في القسم السابق ("ضفة ثالثة"، أمس)، كان لنا حوار مع الفنانة أميمة الخليل مع مشاركتها ضمن فعاليات "مهرجان العالم العربي" في مونتريال، وهنا الحوار الثاني مع الفنان نصير شمة الذي أجريناه إثر مشاركته في المهرجان بحفل موسيقي قدّم فيه عددًا من مقطوعاته الموسيقية، منها "قصيدة حب"، "تعاليم حورية"، و"تنويعات من التراث الفلسطيني"، وغيرها من المقطوعات الموسيقية المستوحاة من قصائد أهم الشعراء ومنهم لوركا وبدر شاكر السيّاب ومحمود درويش.
وكان شمّة قد وجّه تحية إلى المهرجان خلال الحفل الموسيقي، وقال فيها:
"خمس وعشرون عامًا هو عمر المهرجان، وهذا ليس سهلًا على الإطلاق، هذا جهد كبير ومهم وفيه صبر ودأب ومعاناة ومشاكل كثيرة، خصوصًا وأن المهرجان حرّ في اختياراته وفي توجهاته وفي الموقف الذي يتخذه، اليوم نرى صعوبة اتخاذ موقف، دول عظمى ليس لديها موقف، لذلك نحتفي اليوم في مهرجان العالم العربي باليوبيل الفضي، وهو مهرجان يؤكد على هويتنا، فالهوية ضرورية، مثل صوتنا، مثل حضورنا، مثل شخصياتنا، هي واجهة نطل منها على العالم، وأهنئ إدارته باليوبيل الفضي، فريق صغير في العدد، ولكن جهوده كبيرة مع كل هذه الشراكات من جميع أنحاء العالم، هذا شيء ليس سهلًا على الإطلاق".
هنا الحوار مع نصير شمة:
(*) تشارك في مونتريال بأمسية موسيقية ضمن مهرجان العالم العربي الذي يرفع شعار حنظلة هذا العام، فما الذي يعنيه لك أن تشارك في مونتريال وبمهرجان يوجّه تحية إلى غزة هذا العام في كل برمجته؟
في الفترة الأخيرة، أصبحت هناك قيود على كل ما يُكتب وما يُقال لصالح الحق والإنسانية والمنطق، ولذلك تراجعت الأصوات بالكامل، فالشعوب العربية في بلدان اللجوء تخشى أن تُسحب منها إقاماتها وجنسياتها لذلك ليس من السهل أن تقف بوجه هكذا تيار تقوده الصهيونية ومنظمات بعضها خفيّ وبعضها معلن. كل ما نعرفه أن هذه الحرب أسقطت كل الكون بدون استثناء، أسقطت كل الأقنعة، كشفت كل العالم وكل القيم التي تمثّلت بتأسيس الدول والمنظومات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، فأي قانون لحقوق الإنسان، أي قانون لحرية الرأي، أي قانون ديمقراطي، كله تهاوى أمام هذه البقعة الصغيرة من العالم. كشفت هذه الحرب إلى أي مدى هذا العالم كذاب، بأكمله. الدول القليلة التي حافظت على شرفها وسط هذا السيل من الإرهاب العالمي المنظّم ضد الشعب الفلسطيني تعيش بظروف غير سهلة، ومع ذلك قررت أن تقف مع الحق والمنطق والإنسانية ومع ما آمنت به من حرية رأي ومن حقوق. رأينا دولتين أو ثلاث دول أوروبية ومثلها من الدول العربية وقفت مع الشعب الفلسطيني، والباقي إذا لم يكن جزءًا مشاركًا في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني فهو ساكت وخائف ومتفرج. لذلك أن نرى مهرجانًا وسط كل هذه الظروف الصعبة هو من أكبر التحدّيات، وكل الذين قبلوا المشاركة في هذه الدورة من المهرجان وعنوانها الواضح غزة ورؤيتها الواضحة، هم أناس طوال تاريخهم مؤمنون بأن صوت الحق هو نفسه في كل زمان ومكان مهما اختلفت الأمور حولنا. لذلك نحن موجودون بقناعة، وبظروف نعرف أنها صعبة وقد تؤثر، ولكن هذا كله بكفّة والحق يعلو ولا يُعلى عليه بكفة ثانية.
أنا شخصيًا، بعد أن كنتُ مقيمًا في ألمانيا، وبعد ما حصل، لم أستطع البقاء في ألمانيا، غادرتها، لأني رأيت وجهًا آخر عن الغرب لم أكن أعرف أنه بهذا القدر.
نصير شمة وفرقته الموسيقية خلال أدائه مقطوعة موسيقية من وحي قصيدة "تعاليم حورية" لمحمود درويش (M. Belmellat ©) |
(*) قدّمت أعمالًا موسيقية لفلسطين منها عملك "باقون". هل ترى أن الموسيقى يمكن أن تشارك الوجع الإنساني وأن يكون لها صوت؟
"باقون" هو عمل غنائي، وهو موقف، ومن عنوانه نقرأ ذلك، هو واحد من الأعمال المتقنة شعرًا، لحنًا، توزيعًا، غناءً، وأداءً، ولكن لا يمكن أن يبث في القنوات التلفزيونية. وقد أوقفته يوتيوب بعد وصول عدد مشاهداته إلى أرقام قياسية، لذلك هي حرب كونية مثل شبكة الإنترنت، كلها شبكة مسخّرة بخدمة جهة ضد الشعب الفلسطيني، وهذا الشعب لا يحارب كيانًا الآن، بل يمكن القول إنه يحارب دولًا عظمى.
الموسيقى تمنح موقفًا ولكن أن تداوي جرحًا، أن تشبع جائعًا، من الصعب ذلك. من غير المسموح لك أن تعبّر أو تساعد. دول الطوق تعمل لصالح مصالح أخرى.
لا أخفيك أنني أشعر بالمهانة وبالذل بالعار، وأشعر بأني عاجز، وبكل أنواع المشاعر السلبية التي تجعلني أقول: أين نحن! في أي زمن! كيف للبشرية أن تكون هكذا! كيف للغرب أن يكون هكذا! الغرب الذي يجلد دول الشرق الأوسط والعالم الثالث بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويصدّرون لنا الشذوذ على أنه حرية، ولكن عندما تكون هناك إبادة يعتبرونها منطقية جدًا، كل هذا القتل والتدمير منطقي! يحدث كل هذا التدمير والعالم صامت، وفوق كل ذلك فإن القادم أسوأ. إن عدد الشهداء في تزايد، ولكن عندما يقولون مائة شهيد، يكون مثلهم وأكثر تحت الأنقاض، فالمفقودون أكثر من الشهداء.
في الموصل مثلًا، وبعد سنتين من المرحلة الداعشية، عندما كنا ننظف أزقة الموصل عبر جمعيتي (طريق الزهور الخيرية)، كانت هناك جثث تحت الردم.
نحن في زمن ينطبق عليه القول "من يهن يسهل الهوان عليه"، ونحن العرب استصغرنا أنفسنا أمام العالم فاستصغرنا العالم، وهذا الذي نراه في فلسطين ولبنان وسورية سيصل مرة ثانية إلى العراق ودول أخرى، طالما نحن مستمرون على هذا الهوان. وهذا يشبه الانهيار العربي في الأندلس... عندما تكالبت كل الجيوش على الأندلس.
(*) ماذا تقول لفلسطين ولغزة اليوم، ونحن نشهد على تحوّل أكثر تطرفًا في المجتمع الإسرائيلي نحو إنكار الفلسطيني تمامًا وسلبه أبسط حقوقه أكثر وأكثر؟
طبعًا هذا هو القادم، مع مجيء شخص مجنون للحكم في أميركا، وهو على ما يبدو يمثّل العقلية الأميركية. عندما يُنتخب ترامب بهذا الشكل الكبير، ومرة ثانية، فهذا يعني أن الشعب الأميركي بمعظمه هو هكذا. ترامب هو من يمثّل الشعب الأميركي، هذا الرجل المجنون الذي قد يقود العالم إلى الهاوية. الآن يقول إن الضفة الغربية يجب أن تكون إسرائيلية، وهذا يعني أن القادم سيكون أصعب. ليس عندنا شيء نقوله إلا أننا فقدنا إيماننا بالعالم الإسلامي، وبالعالم العربي، وبالإنسانية، وبحقوق الإنسان، وبالأمم المتحدة. عندنا إيمان فقط بصلابة الشعب الفلسطيني وقوته في الدفاع عن أرضه ومقدّساته.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى بدأت بالحجارة، حتى لو عدنا للحجارة، ومع قوة الإيمان، ومع صلابة هذا الشعب الذي عانى لأكثر من سبعة عقود، سيكون الحق حقًّا في النهاية ولا يمكن تغيير ذلك. ومهما ساعد العالم هذا الكيان، سيبقى حق الشعب الفلسطيني في أرضه، ولا أحد قادر على تغيير ذلك.
هنا في كندا أو في أميركا لا تزال حقوق الشعوب الأصلية، الهنود الحمر، موجودة ولا أحد قادر على أن يقضي عليها.
(*) بحكم احتكاكك مع موسيقيين عالميين، هل تجد تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، ومع ما يحدث في غزة؟
الشعوب في الغالب بنسبة 80% هي مع فلسطين بكل أطيافها، ولكن للأسف شاهدنا في معظم التظاهرات التي حصلت لأجل غزة في بلاد الحريات كيف كان رجال الشرطة يسحلون المتظاهرين والأساتذة في أكبر الجامعات. الشعوب شيء والحكومات شيء آخر. الحكومات لا تقودها شخصيات، بل تقودها منظومة واحدة. ويبدو أن الصهيونية جزء منها. هناك منظومة تقرّر أن السنوات القادمة يجب أن تكون سنينًا لتفكيك الأسرة، ورأينا كيف تم وضع مناهج دراسية للأطفال عن المثليين، وتظاهرات الدعم لهم. ومن ذلك مثلًا أن السنين القادمة يجب أن يحصل خلاف دين مع دين آخر. أو أن السنين القادمة يجب أن يحصل فيها فيضانات وزلازل. صرنا على يقين بوجود منظومة تحكم العالم.
(*) ماذا يعني لك أن تكون فنان اليونسكو للسلام العالمي؟ وأين تحدّد الخطر العالمي اليوم؟
اليونسكو هي منظمة للتربية والثقافة والعلوم، وفيها صلب عملي واهتماماتي، وقد تم تكليفي للمرة الرابعة، وعادة تكون مدة التكليف في الأمم المتحدة فقط لسنتين، ولي الشرف أن يتم التجديد لي وأن أكون فنان اليونسكو للسلام العالمي للسنة الثامنة، وهذه مسؤولية عزيزة على نفسي، ولدينا أهداف مشتركة ولا تزال هناك أشياء كونية علينا إنجازها، وتخدم ثقافتنا، وأتمنى من خلالها أن أحقق أشياء مهمة.
أما الخطر فهو اليمين الصاعد في العالم. هذا ليس خطرًا فقط عليّ أو عليك، هو خطر على الإنسانية وسيرجعنا إلى عصور الظلام، ولكنه منطقي قياسًا لما نراه في العالم، هو تشجيع لهذا الموقف الداعم لإسرائيل من الغرب ومن العالم الإسلامي، وشجّع اليمين على أن يكون له صوت مشابه. هذا اليمين يتبوأ مكانات عالية، كما حصل في فرنسا وبريطانيا وأميركا وألمانيا وإيطاليا. إذا عدنا للمرحلة منذ فوز ترامب، نرى فوز جونسون اليميني في بريطانيا ثم ميلوني في إيطاليا، وفي فرنسا فازت مارين لوبان، هذه النتائج طبيعية، نحن ذاهبون نحو يمين متطرف وليس يمينًا عاديًا، وهذا يقضي على كل إنجازات البشرية في آخر مائة سنة، وعلى نضالات الشعوب التي بدأت تنتخب وتقرّر، هذا كله سيُنسف بلمح البصر إذا استمرت الأمور على هذا المنوال.
(*) ألاحظ أن ثمة ردّة نحو العود في زمن استولت الآلات الغربية على قبضة الموسيقى العربية، كيف ترى تجربتك "بيت العود" في أكثر من بلد عربي في استعادة مكانة العود وتأثيرها الروحي على الإنسان؟
تجربة "بيت العود" نجحت نجاحًا كبيرًا وعُمّمت في العديد من الدول. عمر بيت العود 26 سنة في القاهرة، كما أنه موجود من عام 2011 في الإسكندرية، ومن عام 2008 في أبو ظبي، ومن عام 2018 في بغداد، ومن عام 2020 في الخرطوم، ومن عام 2024 في الرياض، وهناك طلبات بأن يكون في باريس وأماكن أخرى بالعالم. صحيح أنه شخصي وتحوّل إلى مؤسساتي، ولكنه أعاد التوازن إلى وجود الآلات العربية. ليس فقط "العود"، اسمه "بيت العود" ولكنه يُعنى بكل الثقافة العربية، والآلات العربية: القانون، الناي، البزق، الإيقاعات، وسندخل آلات أخرى. "بيت العود" في العراق سيُدخل آلات عراقية، وهذا وازَنَ على مدى آخر عقدين باستخدام الآلات العربية بشكل كبير جدًا، وأعاد الكفة لصالح الآلات العربية. الآن صار العود حاضرًا في مقدمة الاحتفالات، وهذا لم يكن موجودًا لولا جهودنا وجهود زملائنا في دول أخرى، من الفنانين، واستطعنا أن نعيد حاضر الثقافة العربية من خلال الآلات الموسيقية.
(*) أقمت معرضًا تشكيليًا هذا العام في أبو ظبي، وهو المعرض الأول لك. هذا التعدّد في أشكال الإبداع، بين الموسيقى والألوان التعبيرية التجريدية، هل هما عالم واحد يتحرك داخلك، تحويل الموسيقى إلى الألوان، أم ثمة أمر آخر تريد قوله تشكيليًا؟ وبأيّ اتّجاه موضوعات لوحاتك؟
الموسيقى والفن التشكيلي هما مساران متوازيان يسيران مع بعضهما، كل مسار أخذ طريقًا، ولكني خبّأت مسار التشكيل لصالح الموسيقى، وكذا مسار آخر، وليس فقط التشكيل. لأنه كان لا بدّ لي من أن تكون الشرفة التي أطلّ من خلالها هي شرفة واحدة في البداية إلى أن تترسخ وتصبح لها مكانتها، وقد بقيت المسارات الأخرى في داخلي لأنها حقيقية، هي ليست مجرّد رغبة، هي عمل 40 سنة. منذ 40 سنة وأنا أشتغل في الألوان وفي اللوحات لنفسي؛ عندي أكثر من 200 عمل مشغول بأحجام مختلفة وبكثافة، كلها مختبئة. عندما تحصل أحداث كبيرة في حياتي أحيانًا أعجز عن العزف أو عن التمرين فألجأ للّوحة، لذلك أنصح الناس أن يعلّموا أبناءهم إما الرسم وإما الموسيقى، لأن هذين الشكلين التعبيريين من أكثر الأشكال التي تخلّص الإنسان من أقسى الضغوطات التي نعيشها.
بخصوص موضوعاتي التشكيلية، أنا مهتم بالبيئة، وعندي مشاريع خيرية بيئية، هذا الجانب يسحرني، في العقل حتى الباطن. لذلك عندما تم إطلاق التيليسكوب العظيم جايمس عام 2021، وبدأنا نكتشف عوالم جديدة في الأكوان، معظمها سكن في مخيّلتي، وحاولت أن أربط بين الخشب وهو نشارة العود، وأصنع منها عجينة ملونة وأعيد تكوين الكون من جديد. لذلك الكثير من أعمالي تشبه تضاريس الكواكب ولكن بطريقة غير مباشرة، وهي تجريدية وفن حديث ولكن فيها شيء من هذه الجوانب، وفيها من المقامات، كل مقام موسيقي لديه شخصية بلوحاتي، أعدت تدوير الأشياء، فالنشارة أعيدها بشكل آخر لتكون مفيدة في عمل فني ومعالج بحيث يعيش لسنوات طويلة.
(*) كيف تنظر إلى أرض الحضارات العراق اليوم فنيًا، على جميع الأصعدة؟ وهل توجعك مآلات الوطن في مكان ما بعدما أوجعك الماضي كثيرًا؟
العراق مثل فلسطين بشكل من الأشكال، منطقة صراع لأنها محاطة بدول لديها أطماع وعندها مشاريع كثيرة، لذلك لا يهدأ هذا البلد. يهدأ لسنتين ويعود لحالة الصراع. كلنا أبناء العراق حاولنا أن نعيد شيئًا من روح العراق، ربما نجحنا بأن نضيء شمعة حقيقية، وهذه الشمعة تطورت وأعادت إعمار بغداد.
اليوم بغداد أفضل من السنوات السابقة. في السنتين الأخيرتين تحسّنت كثيرًا، والاهتمام بالثقافة بدأ يعود، الطبقة التي كانت ترعى الفن والثقافة وتقتني الأعمال الفنية تغيّرت، وجاءت طبقة جديدة ليس لها علاقة بالثقافة والفنون، وهمّها اليومي هو المال، وهذا يؤثّر، إلى أن يُخلق جيل جديد من الطبقة الوسطى المهتم بالفنون حتى يكبر ويصير قادرًا على الاقتناء. الحركة التشكيلية في العراق موجودة ولكن الفنانين يعانون من عدم اقتناء أعمالهم، وهم فنانون كبار. هذا يعود إلى أن العوائل العريقة التي كانت موجودة في العراق ولها تاريخ تدمّرت. هناك أشياء غير مرئية بالمجتمعات، غير البناء، هناك بناء الإنسان، وهذا أصعب من بناء الشوارع والحجر، ولكن اليوم العراق بكل الأحوال أفضل من الأمس، وربما من قبل ذلك أيضًا.
(*) شعوب العالم العربي باتت شعوبا استهلاكية، وهذا يُسقط الذائقة الفنية، لم برأيك تتجه الأجواء بعيدًا عن الثقافات الحقيقية؟
عندما يتعلق الأمر بالشعب فهذا يحتاج إلى قرارات دولية، وليس قرارات أشخاص أو مؤسسات. مثال على ذلك، تم احتلال العراق عام 2003 وحتى الآن، وبعد "خروج الأميركيين" من العراق، ما حدث هو انفجار بأعداد المولات والمطاعم، لم يتم بناء مسرح واحد. المسرح الذي دُمّر أعيد ترميمه بواسطة الاستجداء من جانب المدراء الذين استلموه، يذهبون ويترجّون هذا وذاك، من أجل المساهمة في بنائه. حتى المسارح التي كانت موجودة، كان همّنا أن تعود بالحدّ الأدنى، من دون تكييف أو تهوئة. وهذا يعطي مؤشرًا إلى أين تتجه الدول. كان العراق بلدًا مليئًا بكل أشكال الثقافة. في الثمانينيات، وهو الزمن الذي أنبذه شخصيًا، زمن صدام، وفي عزّ الظروف الصعبة، كان عدد الغاليريهات حوالي الثمانين في بغداد، وكانت المسارح تشتغل بشكل يومي، كان الممثلون كلهم يعملون، والسينما أيضًا، الآن العراق عبارة عن مولات ومطاعم وكافيهات، وكأن الحياة مختصرة بهذا الشكل. هذا الأمر يحتاح إلى قرارات دولة. هذه السنة بدأ الدعم للمسرح والسينما وللدراما، ويتم تخصيص مبالغ جيدة لها، ولكن البنية التحتية لا تزال صفرًا.
هذا المسرح في مونتريال Place Des Arts الذي قدّمت على أحد مسارحه العرض الموسيقي، نحتاج مثله 4 في بغداد، وفي كل محافظة في العراق، وبعد عشر سنين، سنرى النتائج لو حدث ذاك، وستكون الأجواء الثقافية مختلفة، وتصبح للناس ذائقة ومسرح وموسيقى ومستوى فني عال، أما الحال إذا استمرت كما هي عليه، فلا تبشّر بالخير.
(*) يشارك لبنان بوجع غزة اليوم، فماذا تقول للبنان وللّبنانيين؟
لبنان يدفع ثمنًا كبيرًا وهو ثمن الضعف العربي، لبنان لا يجب أن يُترك وحده، ولا يجب أن يُترك لإيران كي تدافع عنه، أو أن نحارب نيابة عنها. كان يجب اتخاذ موقف كبير ومشرّف، ولكن متى كان هذا الموقف! العرب اجتمعوا لتدمير العراق ودمّروه بالكامل، ودمّروا جيشه، باعترافاتهم، وبالمليارات التي رُصدت لتدمير العراق. البلدان التي يمكن أن تقف ضد قوى الشر هي كلها إما محيّدة تمامًا وإما مدمّرة تمامًا. لبنان إذا تُرك وحده، قد يكون لقمة سهلة، ولكن الشعب اللبناني لم يقل كلمته بالكامل.
نحن نخشى على لبنان من أن يتم تأجيج فيه حرب أهلية داخلية. يوجد خطر دائم لحصول حرب بسبب العدد الكبير من المذاهب والطوائف والأحزاب الطائفية في لبنان، ولم تتم معالجة ذلك بمواطنة مهمة، وهذا يشكّل خطرًا من أن يذهب البلد لحرب أهلية، وتخترقه إسرائيل بسهولة، وفيما بعد، سنطالب بتحرير لبنان وانسحاب الجيش الإسرائيلي. هذه سياستهم، يأخذون جزءًا ثم يأخذون جزءًا آخر ثم ينسحبون منه ليحتفظوا بالجزء الأول، وهكذا تذهب فلسطين بالكامل. هي مسائل مرتبطة ببعضها ارتباطًا جذريًا، ولسنا في زمن المعجزات، لذلك فإن الأمل فقط بالشعوب.