}

مبانٍ شاهدة على الحرب الأهلية: لنتذكر ماذا فعلنا بأنفسنا

دارين حوماني دارين حوماني 17 أبريل 2023
عمارة مبانٍ شاهدة على الحرب الأهلية: لنتذكر ماذا فعلنا بأنفسنا
بيروت عبر ثقب في "هوليداي إن" (جوزيف عيد، غيتي)
هو 13 نيسان/ أبريل 1975 الذي لم يترك لنا الكثير من بيروت، ما الذي بقي لنا بعده من بيروت؟ ونحن نمرّ في شوارعها نبحث عنها. نريد أن نحتفظ بها قبل أن تتغيّر أكثر، ببيوتها العتيقة، ببراءتها وبساطتها. بعد الحرب، صار وسط بيروت لعالم آخر ومن عالم آخر لا يعرفه اللبناني البسيط، تحوّل إلى امرأة برجوازية ومهجورة بعد الحرب. في أماكن أخرى من بيروت، ثمة عمارات قديمة لا تزال فجوات رصاصات الحرب فيها مثل ندوب في جسد المدينة، مبانٍ هنا وهناك، أبرزها ما يُعرف باسم "طريق صيدا القديم" التابع لـ "خط التماس" بين البيروتيتين، بين منطقتي عين الرمانة "المسيحية" والشياح "المسلمة". صف كامل من العمارات المحترقة والتي يتوزع على حيطانها عنف الشظايا وحزن كثير، تحولت هذه العمارات إلى متاريس للمسلحين تعلوها الأكياس الرملية في الحرب وإلى مكان للمهجّرين بعد الحرب. تم ترميم عدد من العمارات ولكن لا يزال قسم آخر منها على حاله كشواهد على الحزن القديم. وثمة بضع مبانٍ من معالم هذه المدينة المنكوبة لا تزال شاهدة على الحرب، ربما نحتاج إليها كي نتذكر دائمًا ما فعلناه بأنفسنا... مبانٍ أصبحت من رموز الذاكرة الجمعية اللبنانية.

"مبنى البيضة"


في وسط بيروت لا يزال بإمكاننا أن نرى "مبنى البيضة" (نسبة إلى شكلها الهندسي البيضاوي) أو سينما "غومون بالاس" الذي كان فيما مضى جزءًا من "سيتي سنتر" وهو أول مجمّع تجاري (مول) في الشرق الأوسط، وصُنّف عام 1973 كأكبر مركز تجاري في الشرق الأوسط، ويعود لرجال أعمال من آل صالحة وآل صمدي من بيروت. تم بناؤه عام 1965 على يد المهندس اللبناني جوزيف فيليب كرم الذي عمل على تشييد خمسة طوابق تجارية تحت الأرض يعلوها مبنى البيضة والذي تم تصميمه ليكون سينما ومسرحًا ويتسع لألف مقعد. يقع المبنى في وسط بيروت تمامًا عند ساحة الشهداء التي تناوبت عليها الأحزاب والفصائل المختلفة في الحرب وتحوّل المبنى من أهم مسرح وسينما قبل عام 1975 إلى أهم متراس للقنص بعد ذلك العام. عند إعمار وسط بيروت في التسعينيات، كان من المفترض أن يتم ترميم المبنى، ووُضعت عدد من المشاريع من أجل ذلك وتم إجهاضها، ثم جرى الحديث عن مشاريع لهدمه من قبل مالكي العقار فأُطلقت الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمحافظة عليه وعدم هدمه، ولا يزال مبنى البيضة مقفلًا ومهجورًا حتى الآن.

على خط تماس آخر يقع "مبنى بركات" الذي أصبح "بيت بيروت"، ويقع بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية عند منطقة السوديكو. يتميز المبنى بهندسته المميزة من الخارج والداخل. صمّمه المهندس المعماري يوسف أفتيموس بتكليف من نيكولاس بركات وزوجته فيكتوريا عام 1924، ثم أضاف المهندس فؤاد قزح طابقين آخرين. يتألف المبنى من بناءين سكنيين، كل منهما يتكون من أربعة طوابق بالإضافة إلى مصطبة على السطح، ثمة جسور وأعمدة تربط البناءين كما توجد ردهة مركزية بينهما. وقد تم بناؤه على طريقة العمارة العثمانية باستخدام الحجر الجيري الملون بلون المغرّة الذي أعطى المبنى اسم "البيت الأصفر". مع اندلاع الحرب الأهلية غادر السكان المبنى وانتقلت إليه فصائل حزبية واتخذته مركزًا للقنص بسبب موقعه المتميز على الحدود بين المنطقتين، ولا تزال متاريس الرمل موجودة فيه حتى الآن وفجوات الرصاص على جدرانه. وقد عُرف أيضًا خلال الحرب بـ "بناء الموت".

يمكن أن يحكي كل متراس رملي في "مبنى بركات" الكثير لنا عن حكايا القتل الذكي عن بُعد! 


حوّلت بلدية بيروت مبنى بركات إلى ملكية عامة عام 2003 وأطلقت عليه اسم "بيت بيروت" وأخذت على عاتقها ترميمه وتحويله إلى "متحف ومركز ثقافي ومُدني". تم ترميم جزء من المبنى بالتعاون مع بلدية باريس، هو الترميم بلغة المعاصرة، تلك اللغة المنفذة على طريقة الحداثة التي تتنصل من الماضي فيفلت منها ويختفي. يتضمن المشروع إنشاء متحف لذاكرة الحرب الأهلية ويعرض تاريخ بيروت والحرب، لكن لم يتم افتتاحه. ومن ضمن خطة المشروع الاحتفاظ بالطابقين الأرضي والأول من واجهة المبنى المدمرة ومتاريس القناصة وفجوات الرصاص كشاهد للذاكرة وحيث يمكن أن يحكي كل متراس رملي الكثير لنا عن حكايا القتل الذكي عن بُعد! ينص المشروع أيضًا على تجهيز قاعات للأحداث الثقافية والفنية والموسيقية وفتح المبنى للجمهور، وقد استقبل المبنى عددًا من الأنشطة الفنية والشعرية (وكان لي مشاركة فيه ضمن أمسية شعرية لنادي القلم الدولي- فرع لبنان). وكانت المهندسة المعمارية منى حلاق قد جمعت الأغراض الشخصية لعدد من سكان المبنى وأبرزهم طبيب الأسنان نجيب الشمالي الذي كان يسكن في الطابق الأول وقدّمتهم في معرض تجهيزي عام 2001 بعنوان "وجوه ضائعة" كما كان لها معرض تجهيزي عام 2009 مستوحى من بقايا تركها سكان المبنى بعنوان "يوسف أفندي أفتيموس 1866-1952، عمارة فوق الزمن" كتحية توجهها إلى مهندس المبنى.

ثمة بضع مبانٍ من معالم هذه المدينة المنكوبة لا تزال شاهدة على الحرب، ربما نحتاج إليها كي نتذكر دائمًا ما فعلناه بأنفسنا...

من المباني التي لا تزال شاهدة على الاقتتال الطائفي المزمن "برج المر". بدأ إنشاء هذا المبنى في سبعينيات القرن الماضي وكانت تعود ملكية العقار للنائب السابق ميشال المر. كان المبنى يعتبر بناءً عصريًا يقوم على البناء السريع والأسقف المنخفضة مقارنة بأبنية ذلك الزمن. اندلعت الحرب قبل أن يتم تدشينه، لكن دشّنه القناصة فيما بعد بسبب تميّز موقعه قريبًا من وسط بيروت، والأهم لارتفاعه، فالمبنى الذي كان الأعلى في بيروت حتى عام 2014 يتألف من 34 طابقًا و510 نوافذ شكّلت سمة استراتيجية للميليشيات لا بل قلعة لهم توالوا عليها. بعد الحرب تحوّل المبنى إلى ثكنة عسكرية للسوريين، وبعد انسحابهم من لبنان عام 2005 استلمه الجيش اللبناني. وكان ميشال المر قد رفض التنازل عنه لشركة سوليدير إلا مقابل عائد مرتفع، وفي عام 2000 صدر قرار بانتقال البرج إلى ملكية سوليدير التي شرعت بعدد من الدراسات لترميم المبنى وتحويله إلى مركز تجاري وسكني ثم تقرّر هدمه ولكن توقفت فكرة الهدم بسبب التكلفة العالية، ولا يزال المبنى على حاله بوحشته وظلمته وذكريات القنص فيه.

"برج المر" في صورتين، وتظهر في الصورة الثانية الستارات الملونة التي وضعها الشاب جاد الخوري على نوافذ المبنى (Getty)


يُذكر أن المخرجة لينة غيبة أخرجت فيلمًا قصيرًا بعنوان "برج المر... برج المرارة" عام 2013 حيث وضعت للبرج رجلين يمضي بهما نحو المجهول مع انكسارة في الظهر، وحيث ينتقل المصعد من طابق لطابق وفي كل طابق تُروى قصة من قصص الحرب المؤلمة. وفي العام 2013 وضع الشاب جاد الخوري ستارات ملونة على نوافذ المبنى كله في رسالة أن هذا المبنى يستحق الحياة، لكنه أزالها بعد فترة إثر إنذار قضائي من شركة سوليدير.

وفي منطقة عين المريسة في بيروت المطلة على البحر يقع "فندق هوليداي إن" الذي بدأت بتأسيسه عام 1964 شركة "المركز المدني سان شارل" وهي شركة لبنانية مساهمة يملكها اللبناني الياس سابا والسوري اللبناني أرنست عابديني ثم اشترى الشيخ سعد الصباح (أمير الكويت عام 2006) 53% من الأسهم من أجل توسيع المشروع ليكون أكبر مجمع سكني وتجاري في لبنان ويضمّ المجمّع برجًا من 29 طابقًا ومبنى آخر مثلث الشكل وسوقًا تجارية، وكان من المفترض أن يكون المبنى سكنيًا ولكن تم تحويله إلى فندق خمس نجوم يتسع لـ520 غرفة. وقد شهد المبنى على العصر الذهبي لبيروت حين بدأ نجوم غناء مصر وشركات الإنتاج المصرية يتوافدون إلى لبنان، وكان مقرًا للشخصيات العالمية وللصحافيين الأجانب ومركز مؤتمرات دائم، وكانت نسبة تشغيله 100%.

 مع اندلاع الحرب تحوّل "فندق هوليداي إن" إلى قلعة للمسلحين


مع اندلاع الحرب تحوّل الفندق إلى قلعة للمسلحين، وشهد على ما كان يُعرف بمعركة الفنادق عام 1976 بين المسيحيين والأحزاب اليسارية، والتي كانت تعتبر المعركة الأبرز في تغيير مسار الحرب، وكان طرفا الصراع يعتبران الفندق هدفًا رمزيًا بدرجة كبيرة نظرًا لارتفاعه ولموقعه الاستراتيجي حيث يطل على البحر شمالًا ويكشف الأسواق التجارية شرقًا في وسط بيروت والحمراء حتى الروشة غربًا، وكان الطرف المسيحي يعتبره قلعة صمود للدفاع عن المناطق المسيحية. واجه الفندق بشاعة الموت وبشاعة الحرب منذ انطلاقتها ولا يزال بناؤه متينًا رغم الحرائق التي لا تزال آثارها عليه، فقد كان تصميمه الهندسي معدًّا لمواجهة الهزات الأرضية القوية. سيطرت القوات السورية عليه حتى انتهاء الحرب الأهلية، وفي عام 1991 كان من المتوقع إعادة تأهيله لكن خلافات نشبت بين المساهمين وتحديدًا بين ورثة عابديني والصبّاح بسبب تكلفة التأهيل المرتفعة، وتم ترميم فقط المبنى المثلث الملاصق للفندق ويتم تشغيله حاليًا بعوائد مرتفعة. وقد ألهم هوليداي إن عددًا من الروائيين والفنانين ويمكن أن نقرأ عن ما أحدثه من رعب في الحرب في "طيور الهوليداي إن" لربيع جابر، كما رسمه الفنان أيمن بعلبكي في عمل بعنوان "القناص" وقدّم الفنان البريطاني توم يونغ عددًا من الأعمال عنه.

"التياترو الكبير" مرممًا من الخارج فيما لا يزال خرابًا في الداخل


"التياترو الكبير" أو "المسرح الكبير" وهو أحد المسارح التاريخية العريقة. تم بناؤه في شارع الأمير بشير في وسط بيروت عام 1927 بمبادرة من جاك ثابت، وكان هاويًا للأدب الفرنسي، وصمّمه المهندس يوسف أفتيموس بمواصفات عالمية وكان هدف ثابت أن تأتي فرق الأوبرا من أوروبا إلى لبنان. شّيّد المبنى من ثلاث طبقات تعلوها قبة كانت تُفتح وتُغلق على الكهرباء للتهوية، وتميّز المسرح بكونه دائريًا يشبه في هندسته المسارح اللندنية القديمة، وقد تميّزت صالة المسرح بفخامة مقاعدها الحمراء وشرفاتها ومقصوراتها الواسعة لتشبه مسرح "الأوبرا" في فرنسا. كانت انطلاقة المسرح في 10 آذار/ مارس 1929 مع المسرحية الغنائية الأميركية "لا لا يا نانيت"، وتم استخدامه لشتى الأنشطة الثقافية على صعيد لبنان والعالم العربي والعالم، فقد اعتلى المسرح عدد من نجوم الطرب منهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجاة الصغيرة، ومثّلت على خشبته أهم الفرق المسرحية العربية والأوروبية. كما تم استخدامه كسينما واستقطب أشهر الأفلام منها أول فيلم ناطق بالعربية "الوردة البيضاء" (1931) والفيلم الأميركي "ذهب مع الريح" (1939). وعلى هذا المسرح جرى تأبين جبران خليل جبران عام 1931 وحضره حشد من الرؤساء والأدباء.

عام 1982 توقف العمل في التياترو الكبير. حلّ الخراب في المبنى بسبب القذائف التي طالته حيث يقع في وسط بيروت تمامًا بين الأبنية التي فرغت من سكانها وتحولت تلك الأمكنة إلى مدينة أشباح. بعد انتهاء الحرب، كانت هناك محاولات لترميم المبنى بإشراف من وزارة الثقافة اللبنانية وبطلب من المخرجة المسرحية نضال الأشقر، لكن المحاولات باءت بالفشل لكون المبنى أصبحت ملكيته لشركة سوليدير. تم تأهيل المسرح من الخارج فقط، ولا يزال خرابًا من الداخل. إبان ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 2019 اجتاح متظاهرون المسرح الكبير ورفعوا العلم اللبناني على قبّته في إشارة إلى أنه ملك للشعب اللبناني وليس لشركة خاصة ولكن شركة سوليدير عمدت إلى تسوير المبنى بالألواح الحديدية لمنع أي أحد من الدخول إليه.

فندق "سان جورج" ولا يزال مغلقًا حتى الآن ولكن مسبحه مفتوح للعامة، وقد علّق مالكوه لافتة كبيرة مكتوب عليها Stop Solidere (أوقفوا سوليدير)


من أشهر الفنادق "فندق سان جورج" وهو من أحد أقدم المعالم المتبقية في بيروت عند شاطئ البحر عند خليج الزيتونة. تم تصميمه في عشرينيات القرن الماضي على يد المهندس الراحل أنطون تابت مع مهندسين فرنسيين، وبدأ نشاطه عام 1934. تعود شهرته لأسباب عديدة، كان قبل الحرب مقرًا للشخصيات السياسية اللبنانية والعربية ولأثرياء لبنان، وكان مكان التقاء لكبار رجال الأعمال في مجال النفط والمصرفيين، والملوك والسفراء، كما زارته مارلين مونرو وإليزابيت تايلور وأم كلثوم وعدد غير قليل من المشاهير العالميين، وكان مقرًا للصحافيين العرب القادمين إلى لبنان. في الحرب كان فريسة لمعركة الفنادق عام 1976 وجزءًا من حصة الميليشيات التي تواجدت في المنطقة وللوجود السوري. بعد الحرب رفض مالكه فادي الخوري بيعه لشركة سوليدير، وفي عام 2005 تم استهداف الرئيس رفيق الحريري عند مروره أمام الفندق تمامًا ما تسبّب بهدم جزء منه بعد أن كان قد بدأ باستعادة نشاطه قبل فترة وجيزة فقط. ثم استولت شركة سوليدير على الشاطئ المحيط بفندق سان جورج وافتتحت "زيتونة باي" (تجمّع تجاري ومطاعم) في نفس المكان، ولا يزال الفندق مغلقًا حتى الآن ولكن مسبحه مفتوح للعامة، وقد علّق مالكوه لافتة كبيرة على طول المبنى مكتوب عليها Stop Solidere (أوقفوا سوليدير).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.