هي ليست حربًا عادية على لبنان، بل أكثر من ذلك، هي قبل أي شيء درسٌ لكل العالم العربي، أن انظروا إلى أن من يقف مع فلسطين، سيُباد كما تُباد... نكتب وفي القلب غصة وحزن عميق من حقبة إمبريالية غربية تزداد قوة بعد مائة عام من سيطرتها على العالم العربي، وإذ بها تحوّله إلى لوحات قاتمة منفصلة عن بعضها، وتكاد تكون متنازعة فيما بينها. وإذ تضع إسرائيل أنيابها على لبنان لتقضم ما تيسّر لها، نخاف من أن يصمت العالم كما صمت على بؤس غزة وحزنها الدامي عامًا كاملًا، وبعد. تبقى أصوات أصدقاء بيروت الحقيقيين وحدها تسكّن قلب هذه المدينة التي لا تهدأ، يتفقدّها هنا أدباء من العالم العربي في رسائل حكوا فيها عن بلد مسكونٍ بالحرية والإصرار على الحياة: محمود شقير، سيف الرحبي، واسيني الأعرج، السعيد بوطاجين، عبد الهادي سعدون، صفاء سالم إسكندر، وعبد الوهاب الملوح.
محمود شقير- روائي فلسطيني (القدس)
هي بيروت....
زرتها مرَّة أولى أواسط ستّينيّات القرن العشرين، وكنت آنذاك طالبًا في كلية الآداب في جامعة دمشق.
وقد أُعجبتُ بما فيها من تعدّدية وتعايش، ومن حراك ثقافي متنوّع وانفتاح على ثقافات العالم، وكنتُ أخطو خطواتي الأولى في عالم الكتابة، وكانت بيروت مركز إشعاع ثقافي رصين.
ثمَّ جئتها منفيًّا عام 1975. فكَّ الضابط الإسرائيلي العصبات السود عن عيوننا، وكنّا خمسة مبعدين من السجون الإسرائيلية؛ اثنين من غزّة واثنين من القدس وواحدًا من رام الله. قال لنا الضابط: أنتم الآن على الحدود مع لبنان (حيث تدور حرب ضارية الآن تستهدف الناس الآمنين وكل مظهر من مظاهر الحياة؛ بدءًا من الجنوب وليس انتهاء بالضاحية الجنوبية في بيروت). قلنا له: سنعود إلى بلادنا (وقد عدنا).
عشتُ في بيروت الأشهر الأولى للحرب الأهليَّة القاسية، (ثمة محاولات الآن لإشعالها من جديد، لكنّ هذه المحاولات لن تنجح بسبب حرص اللبنانيين على وحدتهم الوطنية).
فيما بعد وحتى هذا العام، نشرت لي دار نوفل البيروتية ثمانية من كتبي، وكان أوَّلها الكتاب القصصي: "القدس وحدها هناك"، (وهي وحدها الآن مثلما هي بيروت وحدها إلا من بعض دعم وإسناد، بعد أن كانت وما زالت هي الداعم لغزّة ضدّ العدوان، والمساند لها برغم التضحيات الجسام).
أخيرًا أقول: ظلَّت لبيروت منذ زيارتي الأولى لها حظوة في قلبي ولا تزال، وسأظل أقول: أحبّها بمقدار حبّي للقدس.
سيف الرحبي- شاعر عماني
إنه الارتطام...
تتوحّد ساحة المجزرة، ساحة التراجيديا غير المسبوقة ربما في تاريخ الحروب والمآسي البشرية، بين فلسطين ولبنان، اللتين طالما امتزجتْ دماؤهما وتوحّدت في محطات ومفاصلَ كثيرة من زمن الانحطاط العربي والإنساني الراهن. زياد خداش من فلسطين يحدّثني عن ليلة الشهداء المرعبة وكل الليالي والأيام التي تستعصي على العد والإحصاء. شوقي بزيع في رسالة صوتية من لبنان يرد على سؤالي أن المآسي والشتات الدامي إثر التدمير الأكثر وحشية. أسطورة خراب لم نعرفها نحن الذين عشنا كل الحروب والمآسي اللبنانية العاتية، يضيف شوقي أنه مع پول شاوول المتعَب كما عباس بيضون وعلوية صبح وجنان الخليل وآخرين ربما يختلسون لحظات بين الغارات والدَّوِيّ الجهنمي الذي يترك حطامه المتشظي في الأحداق والقلوب، يجلسون في مكان من "الحمراء" التي "أضحت يبابًا وأضحى أهلها ارتحلوا" كي يُحسّوا من خلال أحاديثَ ونظراتٍ حيرى بأنهم ما زالوا أحياء ما زالوا لم يلتحقوا بركب الراحلين إلى رحاب بارئهم. يجلسون خلسةً وسط ذلك الحطام من المباني والذكريات الغزيرة والوجوه المشرقة التي عبرت هذا المكان التي صنعت مجد الثقافة العربية، يجلسون وسط تلك الوحشة المترامية بينما السفينة تغرق إلى أعماق لُجَجِ الدم والألم، الفقد والدمار. وقبل زياد وشوقي تواصلت مع أحمد علي الزين الذي لم أره بمثل هذا اليأس والحزن العميقَين هو الذي كنا نلجأ إليه وقت الأزمات العاصفة ليحوّل بمرحٍ وعبثٍ يخفي من الحزن ما يخفيه، إلى نكتة وفكاهة سوداء. صار يجيب بكلمات قليلة مضرجة بدماء وأوجاع القرون. تذكرت عبارة غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا": "أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذا النحو الفاجع؟" التي تنطبق على فلسطين ولبنان وبقاعٍ كثيرة، لا أحد في اللحظة الراهنة المحتدمة يحار جوابًا أو سؤالًا إنه الارتطام والحيرة الكاسرة.
واسيني الأعرج- روائي جزائري
لُبْنَانُ الَّذِي أحْرَقتْهُ الأيَادِي
1- زحلة
ما تزال رائحة الرماد في أنفي. من أين تأتي والبلاد تمارس طقوس الحياة كما تشتهيها، وبقوة غير مسبوقة، وكأن الموت دينامية عنيدة تدفع اللبنانيين إلى الإصرار على الحياة أكثر وبعنف، والبناء وبعدم التسليم بسلطان النار التي تأكل الأخضر واليابس.
هناك نداءات داخلية لا ندرك عظمتها وقوة جاذبياتها إلا يعد سنوات طويلة جدًا، فنفتح أعيننا فجأة وكأننا نقوم من غفوة كبيرة استمرت طويلًا، شبيهة بغفوة فتيان أهل الكهف.
أول مرة، عندما زرت بيروت ولبنان قادما من دمشق التي كنت أقيم فيها، بدأت رحلتي من زحلة، مع صديق جزائري كان في المقاومة الفلسطينية. كان عمري يومها 24 سنة. كنت مستغربًا من عدد المعابر التي قطعناها، في عز الحرب الأهلية اللبنانية، في سنة 1978. ما جرح قلبي هو مقام السيدة العذراء، سيدة زحلة الذي كان في وضعية كارثية لا تشبهه. كانت المدينة تعيش خراب الحرب اللبنانية المدمرة بصبر كبير وكأنها سيدة الخلاص العظيم. في زمن كان فيه الإنسان يُقتل فيها على الهوية. لهذا كان صديقي يتحرك حركة العارف مثل الذي يمشي في حقل ألغام. في كل معبر كنا نمر عليه، كان الطريق يفتح أمامه بجملة كان يقولها. لا أعرف السحر الذي كان يملكه للتأثير على أصحاب البواريد الذين لا ينتظرون إلا الإشارات للفعل القاسي. كان صديقي صيدلانيًا محترمًا في المقاومة وسخر حياتها كلها لها. على الرغم من طمأنته لي إذ أكد لي أن المخاطر كبيرة، لكن عظمة المدينة وناسها هي أنها كلما انكسر فيها جدار أو بيت، قام في مكانه حي. كنت أرى البواريد في الأيدي وأشم روائحها وأجدني في قريتي طفلا في عز الحرب الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي التي سرقت والدي الذي توفي تحت التعذيب.
حكى لي صديقي وبعض الزحلاويين الذين التقينا بهم، كثيرًا عن شهر أيار/ مايو العظيم في تلك المدينة الساحرة، لكن أيار يومها كان حزينًا، يُلحظ ذلك في عيون الناس الوجلة.
اليوم لا أكتب عن هذه المدينة لأني أحبها، أو لأنها المدينة الأولى التي ربطتني بلبنان الذي أحب وبيروت الساحرة، ولكني أكتب، لأني في غفوتي سمعت نداءها، فطرت نحوها بقلبي وبكل حواسي، لدرجة أني أراني فيها بكل نعومتها ودفئها. هل يفعل الحب الخفي فينا ذلك كله؟
ما زلت أحفظ تلك الحالة الدرامية التي كانت فيها العذراء "سيدة زحلة والبقاع" بسبب الحرب، لكني مؤمن أن المقامات الرمزية العظيمة لا تموت، فهي تجد دومًا طريقها نحو المجد والخلاص، وتسلك طريق أيار، شهر التكريم الأعظم، حيث يلتقي الناس في كنيستها التي تمتد على مساحة 450 مترًا مربّعًا، وترتفع عاليًا، حيث يقوم تمثال العذراء البرونزي على برج يقول المختصون إنه الأعلى في لبنان. حتى لو لم يكن، فارتفاعه الشاهق، على رأس الجبل بثبات وقوة شموخ وطول يتجاوز 54 مترا، يعطي هذا الإحساس ويثير الدوار. تم نحت هذا التمثال في سنة 1968، ليصبح بوصلة المرتحل في سهل البقاع، يُرى من بعيد ويدل المسافر على المسالك الصعبة. صاحب فكرة تمثال العذراء هو الأب يوسف الجميل اليسوعي، تعبيرًا عن الهوية الدينية للمدينة بارقى الأشكال الإنسانية. وكأن المدينة لم تكن تنتظر إلاّ هذا النداء لينتقل من مجرد الفكرة إلى الحقيقة الموضوعية بعد أقل من عشر سنوات. ويكتمل البناء في 1968 في عهد المطران افتيموس يواكيم الذي انتقل شخصيًا إلى إيطاليا ليشرف على تصميم وتجسد تمثال العذراء "سيدة زحلة والبقاع". صمّم التمثال الفنان الإيطالي بياروتي، بطول ثمانية أمتار ونصف المتر، تظهر فيه العذراء وهي تحمل على ساعدها طفلها، وبيمينها عنقود عنب، فيما الطفل يسوع يحمل بشماله ثلاث سنابل قمح إشارة رمزية إلى هوية المدينة التي تميّزت بكرْمِها وبسهلها الغني بزراعة القمح. تبرعات الناس الطيبين لإنجاز المشروع ماديًا كانت كبيرة، وكان لأسطوانة السيدة فيروز التي بها ترنيمتي "يا أم الله"، ويا "مريم البكر" ولحضور الشاعر الكبير سعيد عقل، الدور الرمزي الفعال في دفع الناس نحو المزيد من الالتزام المالي. استقبال التمثال في زحلة، يوم نقل من إيطاليا إلى زحلة، كان عظيمًا واحتفاليًا، ضاهى بأهميته الإحتفالات بخميس الجسد، وهو تقليد سنوي في مدينة زحلة يعيد استذكار الأعجوبة التي نجتها من الطاعون.
والآن؟ لا شيء الآن سوى البياض والدهشة. أعود إلى لحظة البدايات، ما الذي قادني إلى زيارة لبنان في عز حرب أهلية حارقة؟ لماذا المرور عبر زحلة وليس مدينة أخرى؟ ما القوة الكامنة في الأعماق التي تجعل اليوم هذه الزيارة تستيقظ دفعة واحدة بعد أكثر من أربعين سنة غياب؟ كيف تحملت رائحة البارود الذي كان يُشَمُّ في كل مكان، أنا طفل الحروب؟ من أين خرج ذلك الصوت الأنثوي الساحر والغامض، ليعيدني إلى مدينة قضيت فيها ليلة واحدة، كانت كافية لتسجنني في حبها العمر كله؟
لا شيء سوى البياض والدهشة، في هذا الفجر الزحلاوي الناعم.
"هدوء تام في هذا الصباح. زحلة لا تزال نائمة. ندف الثلج تتساقط على قرميدها الأحمر لكأنها غارقة في فالس جميل خزنته طويلًا في ذاكرتها قبل أن تستسلم له. دخان المدافئ يتعالى شيئًا فشيئًا من بعض البيوتات. يتماوج مع صوت فيروز وطعم النسكافيه ودقات قلب لا يهتف إلا باسمك الفاتن بشكلٍ ساحر. أي سحر ينتاب الآن هذه المدينة".
2- بيروت، قصر البيكاديللي
وأنت تمشي في داخله، تشم رائحة بول الفئران التي عششت فيه، وتصلك من زاوية مظلمة قطرات الماء التي تسيل في سكينة وهدوء ورتابة وتواتر. في عز الحرب الأهلية، كان قصر البيكاديللي منارة الثقافة اللبنانية والعالمية والجمال والأناقة. في 2000 امتدت له يد قاتلة، فحوّلته إلى رماد، ليسهل الانقضاض عليه وبيعه لرجال المال السهل، وتحويله إلى مول تافه، ونزع روحه نهائيًا. هو الآن بناية ميتة تقاوم بالبقاء فقط.
بيروت الرمزية، المدينة الكوزموبوليت المتعددة ثقافيًا وحضاريًا، التي احتلت مشهد السبعينيات، انكسرت، وفقدت بعض نسغها، يوم انكسر البيكاديلّلي وتحول إلى بقايا عظام لزمن انتهى. لم يكن انفجار 04 آب/ أغسطس المدمر (رابع أقوى انفجار في العالم) الذي كاد يمسح مدينة بكاملها من على الخريطة، (والحرب التي يعيشها لبنان اليوم) إلا تنويعًا عامًا على سلسلة الفواجع التي ألمّت بالمدينة منذ الحرب الأهلية التي أبانت عن شراسة هذبتها الثقافة طويلًا، قبل أن تسيرها الأحقاد الدفينة والخلافات المدمرة. امتصّ البيكاديلّلي في وقت وجيز وبالوسيط الفني فقط، كل حرائقها وأحقادها. مسرح فخم وجميل، يجبرك على الأناقة المسبقة لتحلم أن تكون من بين 800 حاضر للسهرات. كيف للذاكرة الجمعية أن تتخلّى عن معلم عظيم بحجم البيكاديللي بسهولة وتصبح فجأة غير معنية به، وألا توليه الاهتمام الذي يليق به؟ بل لم يعد يعني لها أي شيء، مع أن لا أحد من العاقلين، ينفي رمزيته الفنية الحية والمتقدة؟ فقد تأسس في سنة 1966، وافتتح بفرقة موسيقية من فيينّا حضروا كل من شكلوا الخامة الثقافية والسياسية اللبنانية من رؤساء حكومة ووزراء وشخصيات اقتصادية فاعلة. واستقبلت قاعة العروض أول فيلم عالمي كبير: الدكتور جيفاغو، بطولة عمر الشريف.
ثم الكوميديات الموسيقية للأخوين الرحباني مثل "لولو"، "هالة والملك" (1967)، "الشخص" (1968)، "يعيش يعيش" (1970)، "ناس من ورق" (1971) وغيرها. شهد البيكاديللّي تنامي وبروز تجربة الرحابنة في الكوميديا الموسيقية في عمق مسرح البيكاديللّي، بزغ نجم فيروز هناك أيضًا، لدرجة أن ظن الكثيرون أن البيكاديلّلي ملكية للرحابنة من شدة حضورهم على ركحه، بينما كانت تسيره وقتها شركة ماميش- عيتاني.
ولكي تحصل على مكان، أي على كرسي لحضور حفلة من حفلات فيروز، عليك أن تنتظر شهرًا كاملًا وأكثر، لأن العروض كلها ممتلئة. لكن البيكاديلّلي الحامل في جوهره لبذرتي الحياة والموت، هو نفسه المكان الذي شهد نهاية فيه شراكة الرحابنة وانفصال فيروز، قبل أن يحتل المشهد الرحباني الابن، زياد، الذي كسر النظام الكلاسيكي لفيروز وطعمه بحداثة الآلات والأنواع الشعبية كالجاز، وأخرجه من دائرة الكلاسيك، وقرّبه من الشارع أكثر وانشغالات الجيل الجديد، من 1980-1990 وجدّد بقوة في ريبيتوار أمه الفني، مثل "وحدُن"، "عهدير البوسطة"، "كيفك إنت" وغيرها. وبدا كأن جمهورًا آخر بدأ يرتاد البيكاديلّلي. شهد المسرح أو القصر كما كان يسميه البعض، مرور كبار نجوم الفن العالمي، داليدا، شارل أوزنافور، تيودوراكيس، سلوى قطريب، عادل إمام وغيرهم، مما أعطاه بعدًا أوسع.
خرج مسرح البيكاديلّلي سالمًا من الحرب الأهلية ربما لأنه وضع نفسه في دائرة أوسع: لبنان والعالم، ورفض التشرذم والتعبيرات الحزبية. ذاكرة حية لم تدخل للأسف في اهتمامات الذين قادوا مشروع تجديد بيروت العظمى، بيروت ما بعد الحرب، فاهتموا بالمتاجر الواسعة، وبالسوليدير، وكأن بيروت العنيقة التي نشطت في عز الحرب، وقاومت بسبلها الفنية العالية، الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي 1982 الذي أجبر ياسر عرفات للتخفي في بيكاديللي برفقة بعض رفاقه، كان ينام في القبو التحتي للمسرح، ولا أحد كان يعلم باستثناء المقربين جدًا، انتهت تلك الحقبة ولم تعد إلا أصداء خبر. عاشت المرحومة سلوى قطريب جزءًا من حياتها الفنية فيه، وغنت لبنان الجميل قبل أن يطويها الموت والنسيان. شيء ما في بيروت شديد القسوة. النسيان السريع؟ التخلي عما تم تأسيسه والبداية من الصفر؟ هل لأن عمر الأجيال قصير في لبنان؟ وبالتالي يصبح تذكر الماضي صعبًا، للتمكن من العيش؟ أم أن في لبنان البيزنس أصبح يمر قبل أي شيء آخر؟ أسئلة تتراكم وتبقى الإجابات معلقة. ما الذي قادني اليوم نحو هذا المعلم؟ هل هو انفجار 4 آب/ أغسطس، أم موته المبكر وتغييبه في شارع الحمراء الذي لم يعد شارع السبعينيات الحي أبدًا؟ كنت يومها مصرًا على رؤية "بترا" وفيروز، ونصري شمس الدين، في معرض دمشق الدولي، يوم تم عرض الكوميديا الموسيقية التراجيدية بترا، لكني لم أفلح، بسبب الوقت الذي لم يكن يومها في صالحي. حزنت كثيرًا، وانتظرت الفرصة التي لم تمنح لي إلا بعد سنة. فقد عرضت "بترا" على مدار السنتين في البيكاديلّلي وكازينو لبنان. قرأت بأن "بترا" ستعرض ثانية على مسرح البيكاديلّلي، في جانفي (كانون الثاني) 1978 إذا لم تخنّي الذاكرة. الحرب الأهلية مشتعلة. ركبت رأسي ووجدت من يحجز لي مكانًا، وسافرت إلى بيروت، بالمرور على الطريق العسكري، برفقة صديق فلسطيني كان يعرف المسالك جيدًا. وقتها كان المتصارعون يتذابحون على الهوية. ليس شجاعة مني سوى الشغف والجنون وسلطة عمر 24 سنة. ما بقي في ذاكرتي من تلك السهرة، أكيد شاكيلا (فيروز) وهي ما بين أمومتها (ابنتها ذات السبعة أعوام، الرهينة) وواجبها. فقد ذهب زوجها الملك (جوزيف ناصيف) لمحاربة الرومان الغزاة الذين كانوا يريدون نهب الشرق وخيراته. يحاول الجنديان الرومانيان باتريكوس (أنطوان كرباج) ولايوس (أندريه جدعون) التخفي ضمن القوافل، لإحداث تصدع ما في المملكة. يختطفان الصغيرة ابنة الملك، ويهدد باتريكوس الملكة بموت ابنتها إن هي لم تقنع زوجها بالتراجع والانسحاب من المناطق التي حررها. لكنها ترفض أن تقايض حياة أمة بأمومتها. وكان ثمن الانتصار غاليًا.
في ذلك اليوم اكتشفت مسرح البيكاديللي من الداخل بثرياه المدهشة، التي تنزل وتصعد حسب الحاجة. والبيانو الساحر الذي يخرج من اللامكان، من تحت الركح قبل أن يغلق وعندما ينتهي العازف من أداء وصلاته بالخصوص أيام العروض السينمائية، ينزل من جديد إلى تحت. الستائر الحمراء المتجانسة والأنيقة التي التهمها الحريق، بنفس لون الكراسي الوثيرة. كيف لذلك كله أن ينتهي في لمح البصر ويتحول إلى أطلال وكأن شيئًا لم يكن؟ وعلى الرغم من مآسي الحروب، عاد البيكاديللي إلى نشاطه من جديد بصعوبة، لكنه في 19 آب/ أغسطس 2000 كانت الضربة القاضية. صمت البيكاديلّلي نهائيا، هو الذي لم تسكته الحروب المتتالية، أحرق، بسبب يد قاتلة؟ سهوًا بسبب سيجارة من عامل من عمال الديكور، تماس كهربائي ليلي؟ لا تحقيق في هذا السياق يثبت العفوية، لأن أصابع الاتهام تذهب أيضًا نحو بعض من كان يزعجهم هذا المسرح الجميل والثقافي؟ الذي ظل من 1966-2000 رمزًا لتجميع اللبنانيين حول الأكثر خلودًا: الفن والإنسان. كان الحريق الضربة القاتلة للمسرح والمدينة. بعدها بدأ عصر آخر، الانحطاط الكلي، المساومات المتتالية لتحويل نشاطات البيكاديلّلي باتجاه ما هو تجاري بحكم موقعه في عمق الحمراء؟ مول الشرق الكبير مثلًا؟ أو حتى تهديمه وإعادة بنائه وفق المصالح المالية المستجدة، قبل أن تستعيده وزارة الثقافة التي حمته من الدمار، لكنها لم تتمكن من أن تعيد له الحياة. ربما لأن الزمن تغيّر كثيرًا، وأن غالبية الشباب لا تعرف عنه أكثر من كونه بناية مغلقة منذ سنوات طويلة، ولا دور لها. التاريخ الذي يحمله قصر البيكاديللي هو نفسه جمال لبنان المشتهى الذي أصبح معبرًا لكل الفنانين والمثقفين الضائعين الذين سرقت منهم أوطانهم، ونفسًا ناعمًا من الحرية، قبل أن تأتي يد لبنانية- عربية- أجنبية، وإسرائيلية، لا يرضيها النموذج العربي للحياة الحرة، حتى ولو كان هذا النموذج هشًا، وأسسه ليست عميقة بالشكل الذي يحميه من العواصف الدينية والطائفية، أبدًا، لكنه يكفي أنه وجهة للحرية كان يمكن أن تتأصل وتتثبت، فحولت كراسيه الجميلة إلى رماد؟
واليوم، بعد كل هذا الزمن، في ظل حرب مسعورة نتساءل إذا لم تكن تلك اليد التي أحرقت البيكاديللي وحاولت مسحه من الخارطة الفنية والحياتية، ودمرت الميناء بسلطة النار والمتفجرات، هي من يبيد الضاحية ولبنان باتجاه مشروع تفكيكي لم يعد يُخفى على أحد؟
عبد الهادي سعدون- كاتب وأكاديمي عراقي (مدريد)
ذكرى وعبق لبنان
حتى لو لم أكن لبنانيًا، فكل شيء في داخلي له ذكرى وعبق لبنان، من بيروت حتى الجنوب. ذكرى العشق للناس والطبيعة والكتب والشعراء والروائيين الذي تعلمت منهم ومعهم معنى أن تفرض الحجارة ثقلها بحكم التاريخ والمقاومة والتراث الطويل من الفينيقيين حتى اليوم. هل يمكنني تصوّر أرض بحجم لبنان لا يمكن أن تكون إلا وفيها ليس إرثًا تاريخيًا أو أدبيًا ولا حجر منها من التي مررت بها ولمسته وتوسّدته ذات يوم، ليس فيه حكاية وأثر وتاريخ يناجيك ويسرد أمامك حولياته المطولة. لبنان الذي عشته لسنين طويلة وأغلب نصوصي الروائية الأخيرة خرجت من رحمه ورحم حكاياته وعلاقتي به، لا أعتقد أن أحدًا قادر على إنهائه أو تدميره، فهو حتى في الدمار يمارس غوايته بالسرد والحكي والغناء، ولم لا والتباهي بأنه رمز الرقة والجمال والفن الفيروزي بامتياز. آخر نظرة لي قبل مغادرة جنوب لبنان، بعد سنتين من الإقامة فيه عام 2012، كانت من خلال كافيتريا صغيرة بالقرب من بوابة فاطمة، كنت رفقة لبناني جنوبي، دخّنا آخر سيجارة معًا، وعندما ودّعته، قال لي ما معناه، لو عدنا لرؤيتك بيننا لا تنسى أنني سأكون ها هنا مواظبًا على رؤية شريط الخط الأزرق وستحمينا خرزة فاطمة من عيون الأغراب... ثم أضاف: "وإن لم تجدني بعد أعوام، حتمًا ستجد فاطمة قائمة وبوابتها سترحب بك". اليوم من خلال شاشة التلفزيون أجدني بمواجهة المنازل الباقية والبشر المتواجدين وهم يلوحون لي بإشارة "الانتظار" وحتمًا بإشارة "الانتصار" أيضًا.
السعيد بوطاجين- روائي وأكاديمي جزائري
علاقة روحيّة
علاقتي بلبنان علاقة روحية ذات صلة بتقاطعاته الحضارية وتنوّعاته الثقافية والتاريخية والدينية، وهو جزء قاعدي من معارفي التي اكتسبتها عبر الوقت بفضل ما قدّمه للكتاب العربي من أقباس ستخلّد اسمه كبلد منتج للمعارف وحاضن لها، رغم السياقات المناوئة وحدوده الجغرافية التي جعلته محاصرًا من القوى الشريرة التي ترغب في ابتلاعه.
لبنان هو الآثار والفينيقيون والكنعانيون والمسلمون والمسيحيون وجبران خليل جبران والأخطل الصغير وبشارة الخوري وإبراهيم اليازجي وجرجي زيدان وأنسي الحاج وأنطوان الدويهي وعلي حرب وأمين معلوف ودار العلوم وفيروز ومارسيل خليفة وأميمة الخليل والرحابنة وأنطوان كرباج وليلى كرم وغيرهم، وهو البلد المضياف الذي احتضن باحترام بعض كتاب بلدي، ومنهم أحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق.
لبنان التاريخ والإبداع والموسيقى ربيع حقيقي من الأسماء الفنية والفكرية والأدبية الوازنة التي تحتاج إلى أنصاب تذكارية خالدة لأنها صنعت مجدنا العربي، وليس إلى حرب على فراشة عزلاء تنسج الضياء. أنا مدين له بنشر كثير من كتبي في الرواية والقصة والنقد والترجمة، ومدين لبيروت المحروسة لأنها شملتني بعنايتها عندما زرتها محاضرًا قادمًا إليها منها لأنها قريبة مني حسّيًا، رغم المسافة الفاصلة بيننا، كما استضافت مئات الأسماء خدمة للمعارف الإنسانية.
السلام والأمن للبنان اليوم وغدًا ودائمًا، شعبًا ومدنًا وثقافة وهواء، وللمتربّصين به كلّ الخذلان لأنّ الحضارات الكبيرة لا تسقط ولا تنحني، مهما دمّرت العمارات والأحياء.
صفاء سالم إسكندر- شاعر ورسام عراقي
مدينة من أجل الشعراء
عندما زرت بيروت أول مرة وسرت في شوارعها، قلت في سري "إن هذه المدينة موجودة من أجل الشعراء". لا غرابة في ذلك ولا مبالغة فيه. تخيّل إلى هذا الحدّ تجرح اللغة، مثلما تخنع للسكوت، عندما يتعلق الأمر بالحقيقة بالخير والشر، تتقصد إسرائيل بكل إجرامها تدمير هذه المدينة، تدمير لبنان، ومن يدري لماذا السكوت؟ أحيانًا نفقد اللغة مثلما نفقد الأشياء عندما نحتاجها، ذلك حتى يصغي الطرف الذي تعمّد الحياد واللامبالاة هربًا من الحقيقة، اللغة التي تبيّن الفرق وتجعلك تنظر إلى الوراء، لا يحتاج الأمر إلى شرح للنظر. الأمر لا يتحمّل التأويل، لا يتحمل أكثر من "إما" و "أو" والذين يجدون في إسرائيل خيرًا لهم، صاروا كثرًا، عميت أبصارهم وبصيرتهم، بحجة السلام، أي سلام وأي التقاء للأديان السماوية، هذه كذبة كبيرة، من تعمّد هذا الدم كله لا يمكن له أن يعرف السلام أبدًا.
عبد الوهاب الملوح- روائي تونسي
الأرزة لا تذبل ولا تموت
ليس لأنها فقط مدينة آبار المياه المحروسة بأنفاس الصنوبر؛ وليس لأنها فقط أرشيف الكنعانيين الأوائل واحتفالات الملوك بترويض الجغرافيا ولكنها أيضا البوابة السحرية لعالم الشرق الخفي. أرض الأساطير والأديان ومعبر الحضارات. بيروت مدينة الأسرار المتجدّدة ومرفأ الأمنيات الجامحة. كانت أغنية وهي دائمًا كذلك. وفي الأثناء، تكتسحها دبابة ويغطي الدخان سماءها. وكما ورد في مسارد تل العمارنة كانت هذه المنطقة من مملكة جبيل محل أطماع أمحنتوب الرابع، أخناتون ملك مصر، وظلت كذلك تُسيل لعاب الملوك. فكم اقتحموها بالقوة ليكسروها، كم أشعلوا فيها حرائق لتلتهمها، كم قسّموها لتفتيتها، كم ألقوا فيها قذائف لتدميرها، لكن الأرزة لا تذبل ولا تموت. قلعة المقاومين، ملاذ اللاجئين، مأوى الخائفين، حلبة الراقصين وبيت العشاق، وفي كل هذا هي بيروت تبدأ حكاية وتكبر حروبًا، ثم هي بستان لا سياج له يتمدّد مزهرًا كما لو أنها أسطورة تتجدّد واقعًا.
للمرة الثالثة يشن الكيان الصهيوني الحرب على بيروت عدا الهجمات المعزولة من حين لآخر، عدا التفجيرات والاغتيالات، وللمرة الثالثة سوف تفشل لأن بيروت ليست مجرّد مشهد خلفي، بل هي قلب المعركة، الذي وإن ظلّ ينزف فهو ينبوع لا ينضب. تقول إنها نهر البدايات وليست عروسة الدمى. لا شيء فيها يدلّ على أنها مدينة حرب ولا شيء فيها يدلّ على أنها سهلة للانقضاض عليها. فهي أبعد من مجرّد أرض آبار المياه وأبعد من مرفأ للأبيض المتوسط، إنها أسطورة متجدّدة.