}

ربيعُ شرقِ المتوسّط: قيامةُ الحياةِ من بينِ براثنِ الموت

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 1 أبريل 2023
إناسة ربيعُ شرقِ المتوسّط: قيامةُ الحياةِ من بينِ براثنِ الموت
الإلهة الأنثى في حضارات الشرق القديمة

عندما صَدَحَت فيروز ذات مغنى عميق: "المسيحُ قامَ مِن بيْنِ الأمْوات وَوطِئ الموتَ بِالموْت، وَوَهَبَ الحياةَ للذينَ في القُبور"، فهي، بشكلٍ من الأشكال، ومعها الرحابنة، إنما كانوا يستعيدون طقوس الخصب وأساطير انبثاق الحياة من الموت عند كل الحضارات التي سبقتنا، وأدْلت، حول هذا الموضوع الجذريّ التأسيسيّ، بدلوِها.
وعلى كل حال، لم تنشغل البشرية منذ عرفت أشكالَ استقرارٍ، ولو رمزيٍّ، لها، بجدليةٍ أكثرَ إشكاليةً وتوليدًا للطقوس والأساطير والمنطوقات والصراعات، من جدلية الحياة والموت.
ومنذ نهايات مارس/ آذار، وحتى مطالع يوليو/ تموز، تتمدّد معظم أساطير الخصب، والولادة، والانبثاق، وعودة الحياة، والتكوين، والتجدّد، والوفرة، وانتصار عناصر (آلهة) الخير ورموزه على كائنات الشر ودلالاته وشياطينه.
حتى طقوس الفداء وتقديم القرابين البشرية وغير البشرية، فهي ليست في منأى عن تلك الفترة أعلاه، عندما كان المصريون القدماء، على سبيل المثال، يقدمون للنيل عروسًا بدرًا في سنّ الفتوة والشباب عند نهايات يونيو/ حزيران، ومطالع يوليو/ تموز، تجنبًا لغضبه، وحماية لأنفسهم من فيضانه الساخط.
وحين نتحدث عن شرق المتوسّط، فإننا نكون بمصطلحٍ من مفردتيْن اثنتيْن فقط، قد وضعنا أيدينا ومقاصدنا على منطقة تمتدُّ من اليونان وقبرص وتركيا شمالًا، وصولًا إلى مصر جنوبًا. وأما المفارقة، فهي أن معظم دول تلك المنطقة، وخصوصًا فلسطين وسورية ولبنان وأجزاء من تركيا، قد دانت زمنًا طويلًا من تاريخها المكتوب لحكم الكنعانيين، ومفردات حضارتهم، وتجلّيات وجودهم: أوغاريتيين، فينيقيين، أموريين، أدوميين وقائمة تطول.
بالتالي، توارث أبناء كنعان بمختلف مسمّياتهم، قناعةً راسخةً لا تقبل القسمة على اثنين، مفادها أن الألم لا يقتل الأمل، والموت لا بدّ بعده من حياة، والقحط ما هو سوى محاولة يائسة للبطش بالخصب.
 
سياقاتٌ عديدةٌ لأسطورةٍ واحدة...

جلجامش يقتل ثور السماء خمبابا في طريق البحث عن الخلود


من نيروز (نوروز) الشعب الكرديّ، وبلاد فارس، احتفالًا بانتهاء ظلام الشتاء، والدخول في نور الربيع، وسر إشعال النار والرقص حولها والقفز من فوقها، إلى شمّ نسيم مصر المتواصل من أربع آلاف سنة، إلى (شوربيع أو شاو الربيع) الجزائر، إلى (كرنفال زامبو) مدينة طرابلس اللبنانية، إلى إعداد "لبراج" باللبن في مدينة سكيكدة الجزائرية الفينيقية احتفالًا بقدوم الربيع، إلى عيد "فاتح البدايات الأربع" في الصين بلاد التنّين، حيث نقطة انطلاق جديدة مفعمة بالآمال والحيوية، إلى "عيد الرابع" لدى الطائفة العلوية الذي يتجلّى بوصفه إعلانًا عن بداية فصل الربيع، حيث يتم تحضير المقامات للزوار، وإحضار الذبائح لتقديمها كنذور، حيث يجتمع الناس بجوار المقامات، ويحضّرون القدور والحطب، ويبدأون بالاحتفال عبر حلقات الدبكة والغناء، وتستمر الاحتفالات مدة أربعة أيام، إلى (كرنفال هولندا) للتخلص من الأرواح الشريرة قبل حلول الربيع، إلى أعياد وطقوس على امتداد رقعة الكوكب، لسنا بصدد استعراضها جميعها، بقدر ما يشكّل تقصّي نقاط التلاقي بينها ضرورة ملحّة للتعرف على الجوامع المشتركة بين بني البشر، المستوطنون الوحيدون في الكرة الأرضية، الذين سخّروا كل المقيمين معهم فوق تلك الكرة من حيوانات وطيور وأسماك وحجر وشجر وفيافي، لخدمتهم، والخضوع لقوانينهم.




في هذه الأعياد جميعِها، وغيرِها، ثمّة ما يشبه الإجماع على أن الخصب يبدأ من الربيع، ويحصد خيراته مع أول الصيف. ثمّة من يرى في غياهب شهور الزمهرير، بياتًا شتويًّا، وفي ألوان زهور أواخر آذار، وكل نيسان، تجدّدًا يشبه عودةَ عناة من عتمات الأرض السابعة تحتنا.
آذارُ، إذًا، هو المِهاد، وأوّلُ الصعودِ نحوَ عناوينِ الخصْبِ والوِلادةِ في معظمِ أساطيرِ الشرقِ ومعتقداتهِ ودياناتهِ السّماويّةِ وغيرِ السّماوية.
ولكي نفهم مرامي أساطير الأوّلين وعِبرها، لا بُدَّ لنا أن نتدبّر المعنى الحقيقي للحكمة القديمة التي تقول: "عليَّ أن أموت لكي أولد من جديد".


بعل صافون...
الهاجس الجذري في ملحمة بعل صافون، وصراعه مع الإله (موت)، وقبل ذلك مع (يَم)، وموقف الأب الكبير (أيل)، والأخت/ الزوجة/ المعشوقة (عناة) من كل هذا وذاك، هو الهاجس المتعلّق بخوف الإنسان من القحط/ الجدب وانعدام المطر، أو هيَجان البحر، أو تغوّل النهر على المساحات التي كان ابن بلاد الرافدين وبلاد الشام يحتاجها جميعها لِنثر بذوره، وَتشتيل أشتاله، ومدّ بِساط الخُضرة والوَفرة حوله.
عشتار (الأم الكبرى) عند الرافديِين، في هذا السياق هي نفسها عناة (الأخت الكبرى) عند الكنعانيين، وهي عشتاروت عند الفنيقيين، وإنانا عند السومريين، وزيوس عند الرومان، وأفروديت عند اليونان. تختلف بعض تفاصيلها باختلاف الثقافة التي تروي قصتها. ولكن حسيّة خصبها من امتلاءٍ ووضوحِ أعضاءِ رضاعةٍ، وجرأةٍ وبحثٍ عن أيِّ فرصةِ خصبٍ ومدِّ الحياةِ، أيامها، بالذّراري، هو ما تتفق عليه، حولَها، أساطير العالم القديم جميعها، بغض النظر عن شكل العلاقة ومرجعياتها الدينية والاجتماعية التي تبنّتها، أو اختارتها، أو اضطرت لها، كيْ يتحقق هذا الخصب، ويكتمل هذا الإنجاب.
وحين ينتصر (موت) على (بعل) فلن تجد الأرض أقدر من عناة، أو من عشتار امرأة/ إلهة تنزل للعالم السفليّ وتستعيد خصب الحياة وممكنات إيقاعها.
هي، بالتالي، أسطورةٌ واحدةٌ موحّدةٌ حوْل حتميةِ انبثاقِ الحياةِ من الموت، حول تحوّل دمِ الفِداء اليسوعيّ إلى أعجوبةِ عودةٍ ساطعةِ القيامةِ والقِيام، حولَ حاجة الأرض إلى كثيرٍ من الحريّة والعدالة والسلام، كيما يطير الحمَام.


تلوينُ البيض...


صار البيض أحمرَ يا قيصر روما، وتحققت المعجزة بين يديّ مريم المجدلية، فالقيامة حق، وتلوين البيض دلالة كبرى من دلائل تجدد الحياة (يرمز البيض في معظم الحضارات إلى تجدّد الحياة، وقد أضاف المسيحيون إليه معنى جديدًا في عيد الفصح).
بألوان الأرض حولنا يتلوّن البيض؛ بألوان الأزهار كالصفير والبرقوق، أو بقشرة بصل يابس. وفي يوم عيد الفصح يلعب الصغار لعبة تكسير البيض، فقد حَرَمَ المؤمنون أنفسهم من كل دهن ولحم طيلة أيام الصوم، ولا بأس أن تحمل احتفالية انتهاء أيامه صخبًا ما، وابتهاجًا بألوان الربيع فوق قشرة الوجود.
تلوين البيض في فلسطين وما حولها، لم يقتصر خلال القرون الماضية على الإخوة المسيحيين، فقد بات طقسًا اجتماعيًّا لحقّتُ أنا شخصيًا كثيرًا من تجلياته عندما كانت أمّي، لروحها الرحمة، تلوّن لنا البيض وتبتهج طفولتنا البعيدة به وبألوانه، لا أدري متى ولا أعلم لماذا. ثم لا ننسى أن أحد أهم تفاصيل عيد شمّ النسيم تلوين البيض، بإسهامٍ، قبطيٍّ، على الأرجح، في عيدٍ فرعونيٍّ قديمٍ معتّق.

 
الأم الكبرى...  
ولعلّها مفارقةً مدهشةُ المعاني غنيّةُ الإرهاصات، أن يجمعَ بيتُ شِعرٍ بين بعل الإله الكنعانيّ متعدّد الدّلالات وبين البيض:
"إِذا ما عَلَونا بعل عَرِيضةٍ خَالُ عليها قَيْضَ بَيْضٍ مُفَلَّق".
الشاعر، هُنا، أنّثَ "بعل"، وحسنًا فعل، فالأنثى في المعتقدات الكنعانية، سواء كانت إلهة، أو نصف إلهة، أو امرأة عادية، هي الأكثر عطاء، صاحبة الحلول الكبرى، والأم الكبرى، رمز الخصب والخصوبة، والأكثر ذوبانًا في تجلّيات الأسطورة، وتدفّقات مياهها، ودروب تفتّح مواقيتِها.

 
مسرحة الحياة...
يتجلّى المسرح بوصفه منصّة الأسئلة الكبرى والعناوين الكبرى: الحياة/ الموت، الخير/ الشر، الذات/ الآخر، العلويّ/ السفليّ، الخصب/ القحط، الحب/ الكراهية... إلخ. وهو يفتح فوق حلبة أحداثه مساحةَ صراعٍ لا ينتهي بين هذه المتناقضات، مؤسّسًا لمزيد من الأسئلة، وكثير من الحيرة الساعية إلى طرق أبواب اليقين. نحن هنا نتحدّث عن المسرح وفقَ جذوره التجريديّة الأولى، عندما كان الإنسان لا يزال يصارع مفردات الكون حوله، ويحاول تهجِئة الألغاز والطلاسم التي لا تنفكّ تطارد نهاره، وتفزع مجسّات ليله. ولا نتحدث عن ليّ عنق المسرح نحو (دراميات) خفيفةَ الوَزن، مكشوفةَ الثِيَم، بسيطةَ الجَدَل. على النسق نفسه الذي قام عليه المسرح الأول، قامت الملاحم الأولى والأساطير التي لا نزال نمْتح من حكاياتها، وَنحاكي شُخوصها، ونُعيد تدْوير ذُراها.




وكلاهما: الأساطير والملاحم المسرحية الكبرى، جابا بحور الأسئلة المتلاطمة نفسها حول توق الإنسان وسعيه للتحرر من نوازل الموت، وكلاليب الاندثار، وقيود العدم، ناشدًا معالي الحياة، وآفاق الحضور الحيويّ الكَثيف، وفضاءات الوجود الحرِّ الأبيِّ المنتصِر.
"ضعي في الأرض خبزًا" يرسل بعل سُعاته إلى عناة ناشدًا منها العودة عن غضبها الذي كاد يفتك بالبشريّة:
"ضعي في التراب لفاحًا
واسكبي في الأرض قربان السلام
والتقدمات في وسط الحقول".
توافق عناة بلهفة شديدة، لهفة العاشقة والشقيقة والزوجة والأم الكبرى، تطير قاطعةً مئات الأميال، وعندما يراها بعل قادمة من بعيد يذبح لأجلها ثورًا، ويحتفل بها احتفالًا مشهودًا. وبقدومها تبتهج الطبيعة، فيرقص النبات، ويتكاثر الحيوان، وتستعيد أرض كنعان خصبها الذي لن تستعيده على أجمل وجه، وأوجب معنى، إلا حين لا يبقى فوقها سوى أصحابها الضاربون جذورهم عميقًا... عميقًا في مفردات أرضهم؛ بحرِها وتلالِها وسهلِها وصخرِها ومروجِها وبروجِها وحقولِها وكرومِها وبرتقالِها وزيتونِها وعنبِها وخمرِها وقمحِها وجرحِها الذي اقترب، كثيرًا، يومُ التئامِ شقوقِه، وتوقّفِ نزيفِه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.