسات السياسيّة والثقافية للإمبراطوريّة في استيعاب التوسّع الهائل. كان الخوف بأنّ بريطانيا لن تتمكّن من تطويل مدّة هيمنتها في ظل التنافس العالمي المتسارع وظهور قوى كبرى جديدة.

نقاش سياسي
بدفعٍ من مثقفي الرابطة، فُتِح نقاش سياسي حول إمكانية توسيع الحكم البرلماني والديمقراطية التمثيليّة في كل أنحاء الإمبراطورية (وليس في بريطانيا فقط). المحافظون التقليديون رفضوا الفكرة تمامًا. السياسي البريطاني وإحصائي الخرائط وعضو البرلمان، جون كولومب/ John Colomb (1838 ـ 1909)، رفض التنظيرات الثقافية حول مستقبل بريطانيا، ودعا إلى الالتفات إلى أمرين: التداعيات العسكريّة للنمو الاقتصادي العالمي، والتحولات الديموغرافية والتكنولوجيّة الكُبرى في العالم. للمفارقة، كولومب هو من وضع هذه الأرقام الإحصائية في المربعات بالقرب من المناطق الورديّة في خريطة الرابطة! كان كولومب يشرح أفكاره بالأرقام الإحصائيّة مركّزًا على الضرورات الاستراتيجية للدفاع عن الإمبراطورية.




كولومب مهجوس بأربع حقائق: العسكرية والسياسية والبحرية والاقتصادية، وآخر ما تحتاج إليه الإمبراطورية هي مشاريع أيديولوجية تهدف إلى إعادة تشكيل دستوري للإمبراطورية. الخريطة، إذًا، تحمل توترًا بين الرابطة التي تنادي بتوسيع الحرية السياسية والحكم البرلماني إلى كل أرجاء الإمبراطورية، والمحافظين الأنغليكانيّين الذين أعطوا الأولوية للأمن القومي والحركة الاقتصاديّة.

خريطة بارثولوميو/ J.G Bartholomew، المنجزة في عام 1889 (Getty)

ولكن لا تزال الخريطة تحمل كثيرًا من الغموض. تصبح فرادة خريطة الرابطة واضحة إذا ما قُورِنَت بخرائط أخرى من تلك المرحلة، كخريطة بارثولوميو/ J.G Bartholomew، المنجزة في عام 1889. يصبح الفرق النوعي في خريطة الرابطة الأساسية صارخًا. خريطة بارثولوميو خالية تمامًا من أي أيقونات رمزيّة، أو شخوص ممثِّلة، بل تنقل بشكل ممتاز الواقع الجيوسياسي للإمبراطورية. الحدود السياسية داخل المستعمرات مرسومة بدقّة، وكل لونٍ يشير إلى شكل التبعية السياسية لبريطانيا (بلد أم، مستعمرة، محمية...). على عكس خريطة الرابطة الخالية من أي ترسيمات حدودية، فإنّ خريطة بارثولوميو تمثّل العالم مقسمًا بحسب الأعراق والسلطة السياسية. في خريطة الرابطة، لا حدود داخليّة بين المستعمرات ولا إشارة إلى أي تقسيم للأعراق، بل التصوّر هو كلي وشامل للإمبراطورية، ممثلة بالتساوي داخل العالم، حتّى أن بريطانيا ملوّنة بالوردي تمامًا مثل مستعمرتها في جنوب أفريقيا.



والحال، فإنّ خلو خريطة بارثولوميو من الرموز تقابله وفرة ملغّزة للرموز في خريطة الرابطة. في المنتصف تتربع ابنة شقراء، بريطانيا العظمى، على الأرض الكروية وتحتها رجل مقسوم الظهر على صدره مكتوب عبارة: عمل بشري/ Human Labour. على يسار المشهد عامل آسيوي مثقول بحمله وحواليه وفرة وازدهار. العامل عاري الصدر يبدو مذلولًا بثقله لا معتزّا بعمله، وأعلاه إلى اليسار على الحواف امرأة كندية بيضاء صوفها المصنوع من الفرو يحكي ثراءها.  وفي أعلى الخريطة الأساسية نجد ثلاث نساء يفردن ثلاث لافتات فيها كلمات: حرية، أخوة، اتّحاد.
ولكن من دون منافس، الرمز الأكثر غرابة هو القبعات المخروطية على رأس النساء الثلاث حاملات اللافتات. القبعة الفريجية (أو قبعة الحرية) كانت رمزًا للتحرر من العبودية، لأنّ العبيد المحررون في روما القديمة كان يرتدونها كإثبات. القبعة الفريجية هي كوفية القرن التاسع عشر، وهي تحمل بعدًا رمزيًا معاديًا لفكرة الاستعمار. كيف يزين شعار حرية مشهدًا فيه رجلٌ مثقلٌ بحمل العالم وعلى صدره عبارة: عمل بشري؟ كيف لخريطة تصوّر واقع الاستعمار، تحمل رمزًا معاديًا للاستعمار بجوهره؟

الفنان البريطاني والتر كرين (Getty)


حل اللغز
الخريطة التي رُسِمت في عام 1886 بقيت لغزًا حتّى قامت باحثة بريطانية شابة مهووسة في عام 2005 بإحداث أكبر اختراق في سيرة هذه الخريطة. البريطانية بيبا بيلتكليف/ Pippa Biltcliffe، نشرت تحقيقًا في دورية Imago Mundi البحثية حول الخرائط، أكّدت فيه أنّ الخريطة، من دون شك، هي من عمل الفنان البريطاني والتر كرين/ Walter Crane (1845 ـ 1915). وكرين فنان بريطاني معروف بمواقفه الاشتراكية، وهو من مؤسسي "حركة الحرف والفنون/ Arts and Craft Movement"، التي تبلورت في بريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. هذه الحركة تأثّرت بأفكار المصمم البريطاني ويليام موريس (1859 - 1896)، والناقد الاشتراكي جون رسكن (1819 ـ 1900). موريس ورسكن أحسّا بخطورة التحوّل الصناعي في إنكلترا في قضم البنية الروحية والمعنوية للعامل. الخطورة تبدأ بفصل عملية التصميم عن عملية التصنيع، وتوزيع العمّال على خطوط الإنتاج في المصانع الكبرى لأداء مهمات تكرارية خالية من أي فعالية ذهنية، تجعلهم لا يفقدون الإحساس فقط بكرامة العمل، بل بالمنتج النهائي للعملية أيضًا.
فصل العامل عن المنتج، الاغتراب في فلسفة ماركس، خلق عمالًا مكتئبين متدهوري الثقافة. آمنت الحركة بالإنتاج الصناعي ضمن الورشات الصغيرة، حيث إنّ العامل ـ المصمم قادر على أداء أي مهمّة في عملية الإنتاج. كخطوات عملية، ابتعدت عن المدن الكبرى، حيث الإنتاج الجماعي الضخم، وأسّست مصانع صغيرة في الأرياف مُدارة بتعاون من الفنانين القادمين من لندن وسكان الأرياف المحليين. الحكم المحلي المكتفي ذاتيًا بالتصنيع في ورشات يشارك فيها جميع السكان. إدراج الجميع بشكل متساوٍ في عمليات التصميم والإنتاج، يغلق الهوية بين الرغبة والإنتاج. على البشر أن يمتلكوا القدرة على إنتاج ما يحتاجونه فعلًا، ولا يجب فرض أي حاجات أخرى عليهم. ورشات "حركة الحرف والفنون" رأبت الصدع بين التصميم والتصنيع، وأدرجت العامل في التصميم الشامل للمنتج، وكان كل عامل ـ مصمم مساهمًا بدرجات متفاوتة في مراحل مختلفة من مراحل التصنيع. صار أطفال الأرياف يقضون جزءًا من مقررهم الدراسيّ في ورشات الحركة، ومن هنا بدأ أثر الحركة في التعليم ببريطانيا.
كيف لرسام اشتراكي أن يرسم خريطة استعمارية؟ لمّا كشف النقاب عن رسام الخريطة الفعلي، أُصيب جميع من يعرف الخريطة بصدمة. لم يتحدّث كرين حرفًا عن الموضوع؟ أليست هذه التناقضات المرسومة قصدًا من كرين إشارة إلى الفشل الحتمي لمشروع الإمبراطورية، ودعوة إلى حكم ذاتي مركزي للآخرين على غرار الورشات الصغيرة؟ وكيف لم ينتبه أحد إلى أن الخريطة المترسخة في أذهان الملايين، والتي تمثّل الأبَّهة الاستعمارية، هي في الواقع إشارة إلى الواقع المأساوي للاستعمار؟


*كاتب مقيم في برلين، من أسرة تحرير "ضفة ثالثة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.