}

الأمازون: موئل عذريّ للحياة والدهشة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 17 يونيو 2023
أمكنة الأمازون: موئل عذريّ للحياة والدهشة
تعد الأمازون منجمًا لا يَنضب لِعلماء الحياة وباحثِي البيولوجيا
"إنهم أبناءُ الغابة، وَالآن هُم أبناء كولومبيا". بهذه الكلمات، أعلن الرئيس الكولومبيّ غوستافو بيترو، فَرِحًا مبتهجًا، عن العثور، قبل أيام، على أربعة أطفال (من السكّان الأصليين) أحياء، بعد 40 يومًا من فقدانهم داخل غابات الأمازون (فُقِدوا، بعدَ تحطّم طائرة ذويهم، في مطلع مايو/ أيار 2023، وعُثِر عليهم أحياءً في 11 يونيو/ حزيران 2023).
التّعليل الأهم الذي تداولته معظم وكالات الأنباء، والفضائيّات، ومخْتلف وسائل الإعلام، حول بقائهم، كل هذه المدّة، أحياء، هو أنهم من أبناء غابات الأمازون الأصليين. وأما الغذاء الوحيد، تقريبًا، الذي أسهم في بقائهم على قيد الحياة، فهو نوعٌ من الدقيق الأمازونيّ (دقيق الكسَافا)، واظبوا على تناولِهِ بحسبِ المتحدث باسم القوات الخاصة الكولومبية بيدرو أرنولفو سانشيز سواريز، الذي قال لوسائلِ الإعلام إن الأطفال تناولوا "ثلاثة كيلوغرامات (ستّة أرْطال) من دقيق الكسَافا" الخشِن الذي يَشيع استخدامه عندَ قبائلِ السكّان الأصليين في منطقة الأمازون.
والمعْروف لَدى أصحاب الاختصاص أن هذا الدقيق يأتي من طحنِ نباتِ الكسَافا (أو المَنِيْهُوت/ البفْرة)، الذي ينتمي لِفصيلة الخضروات الجذريّة، مثل البطاطِس، والجزَر، والبَطاطا الحلوة. وهُو يُشْبِهُ الأخيرة (البطاطا الحلوة) إلى حدٍّ كبير. وعادةً ما يشار إلى فوائده الصحية، على أن لا يُؤكل نيّئًا حتى لا يتسبّب في متاعب صحية، مثلَ التّسمم.
خبرٌ مفرحٌ في زمن الأخبار الحزينة و(المِعتّة)، يأخذنا في رحلة نحو غابات/ ولاية/ إقليم/ حوْض الأمازون، وكلها أسماء، أو تعريفات، لأعجوبةٍ واحدةٍ هي الأمازون بكلِّ بكورتِها وعذريّتها وأسرارِها.

غاباتُ المَدى
ليس عن عبثٍ مَنَحَ الجنديُّ الإسبانيُّ فرانسيسكو دي أوريانا النهرَ الذي اكتشفه في العام 1541، اسمَ أَمازون. هو فَعَلَ ذلك بعدَ أن تعرّض ورفاقِهِ لِهجومٍ من مقاتلاتٍ شرساتٍ متمرّساتٍ أصليّات (نسبةً إلى السّكّان الأصليين)، إذ ذكّرنه بِما كان قرأه عن المحاربات الأمازونيّات، فَمَنَحهم هذا الاسمَ الذي يعودُ بِنا إلى 700 عامٍ قبل الميلاد، وربّما أبعد من ذلك، عندما كانت الشعوب السكوثينيّة (أو السكيثي/ الإصقوثيّة، شعوبٌ بدويةٌ من أصولٍ فارسيّة، متنقّلةٌ على مدى السّهب الأوراسيّ، خصوصًا خلال العصر الحديديّ) تدرّب فتياتِها، جنبًا إلى جنبٍ مع فِتيانِها، على فنونِ القِتال، وركوبِ الخيل، ومهاراتِ الدفاع عن النفس وَدرْءِ المخاطِر.
ظاهرةُ مشاركةِ النساء في القتال لم تقتصرْ على الشعب السكيثيّ فقط، فقد انتشرت ظاهرة المقاتلات (النساء المحاربات) في روما القديمة، وفي مصر وشمال إفريقيا وَمناطقَ أُخرى من القارّة السمراء، وبِلاد فارس، والمنطقة العربية، وبِلاد ما بين النهرين، ووسطَ آسيا والهِند والصّين. فالنّساء اللواتي شاركن في الحروب وُجدن في ثقافات العالم أجمع، وَتواريخه، ومرويّاته، وحِكايات شعوبه؛ من فيتنام إلى جزر الفايكنغ، وفي الأميركيتيْن.
الاسم يرتبطُ، إذًا، بِمدى قدرة شعوب الأمازون الأصلية على الدفاع عن محميّاتِ نبضِها، ورفْضِها التدْجين والانْخراط في الكياناتِ الديكتاتوريّة، أو الرأسماليّة، أو البيروقراطيّة. هو اسمٌ يرتبط بالمرأة، والبريّة الجامحة، والأدْغال البِكر، وَمهارات ترويضِ الجِبال الشّاهقة، والكواسرِ الضّارية، والزواحفِ الخطيرة، والأيامِ المَطيرة، وتسخيرِها جميعِها لصالحِ الوجودِ الحيّ، والتّفاعلِ اليقِظ، الكفيلِ بتعزيزِ عناوينِ التنميةِ المُستدامة، والحفاظِ على التنوّع البيئيّ والبيولوجيّ.

صراعُ بقاءٍ لافِت
في هذا السياق، سياق الحفاظ على البيئةِ المُصانةِ من قبائل الأمازون، وأبنائِهِ الأصْليين، تخوض تلك القبائل في مختلف جِهات الأمازون (تسع دول في أميركا اللاتينيةِ لها حصّة من غابات الأمازون)، منذ قرون، صراعًا عنيدًا كيْ تبقى على قيدِ الوجودِ الآسِر المحافِظ على هويّات بكرٍ، وثقافاتٍ متصالحةٍ مع قوى الطبيعة ومُفردات المكان.
في الموقع الرسميّ للأمم المتّحدة، وتحتَ عنوان "قبيلة من الشعوب الأصلية في غابات الأمازون المطيرة تناضل من أجل البقاء"، نُشِرَ تحقيقٌ صحفيٌّ خطيرٌ يكشفُ الأضرارَ الماحِقة التي يتعرّض لها حوْض الأمازون، وبعْض قبائل سكّانه الأصليين، جراءَ التنقيب غير الشرعيّ عن معادن نفيسة. في هذا السياق، وبحسبِ ما ورد في التحقيق، فإن قبيلة اليانومامي (إحدى القبائل المنسية في الأمازون)، التي يبلغ عدد أفرادها حوالي 29,000 شخص، تؤكّد أنّها معرّضة لخطرٍ جسيمٍ بِفقدانِ أراضيها وثقافتِها وطريقةِ عيشِها التقليديّة. أمّا السبب فهو، كما يبيّن التقرير، شهوَةُ الذهب والمعادنِ الثّمينة الأخرى التي تقع تحت أراضي أجدادِ هذه القبيلة. وهي شهوةٌ جذَبَت في السنوات الأخيرة موجةً من المنقّبين غير القانونيين (الغاريمْبِيروس بِحسبِ تسميةٍ قديمة) الذين قطعوا الغابات، وسمّموا الأنهار، وجَلبوا الأمراض الفتّاكة إلى القبيلة.

جبال الأنْديز تعبرُ في امتدادِها وبهائِها سبعَ دولٍ من دولِ أميرْكا الجنوبية


وَأعلن أحد زعماء قبيلة اليانومامي ديفي كوبيناوا الذي كرّس حياته لِحماية حقوقِ قبيلتِه وأراضي الأمازون قائلًا: "تتعرّض أرضُنا للغزْوِ من جديد. لقد لوّث الزئبقُ أنهارَنا مرّة أُخرى".



من جهتِها، أكّدت جوينيا وابيتشانا المرأةُ الأصليةُ الوحيدةُ المنتخبةُ في الكونغرِس البرازيليّ أن الدمار الذي تسبب به (الغاريمْبِيروس) وَالمصالح الاقتصادية القوية المُصَمِّمَة على استغلال الغابات المَطيرة يشكّل تهديدًا لكلٍّ من التنوّع البيولوجيّ، وَحياة الشّعوب الأصلية.
وابيتْشانا شدّدت خلال مُشاركتها في احتفالٍ أُقيمَ بمناسبة مرور 30 عامًا على ترسيمِ حدود الإقليم (عندما منحت حكومة الرئيس البرازيليّ المنتخب عام 1989، ديمقراطيًا، فرناندو كولور دي ميلو آنذاك، قبيلة يانومامي 94,000 كيلومترٍ مربّعٍ من الأراضي المحميّة، ما يعادِل، تقريبًا، مساحة البرتغال) على أنّ "الطبيعة والحياة لا تنفصلان أبدًا عن الشعوب الأصليّة"، وأضافت: "بينما يصارعُ الكوكبُ آثارَ تغيّر المُناخ، يجب أن يتعلّم العالَم من قيمِ الشعوبِ الأصليةِ، كيفيةَ عنايتِهِ بِغاباته وأنهارِهِ، مجتهدًا من أجلِ بناءِ تنميةٍ أكثرَ اسْتدامة".
أرْيو كوبيناوَا، نائب رئيس جمعية هوتوكَارا يانومَامي قدّم مداخلةً مؤثّرةً قائلًا بِأسى، ولكِن بِإيمان: "من دونِ أرضِنا، لا وجودَ لنا، ومِن دونِ أرض، لا تنوّع بيولوجيّ، وَلا أنهارَ وَلا حيوانات. نحن، الشعوب الأصلية، لا يمكننا العيش من دونِ أرض. فما مِن انسجامٍ، وَلا مِن صحةٍ، ولا مِن معرفةٍ، ولا مِن حَرَكةٍ لِكوكب الأرض".
يقول التقرير الأمميّ إن التعدينَ غيرَ الشّرعي يدمّر بيئة الأمازون التي تحمل قيمةً روحيةً كبيرةً للشعوبِ الأصليّة، وتشكّل مصدر رزقهم التقليديّ، انطلاقًا من الغذاء وصولًا إلى الأدوية. ويتِم تدمير الأشجار والموائِل، كما يتسرّب الزئبقُ المستَخدَم لِفصل الذهب عن الحَصى إلى الأنهار، ما يؤدي إلى تسميم المياه والسلسلةِ الغذائية المحلية. وأكّد ناشطون محليون أن التسمُّمَ بالزئبق قد يضر بِالأعضاء، ويسبِّب مشاكل في النّمو لدى الأطفال.
أمّا ممثل مفوضيّة الأمم المتّحدة السّامية لِحقوق الإنسان الإقليميّ في أميرْكا الجنوبية، جان جراب، الذي شارك في الاحتفال، فقد قال: "تدعم مفوضيّة الأمم المتّحدة السّامية لِحقوق الإنسان مطالب الشعوب الأصلية المشروعة في البرازيل بِإخراج عمّال المناجم غير الشرعيين من أراضيها. والشعوبُ الأصليةُ هي الوصيةُ على غابات الأمازون المَطيرة، وَيَجِبُ حمايتَها".
على وجهِ العُموم، وبحسبِ علماء من البرازيل والولاياتِ المتّحدة الأميركية، فإن الاعتداءاتِ التي تتعرَّض لها غابات الأمازون، أكبرَ من المتوقّع بحوالي 60 في المئة، ما يعني أن هذه الاعتداءات قد تشكّل خطرًا جسيمًا على أعظم غاباتٍ مَطيرةٍ في العالَم.

نهرٌ وغاباتٌ وموائِل
نحوَ ثلْث الحيوانات البريّة في العالم تعيشُ في الأمَازون (أكْثر مناطقِ الكوكبِ هشاشةً)، وَفي غاباتِه المَطيرة.
أمّا نهرُ الأمَازون الذي ينبعُ من جبالِ الأنْديز، ويصبُّ في المحيطِ الأطلسيّ، فيمتدُّ على طول 6437 كيلومترًا، متجليًا بوصفهِ قلبَ القارّة اللاتينيّة الأخضر، وبوصفِ غاباتِه رئتيّ الكُرة الأرضيّة. هو أغزرُ الأنهارِ تدفقًا، وثاني أكبرِها بعدَ النّيل. وَفي أعماقهِ يعيش أكثرُ من ثلاثة آلاف نوعٍ من الأسماك، بعضُها لا شبيهَ له في أيِّ مياهٍ عذبةٍ أُخرى. وَمنها أسماكُ البيرانا (الضّاريةُ العنيفةُ سيئةُ السّمعة) التي تُقيم هُناك من ملايينِ السّنين.
ولأنَّ الأمَازون بنهرِه وحوضِه وغاباتِه لا يزال في كثيرٍ من تفاصيلِه بِكرًا، بكاملِ العذريّة الجاذِبة، فإنه يعدّ منجمًا لا يَنضب لِعلماء الحياة وباحثِي البيولوجيا، يواصلونَ، من دون انْقطاع، اكتشافَ كائناتٍ ونباتاتٍ جديدةٍ في الأمكنةِ الكثيرةِ التي تنتمي إليه. يكتشفونَ ويسجّلون، ثم يعودون من جديد، فيكتشفونَ ويسجّلون.
البوشْماستر والفيرْدِيلانز والأَناكوندا والبُوا قوسِ قُزح والبِيثون والمامْبا بألوانِها، هي ليست أسماءُ ماركاتٍ تجاريةٍ مصنوعةٍ من حريرِ رأسِ المَال، بل هي بعضُ أنواعِ الثّعابين والأَفاعي التي تملأُ جوفَ الأمازون، ويكادُ بعضُها لا يجِدُ لهُ موئلًا إلا هُناك. بعضُها سُمُّهُ قاتلٌ على الفورِ، فاحْذروا يا رعاكم الله، حتى أن سمَّه مسؤولٌ عن قتلِ ثُمْنِ ملْيون إنسانٍ سنويًّا.
أشجارُ غاباتِ الأمازون البالغُ عديدُها مِئات المِليارات (عمرُ بعضِها مئات السنين، وارتفاعُ بعضِها أكْثر من 60 مترًا)، حافظةُ كربونٍ من طرازٍ رفيع، إذا نَقصت تلكُم الأشجار، زادَت، مباشرة، ممكناتُ انقراضِنا حين ينهمرُ علينا ثاني أكسيد الكربون من دونَ هوادةٍ من كلِّ هذه الملياراتِ من الأشْجار، وانقراضِ آلاف الحيواناتِ المتواريةِ خلفَ الأدغالِ المتشابكةِ كأنّها دوامةُ الوُجود. 16 ألف نوعٍ من الأشجار، 40 ألف نوعٍ من النباتات، كثيرٌ منها لا يوجد إلا في الأمازون، بعضُ نباتاتِ الأمازون مُفْترِسة، وبعضُها يسحرُ الألْباب لجمالِه واختلافِه عن أقاربِهِ من عائلات الشجر.

حضارة الإنْكا من الحضارات السّحيقة التي أبهرَت العالَمَ بِما تركته من آثار


آكل النمل العجيب (التمانْدورا) من الحيوانات المرشّحة للانقراض هناك. ومن بين مليونين ونصف المليون من أنواع الحشرات يصعد الفَراش هُناك كأنشودةٍ من فرحِ الألوانِ وَموسيقى الجَمال الساحِر (4000 نوعٍ من الفَراش يعيش في الأمازون). الضفدعُ الزجاجيّ الذي تُرى أحشاؤه الداخليّة، ليس الكائنُ العجيبُ الوحيدُ هُناك، ولا "سحليّة يسوع" التي تمشي فوق الماء، ولا "الحيوان الكسول" صاحب الوجه الإنسانيّ الغامضِ والابتسامةِ الشبيهةِ بِابتسامة المُونالِيزا، وَلا زنْبقةُ الماءِ الأمازونيّةُ العملاقةُ العائِمةُ التي تكبرُ أوراقُها يوميًا بقطرٍ مقدارهُ 25 سنتمترًا، وَلا الأفعى الزمرديّة فاتنةُ الجمال، وَلا عنكبوتُ جَالوت صائدُ الطّيور وآكلُ الفِئْران الهاربُ من عصر الدَّيناصورات، وَلا حيوانُ التّابير الأمازونيُّ النّباتيُّ الثّدْيُ المنحدرُ من أجدادٍ عمرهم 35 مليون عام، بينما هو يقاوم، بضراوةٍ، مؤشراتِ انقراضِه، ولا طائرُ المَكاو الياقوتيّ الذي يسهمُ جمالُه بسرقتِه من الغابات وأسرِه في قَفَص، أو شقيقُه المَكاو القرمزيّ طاعنُ الجَمال، ساحرُ الألوان، عميقُ الوفاء مع حفاظِه على علاقةٍ زوجيةٍ واحدةٍ طيلَةَ حياتِه، أو القردُ الامبراطوريّ (تَامازين) بلحيتِه الوَقورةِ البيضاءِ، وتآنسِه الطيّب، وشكلِه العَجيب، وغيرُها من كائناتِ الأمازون العجيبةِ الغريبةِ النّادرة، وغيرُها.

الأنديزُ والإِنْكا والّلاما
لا يمكنُ الحديث عن غابات الأمازون القائمة منذ 55 مليون عام من دون التطرّق إلى جبال الأنديز، وبالتالي للحضاراتِ التي استعمرتْه واستوْطنت فيه منذ آلاف السنين، وفي المقدمةِ منها حضارة الإنكا.
الإنكا تعني بلغةِ شعوب جبال الأنديز "الحاكم"، بوصفه الابنَ الأوحدَ لِلشمس، والمُنحدرَ في معتقداتِهم، كَما باقِي ملوكهم، من نسلٍ إلهٍ يُدعى أنْكي (إلهُ الشمس). على الحاكم/ ابن الشمس أن يتزوّج، للمحافظةِ على نقاءِ نسلهِ الإلهيّ، من شقيقته مُطلِقًا عليها اسم (كُويا). حوْل هذه التفصيلة، يقال إن 400 طفلٍ من أطفال الإنكا، ولِدوا نتيجة زواج ملوكٍ من شقيقاتهم.
اشتهر شعبُ الإنْكا، وما يزال يشْتهر، بالزّراعة، وبسببِ صعوبةِ المناطقِ التي استصْلحوها للزّراعة، قاموا بتشييدِ مدرّجات حجريّة بمسافةِ متريْن بين المَدْرَجةِ وأُختِها، مجترحينَ نظامَ تصريفِ مِياه، ونظامَ حفظٍ لها، يكشف مدى تقدّم علومِهم، وعلوّ كعبِ حضارتِهم منذ آلافِ السّنين. مدرجاتٌ تتخلّلها شرفاتٌ تواصلُ صعودَها حتى أَعالي جبالِ الأنْديز التي يصلُ أكثرُها ارتفاعًا إلى ما يزيد على 4000 متر.




أمّا جبال الأنْديز (منبعُ نهرِ الأمازون وسندهُ العالي)، فهِي، لِمن لا يعرفها، تعبرُ في امتدادِها وبهائِها سبعَ دولٍ من دولِ أميرْكا الجنوبية: الأرجنتين، والإكْوادور، وَبوليفيا، وَبيرو، وَتشيلي، وَكولومبيا، وَفنزويلا.
بالطريقة نفسِها التي شيّد شعبُ الإنْكا عبرَها المدرّجات، بنُوا، بهدفِ تخزينِ الطعام، مستودعاتٍ على سفوحِ الجبال الوعِرة. بَنوها هُناك لِتكون تلك المخازنُ الاستراتيجيّة، أولًا، عصيّةً على الأعداء، وَلِتبقى الحبوبُ، ثانيًا، في تلك المستودعات جافةً بفعلِ الهواءِ العَليل، وصالحةً للأكلِ أطولَ فترةٍ مُمكنة. أمّا السؤال المعلّق بانتظارِ إجابةٍ، فهُو: كيف تمكّن شعبُ الإنكا مِن بِناء هذه المستودعات في تجويفاتِ تلك السفوح الوعِرة، في حين أن تحتَهم وادٍ منحدرٌ مرعبُ الهاوِية؟
على الطريقةِ نفسِها، أيضًا، وأيضًا، جرى تشييدُ الحصونِ في ذروةِ حضارةِ الإنْكا. أّمّا أمنعُ تلك الحُصُن فَالذي شُيّد لمراقبةِ المدْخل الشماليّ الغربيّ لدولتِهم الغابِرة (يبدو أن فراستهم الفطريّة كانت تقول لهم إن أفظع المخاطر تلك الآتيةُ من الشمال الغربي).

خفِّفْ الوطْء
وأنتَ تسيرُ في شوارعِ مدينة أُولاي تَاي تِمبو، خفّف الوطء، فتحتكَ يرْوي كلُّ حجرٍ من حِجارة المدينة التي بناها الإمبراطور باتْشا كوتِيك في القرنِ الخامسِ عشر، جزءًا من تاريخٍ متواصِل، حيث لا يزال المكانُ مأهولًا بالسّكان حتى يومِنا هذا. ولكِن مهلًا، لماذا أشتمّ من اسم المدينة تيمْبو، واسمِ امبراطورِها البَاني باتْشا، عبقًا من تاريخ العُثمانيين؟ هل وصل جيش أرطُغرل، أو جيوش العُثمانيين، بعدَه، إلى هُناك؟ سؤالٌ برسمِ الإجابة.

عمارةُ الإنْكا
أسقف بيوتهم من القش، وقد كانوا يغيّرونها كلّ ثلاثة أشهر بسببِ تأثيرِ أبْخِرَةِ المطْبخ على صلاحيّتها. شوارعُهم مرصوصةٌ/ مرصوفةٌ بِالحصى. قنواتُ المياه تنساب من الجبال، في كلِّ شارعٍ من شوارعِ الحَصى. على ارتفاع 2300 مترٍ، تربضُ في مَنَعةِ الأنْديز مدينةٌ غامضةٌ مُحاطةٌ بِغابات كثيفة. إنها مدينة ماتْشو بيتْشو، التي لم يستطِع الاستعمارُ الإسبانيّ اكتشافَها رُغم امتدادِه على معظم مساحة حوْض الأمازون، زُهاء 300 عام (من عام 1532، وحتّى عام 1820). طُرُقها وعرةٌ مخفيةٌ بالأشجارِ والأسْرار، يحتاجُ قاصِدها لِصعود ثلاثة آلاف درجةٍ حجريةٍ كي يصِلها. بعنايةٍ كبيرةٍ اخْتير مكان المدينة المحتويةِ على 600 مدرّجٍ لِلزراعة، بِمعانٍ لَها علاقة بمعتقداتِ الإنْكا وحاجاتهِم وجغْرافيا وجودِهم؛ قربُها الجبلُ المقدّس (سالْكانتاي)، أمّا أسفلُها فيجْري نهرُ أوروبامْبا. مدينةٌ خالدةٌ، محاطةٌ، إضافةً للجبالِ الشاهقة، بالسحرِ والغُموضِ والجَمال. إرثٌ ثقافيٌ فَذ، يروي سيرة حضارةٍ ضاربةً في القِدَم.





على صعيد العمارةِ أيضًا، فإن في ماتْشابيشو 200 مبنى بِقممٍ مثلثيّة شبهِ مخروطيّة، متوزّعة بين معابدَ وقصورٍ وأضرحةٍ ونوافيرَ وبيوتٍ عاديّة، بِما في ذلك مرصدٍ فلكيّ، مشيّدةٌ جميعها من حِجارة المكان (مئات آلاف الصّخور من دونِ استخدام أيّة مواد لاصِقة)، متصالحةً مع طبيعتِه الصعبةِ القاسِية. مياهُها الآتيةُ من الجبال، تمرّ بِقنواتٍ مُفَلْتِرَةٍ تؤمّن المياه دائمةَ صلاحيةِ الشربِ والاسْتخدام من الجميعِ وَعلى طول أيام السّنة. الصخرةُ مشدودةٌ مثبّتةٌ إلى أختِها الصخرةِ بشكلٍ هندسيٍّ هارمونيٍّ عجيب، باستخدام المَطارق فقط.

المرأةُ قُربان
قرابينُ نسويّة تملأ هياكلُها، حتى يومِنا هذا، حجراتِ البيوتِ وجنباتِ المدينة، فالإنْكا كانوا يعتقدون أن النساء هنّ بنات الشمس المقدّسة، مازجينَ بطريقةِ تقديمهِم القرَابين، معتقداتِهم الدينيةِ مع ظروفِ حياتِهم القاسيةِ فوقَ جِبال الأنْديز، وهُم قد عرَفوا التّحنيط كما قُدماء المِصريين وأبناءِ النّوبة السّودانية.

آخر السلالات
حضارة الإنْكا من الحضارات السّحيقة التي أبهرَت العالَمَ بِما تركته من آثار، وَما توصّلت إليه من علوم. من شعوبهم الباقية حتى يومنا هذا شعب كيروس (أو كيريس، أو كويروس، آخرُ سُلالات الإنْكا) الذي يتّخذ من قممِ الجِبال على ارتفاع زهاء 4000 متر موئلًا لَهُ. بِضْع مئاتٍ ينحصرونَ في البيرو، يَصِلون إلى بيوتهم بِبركات الكاهن الذي يحملُ عندَهم اسم (باكوس/ باكو، وعندَ غيرهِم من قبائلِ الأمَازون اسمَ شَامان)، وباستخدامِ قليلٍ من نبات الكُوكا (المسْموح في البيرو، وفِي معظمِ بلادِ الأنْديز، وإليْهِ يُنسبُ الكُوكايين)، وبالاعتمادِ على أجسادٍ تأقلمتْ على كلّ هذه القسوة والبُرودة، وَعلى قلّة الأُكسجين فوقَ تلكَ القِمم الباسِقة. وعند نقطةٍ بعينِها لا بدّ من استخدام اللاما (حيوان من الثدييات يجمع بين صفاتِ الجمل والحمل، يتميّز بتحمّله البرودة الشّديدة)، حيث وُعورة الطرقِ تجعلُ استخدامَ السّيارات (حتى ذات الدّفع الرباعيّ) غيرَ ممكنةٍ في مرحلةٍ من مراحل الوصولِ إلى مدينتهم الأهَم (كِيكو).

نسّاجونَ مهَرة
الإنْكا الذين اتّخذوا من الفُسحةِ بين جبالِ الأنْديز واديًا مقدسًا يبعدُ عن عاصمتِهم كوسْكو (جنوب شرق البيرو على ارتفاع 3350 مترًا عن سطحِ البحْر) 70 كيلومترًا، ويحْتوي على عديدِ المعالِمِ التاريخية الخاصّة بِهم، نسّاجون بِالفطرة، هذا ما يؤكّده شعبُ كويريس، آخرُ سلالالتِهم، يستخدمونَ في حياكةِ ملابسِهم أزهارَهم البريّة وَما أكثرها في الأمازون وحولَه، ويرسمونَ عليها آلهتَهم، وفي المقدمةِ منها شمسَهم، ويلوّنونها بِجُغرافيا وجودِهم، من جبالٍ وأنهرٍ ونباتاتٍ، وغيرِها. متصالحونَ مع البيئةِ الحاضنةِ لهم. يعرفونَ ما عليهم وَما لهم.

ليسوا وحدهم
الإنْكا، وَمَن تناسل منهم حتى يومِنا هذا، مثل الكويريس، ليسوا وحدَهم مَن عاشوا ويعيشونَ في الأمَازون، وَعلى امتدادِ حوضِه، فهُنالك في إكْتويتوس، على سبيل المثال، عاصمةِ الإقليمِ المتواريةِ في قلب الغابات المنسيّة، حيث الوصول إلى أكبرِ مدينةٍ معزولةٍ في العالم لا يمكنُ عن طريق البَر؛ فقط عن طريق الجوّ، أو النّهر. في الشرق الشماليّ القصيّ من البِيرو، بين البيرو والبَرازيل، تقبعُ هُناك قبيلةُ الماتْسيس المعزولةُ الرافضةُ أيَّ شكلِ تواصلٍ مع العالَم الخارجيّ. لا يزيدونَ على 2200 إنسان، يعيشونَ في تجمّعاتٍ قليلةَ العَدد، متباعدةً عن غيرِها من أبناء القبيلة، وَوجودهم في قلب هذه الغابات النائية العذراء يقومُ على مفاهيمِ الاسْتدامة، فهم يأخذونَ حصَّتهم من الأرض حوْلهم من دونَ إضرارٍ بالكائنات الأُخرى. الأرض هي كل شيء بالنسبة لهم؛ هيَ تاريخهُم، ومعلمُهم، ودواؤُهم، ومصدرُ غذائِهم، وملبسُهم، وحمايتُهم. هيَ أمُّهُم، وأمُّ أجناسِها جميعِها. ولعلّ الماتْسيس، وأيُّ قبائلَ متواريَة هُناك تواصلُ استعمارًا للأمكنةِ الأمازونيّةِ التي يقيمون فيها. استعمارٌ بدأ قبل 32 ألف عام، وهناكَ من يقول من أصحاب الاختصاص إنه بدأ قبل 39 ألف عام، ما يرى كثيرٌ من العلماء فيه أقدمَ استيطانٍ بشريٍّ على الإطلاق. أساسُ بقاءِ القبائلِ المنسيّة هو فهمُهم العميقُ لأسرارِ الغابات حولَهم. يميّزون أنفسهم عن القبائل الأُخرى بأعوادٍ تحت أنوف النساء، وأوشامٍ لِلرجال. أما سرّهم الأكبر الذين يحتفظون به ويخفونَه عن غيرِهم، أنهم كانوا، حتى وقتٍ ليس بِبعيد، يأكلون لحم موتاهم، معتقدينَ أن أرواح هؤلاء الأموات تسكنُ أجسادَ الأحياء عبرَ أكلِهم لِلأموات! ومن لم يبكِ وهو يأكل لحم قريبه الذي قد يكون أباه، أو أخاه، أو ابنه، فإن لعنةَ جسدِ المأكول تُلاحقه! يؤكد بعضُ زعمائِهم، في فيلمٍ وثائقيٍّ عنهم، أن اختلاطَهم ببعضِ القبائلِ الأُخرى، ورؤيتهم لهُم يوارونَ أمواتَهم الثّرى، علّمهم، هُم بدورِهم، أن يدفنوا أمواتَهم، معترفينَ أنهم كانوا يأكلون أمواتَهم كما يأكلون الحيوانات التي يصطادونها! خطْفُ النساء عادة من عاداتِهم هُم، وَكثير من القبائلِ التي تجاورهُم، وقد يكون الخطْف عابرًا للدول (أمازونيٌّ بيروفيٌّ يخطفُ أمازونيةً برازيليّة، والعكسُ صحيح). أما الطقْس الأخطر، فهو (الكامْبو) عندما يسرّبون سمَّ ضفدعٍ إلى أجسامِهم، لتحقيقِ ما يعتقدونَه مِن توازنٍ بين أرواحهِم وأجسادِهم، ولِإكْسابِ تلكَ الأجْساد مناعةً طبيعيةً غيرَ مضمونةِ النّتائج.

الإنكا تعني بلغةِ شعوب جبال الأنديز "الحاكم"


إضافةً لِلماتسيس، هُنالك قبيلة النانتيس (ثلاثمائة نَسَمة) التي يقال إنها من أقدمِ شعوب الأرض، ويحتاجُ الوصولُ إليْها التجديفَ في نهرِ "كونْكو دومِينيك" أحدِ أكثرِ الأنهرِ خطورةً في أميركا الجنوبية، ولكِن، وفِي الوقتِ نفسِه، أكْثرها تسيّجًا بالشلالات، واعتمارًا بالدّهشة.
وهنالك أيضًا قبيلةُ أوَا، أو غوَاجا (من سكّان البرازيل الأصْليين). وقبيلةُ موَاي. وقبيلةُ تيسامِي البوليفيّة، وقبيلةُ يانوماني التي ذكرناها في مستهلّ موضوعِنا (من أكبر القبائل الأمازونيّة، إذ يصل تعداد أفرادها إلى حوالي 29 ألف، وهي تقع على المناطق الحدوديّة بين فنزويلا والبرازيل)، وقبيلةُ أكْنوتسو (أصْغر قبائل الأمازون، حيث لا يتجاوز عدد أفرادِها الثلاثين)، وغيرُها، وغيرُها. سعت الحكوماتُ الأمازونيّة لتوطينِ كثيرٍ منها، بعضُهم قبِلَ هذا التّوطين، وبعضُهم، أو، أحيانًا، جزءٌ من قبيلةٍ ما، رفضهُ، محافظينَ على عريهِم الكامِل، وعذريتِهم المتقجّرة مثل شجرةِ الدّيناميت (شجرةٌ أمازونيّةٌ بَدَلَ أنْ تسقطَ ثمارُها عندَ نضوجِها، تتفجّر، وتتناثرُ بذورِها لِمسافةٍ قد تبلغ 150 قدمًا).
قبائلُ كانت تَحيا بوصفِها جزءًا من الطّبيعة حولَها، ومن التنوّع الآسِر المحيطِ بِها، إلى أنْ جاءَ المستعمرُ الأوروبيُّ (الإسبانيُّ والهولنديُّ والبرتغاليُّ والفرنسيُّ والبريطانيُّ وغيرُهم) بأهدافِه الاستيلائيّةِ والتوسعيّةِ والنهبيّة، جالِبًا، ومَعهُ مُبشّريه ومُسْتكشفيه، لِتلك الأقْوام الاضطهادَ والفقرَ والرِّق (العُبوديّة).

رمزيّةٌ لا تشبِه غيرَها
امتدّت حضارةُ الإنْكا على وجهِ الخُصوص، وباقي قبائل الأمَازون، على وجهِ العُموم، على طولِ الساحلِ المُحاذي لِلمحيط الهادئ، محقّقةً قيمَها في محيطِها عبرَ التفاعلِ مع بيئتِها، صانعةً تأثيرَها في معظمِ بلدانِ أميركا الجنوبيّة. هُم أوّلُ من زرع البطاطا، وأكثرُ من أسّسَ رمزيةً عميقةً يعود تاريخُها إلى خمسة آلاف عام ماضية، وتحديدًا إلى العصر قبْلِ الكولومبيّ، عِندما ضربَت جذورَ امبراطوريّتها عميقًا في اليابسةِ حولَ نهرِ الأمَازون والأنهرِ المتفرّعة مِنه، مستفيدةً من كلّ التنوّع الذي يميّزُ الحوضَ الشاسعَ الواسعَ الفريدَ في سِمْتِهِ وعذريّتِهِ وخصوصيّتِه.
عذريّةٌ وَرمزيّةٌ شكّلت فارقًا صادحًا في إنقاذِ أربعةِ أطفالٍ رضعُوا مُنذ لحظةِ ولادتِهم موجباتِ وجودِهم، وأبجديةِ نبوغِهِم، وَأَتْقنوا آليات التعاملِ مع مفرداتِ الطبيعةِ التي تحتَ ظلالِها يكبرون، ومِن نباتاتِها يأكلون، وَمع ضوارِيها يؤسّسون صيغًا للتّعايش، وقرْبَ سبْخاتِها يسْرَحونَ وَيَمْرَحون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.