}

كيف وظفت الصهيونية الديانة اليهودية قوميًا؟

أحمد الجندي أحمد الجندي 12 يوليه 2023
إناسة كيف وظفت الصهيونية الديانة اليهودية قوميًا؟
المؤتمر الصهيوني الأول، في بازل بسويسرا عام 1897


لم يكن من الممكن للحركة الصهيونية عند ظهورها في العصر الحديث، وتفكيرها في إنشاء "وطن قومي" لليهود، أن تجد محددًا عرقيًا، أو صفات أنثروبولوجية مشتركة بين يهود العالم يمكن البناء عليها لدفع هؤلاء اليهود للهجرة والعيش في وطن واحد؛ فمن الناحية الأنثروبولوجية يختلف يهود الغرب عن يهود الشرق، ويختلف يهود شمال أوروبا عن يهود حوض البحر المتوسط، وهؤلاء يختلفون عن يهود أفريقيا، وجميعهم يختلفون عن يهود وسط آسيا وشرقها رغم قلة أعدادهم، ولم يجد قادة الصهيونية محددًا مشتركًا سوى الديانة اليهودية فوظفوها قوميًا، وصارت بديلًا عن الخصائص الأنثروبولوجية.

ثمة مسألة أخرى ساعدت على هذا التوظيف تتعلق بمصادر الديانة اليهودية التي اختلط فيها التراث الإنساني البشري بالنص السماوي نتيجة لعوامل كثيرة؛ مقصودة أو غير مقصودة، كطول الفاصل الزمني بين التنزيل والكتابة، أو ضياع النصوص، أو إعادة التحرير، أو بتأثير أيديولوجيا الكتبة... وغير ذلك من عوامل ليس هذا مجال مناقشتها. ما يهمنا هنا أننا حين ننظر لمصدري الديانة اليهودية الرئيسين سنجد أننا إزاء تراث بشري في أغلبه بالنسبة للمصدر الأول (المِقرا/ العهد القديم)، أو بشري كله بالنسبة للمصدر الآخر (التلمود)، وأن هذا التراث جرى كتابته وتحريره عبر مئات السنين، في ظروف سياسية واجتماعية متباينة. وهذا أحد الأمور التي يكاد علماء الديانة اليهودية ودارسوها يجمعون عليه.

هذا الاختلاط المشار إليه كان سببًا في تحويل الديانة التي تنزلت على بني إسرائيل من عالمية مفترضة للبشر جميعًا، إلى ديانة تختص بها جماعة بعينها من البشر. وعلى الرغم من أننا حين نرجع إلى العهد القديم نجد نصوصًا ذات طابع عالمي، إلا أن الخط العام له هو خصوصية الرسالة لبني إسرائيل من دون غيرهم. هذه الخصوصية هي التي ستمثل فيما بعد المدخل الذي تنطلق منه الصهيونية لتحويل اليهودية من ديانة إلى قومية.

ويمكن القول إن الصهيونية فعلت فعلتها تلك بسبب توفر عدة عناصر ساعدتها على ذلك؛ منها أن تسمية الديانة نفسها بـ "اليهودية" تسمية قومية؛ سواء بالعودة إلى دلالتها العرقية نسبة ليهوذا/ يهودا بن يعقوب، أو دلالتها الجغرافية السياسية نسبة لمملكة يهوذا/ يهودا. كذلك فإن العهد القديم عند حديثه عن بني إسرائيل كثيرًا ما يستخدم كلمتي أمة/ جُوي، وشعب/ عَم بالمفهوم العرقي، وعلى الرغم أن المصطلح جوي كان من الممكن توظيفه في إطار عالمي يشمل كل من اشترك مع بني إسرائيل في المعتقد، إلا أن ذلك لم يحدث، وظلت الكلمة رغم إمكانية اتساع معناها، تستخدم بهذا المفهوم الضيق، ومن هنا لم يكن من السهل التمييز بين الكلمتين (جوي، وعم) حتى أنهما استخدمتا كثيرا بالدلالة نفسها.

يضاف إلى ذلك أن أغلب ما نطالعه في مصادر الدين اليهودي من نصوص تشريعية، وتاريخية، وأدبية دائمًا ما يؤكد على أفضلية بني إسرائيل على غيرهم من الأمم على أساس العرق، وليس التفاضل القيمي والأخلاقي، وهذا بالمناسبة أحد الأسباب التي جعلت اليهودية ديانة غير تبشيرية.

ويجب أن نشير هنا إلى أن الصهيونية استطاعت أن تحقق ثلاثة أهداف مهمة، من خلال توظيفها اليهودية قوميًا، وجعلها بديلًا عن الروابط الأنثروبولوجية: أولها أن اليهودية أصبحت الأساس الذي قامت عليه إسرائيل، والركيزة الوحيدة التي دفعت لهجرات اليهود إلى فلسطين المحتلة بناء على قانون العودة عام 1950 والذي كان يعطي الحق لكل من ولد لأم يهودية، أو اعتنق اليهودية، ولا ينتمي لدين آخر بالهجرة إلى دولة الاحتلال، ثم جاء تعديل 1970 وحدد اليهودي بكل من ولد لأب يهودي، أو كان حفيدا لجد يهودي، أو زوجًا ليهودي أو يهودية.

الهدف الثاني أن التعامل مع اليهودية من زاوية القومية أتاح للعلمانيين من الصهاينة في البداية تأسيس المشروع الصهيوني، ثم وضع حجر أساس الدولة على أساس علماني يسمح للمتدينين بهامش تأثير محدود في النظام، لكنه يمنعهم من إحداث تغيير جذري فيه.

أما آخرها فهو أن ذلك أتاح للعلمانيين ممارسة الطقوس المختلفة، لا بوصفها فعلًا دينيًا، بل بوصفها رباطًا قوميًا؛ حيث اعتقد المفكرون الصهاينة والمؤسسون الأوائل لدولة إسرائيل أن اليهودية ليست مجرد دين فحسب، وتعاملوا معها على أنها رباط قومي وثقافي، ورأوا أن الارتباط الحقيقي والدائم بالتقاليد اليهودية ممكن حتى لو كان المرء رافضًا البعد الديني لهذه التقاليد، أو غير موافق على افتراضاتها اللاهوتية، أو أن يكون مضطرًا للانصياع للشريعة. وقد أتاح هذا الفهم لليهود جميعًا؛ علمانيين أو متدينين، الاحتفال بالمناسبات التي نشأت في الأساس على خلفية دينية، لكنهم فصلوا بين بعدها الديني وكونها رابطًا قوميًا، أو حتى عرقيًا يربط بين اليهود كافة. فالغالبية العظمى من اليهود يحتفلون بعيد الفصح، ويوقدون شموع عيد الحانوكا، ويدرسون العهد القديم حتى في مدارس الدولة التي تعلم تعليمًا علمانيًا، وهذه الأعمال لا يقومون بها بوصفها تعاليم دينية، بل لأنها في هذه الحالة جزء أساس من الثقافة اليهودية.

ما فعلته الصهيونية في العصر الحديث لا ينفصل عما فعله اليهود القدامى. وهنا نطرح سؤالين حتى نفهم هذه المسألة؛ الأول: متى نشأت القومية عند بني إسرائيل أو اليهود، وهل كان للدين دور في نشأتها؟ والآخر: ما مفهوم القومية، وهل مفهومها الحالي ينطبق على حالة بني إسرائيل أو اليهود في التاريخ القديم؟

أتاح هذا الفهم لليهود جميعًا؛ علمانيين أو متدينين، الاحتفال بالمناسبات التي نشأت في الأساس على خلفية دينية...


إن إطلاق مصطلح القومية على بني إسرائيل في التاريخ القديم مسألة طرحها مارك ج. بريت M. G. Brett للمناقشة؛ فقد تساءل عن إمكانية إطلاق مصطلح القومية على إسرائيل القديمة، وإن كان ذلك ممكنًا فبأي مفهوم يمكن أن يطلق هذا المصطلح؟ (1).

وعلى الرغم أن بعض مفكري العصر الحديث ينظرون إلى القومية على أنها فكرة حديثة، إلا أن الحقيقة تخالف ما ذهبوا إليه، فالمصطلح وحده ينطبق عليه هذا الوصف، أما الفكرة نفسها فقديمة، وترى ليا جرينفيلد L. Greenfeld أن العالم القديم عرف نوعًا من القومية عند اليهود واليونان إلا أن النموذج الذي قدموه لم ينتشر خارج حدود مجتمعاتهم. ويشير روبرت كوت R. Coote إلى أن مصطلح "أمة Nation" بمفهومه الحالي ينتمي بشكل أساس إلى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ورغم أن المفهوم ظهر عند بني إسرائيل قديمًا إلا أنه كان غامضًا حينها، ولم يكن بالوضوح الذي أصبح عليه في العصر الحديث (2).

ولكي يتبيّن لنا قدم مفهوم القومية، وليس المصطلح بالطبع، ينبغي البحث في التعريفات التي وضعها المفكرون له، والحق أنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على تعريف بعينه، لكننا رغم تعددها سنلحظ أنها تتفق في كثير من التفاصيل؛ هناك من عرف القومية بأنها "نزعة تربط قوما بروابط متجانسة، كالقرابة واللغة والعادات والتقاليد والتاريخ، وتوحد بينهم أهداف مشتركة، كالوحدة والتحرر والحرية والعدالة"، وعرفها آخرون بأنها "صلة اجتماعية عاطفية، تتولد من الاشتراك في الوطن والجنس واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة والآمال والمصالح"، تعريف آخر رأى أنها "شعور جماعة من الناس بأنهم ينتمون إلى أصل واحد"، واختصرها البعض إلى "العصبية الجنسية"، وهناك من تحدث عنها بوصفها "شعورا يربط بين أفراد الأمة، ويعبر عن الولاء لها. والأمة: جماعة من الناس يربطهم الشعور القومي الناجم عن وحدة اللغة والتاريخ والتراث الحضاري والمصلحة المشتركة"(3).

يلاحظ أن التعريفات السابقة كلها أغفلت الإشارة إلى الدين بشكل مباشر رغم أنه مكوّن رئيس من مكونات القومية، ورغم أنه كان العامل الأهم في فهم القومية في حالة الصهيونية قديمًا وحديثًا، فعنصر الدين هو الذي حوّل بني إسرائيل من حالتهم القبلية قبل قدومهم لمصر، إلى الحالة القومية بعد خروجهم مع موسى عليه السلام، وهو الذي دفعهم مع يشوع خليفة موسى عليه السلام لإيجاد موطن يترجم به هذا الشعور القومي على الأرض. لكن من الضروري أن ننبّه إلى أن ديانة موسى في صورتها الأصلية لم تكن لتضع حاجزًا يمنع أصحاب الهويات الأخرى (كنعانيون، أدوميون، موآبيون...) من الانضمام إلى موسى وديانته وأن يكونوا جزءًا من هذا الكيان في ذلك الوقت، فمن وضع هذه الحواجز هم من كتبوا التوراة بعد السبي البابلي في ظل حس قومي متنام.

ومن اللافت أن العناصر المذكورة في التعريفات المشار إليها ينطبق أغلبها على الحالة الإسرائيلية القديمة، وهذا يعني أن فكرة القومية كانت موجودة عند بني إسرائيل طوال الوقت وإن تباينت قوتها، مع التنبيه على أن المعنى الحقيقي لها اختلف من وقت لآخر طبقًا لظروف العصر، كما انتقل من الاعتدال إلى التطرف في بعض الفترات؛ فقد قوي الشعور بالقومية، طبقًا لنصوص العهد القديم، في فترة تأسيس مملكة داود وسليمان والتي اعتبرها بعض الباحثين بداية نشأتها الحقيقية عند بني إسرائيل حين تحولوا من القبلية إلى القومية (4). وربما كان المصدر اليهودي، وهو أحد مصادر أربعة رئيسة لأسفار التوراة الخمسة، ذو الطبيعة القومية، والذي نشأ في منتصف القرن العاشر، أو التاسع ق. م. أحد تجلياتها. وتعزز هذا الشعور أيضًا في نهاية القرن السابع ق. م. حينما حاول الملك يوشياهو توحيد بني إسرائيل، وكان كتّاب هذه الفترة أداة يوشياهو لتحقيق هدفه القومي، وقد وضعوا سفر التثنية، وجزءًا كبيرًا من الأسفار التاريخية (يشوع، والقضاة، وصموئيل 1، 2، والملوك 1، 2) من أجل تحقيق هذا الهدف.

وإلى جانب هاتين الفترتين ينبغي أن نشير إلى أن التاريخ الإسرائيلي القديم شهد فترتين أخريين تعاظم فيهما الشعور القومي بشكل لم يكن أوضح في أي فترة أخرى؛ أولاهما فترة سقوط مملكة يهوذا/ يهودا على يد البابليين ووقوع السبي البابلي والتي امتد تأثيرها لعصور طويلة بعدها؛ وفيها حاول المسبيون، أو "العائدون" من السبي لاحقا تقديم تفسير ديني لهذه المأساة القومية التي تمثلت في نهاية المملكة واقتيادهم أسرى إلى بابل، وخلال هذه الفترة ظهر في الأدب اليهودي بعض الأسفار التي ترتكز كلية على فكرة القومية هذه كسفري عزرا ونحميا.

أما الفترة الثانية فبدأت مع بداية عصر التلمود، وتحديدًا في القرن الثاني ق. م. وكانت مواكبة لنمو الحس القومي الذي تجسّد في ظهور ثورة المكابيين التي كانت موجهة ضد حكم السلوقيين اليونان، الذين كانوا يحكمون سورية وفلسطين، نتيجة فرضهم معتقداتهم، وطقوسهم على اليهود في ذلك الوقت، ومنعهم من ممارسة شعائرهم الخاصة، وفي هذه الفترة أيضًا أنتج اليهود أدبًا اتسم بالقومية الشديدة وتمثّل في بعض الأسفار غير القانونية/ الأبوكريفا، كما هي الحال في أسفار المكابيين.

هكذا إذًا اشتركت الصهيونية الحديثة مع الإسرائيليين واليهود القدامى في تكييف الدين ليصبح مناسبا للأهداف السياسية الخاصة، فسارت على خطاهم. غير أنه بينما كان القدامى ينتجون النصوص، وتصبغ لاحقًا بالصبغة الدينية لإضفاء المشروعية على هذه الأهداف، فإن الصهاينة المحدثين استفادوا من هذه الروح القومية القديمة، وركزوا عليها، وعظموا من مكانتها لتكون الأساس الذي أقاموا عليه مشروعهم.

هوامش:


1- M. G. Brett: Nationalism and the Hebrew Bible. In: The Bible in Ethics. Ed. J. W. Rogerson, et al. JSOTSup. 207, Sheffield Academic Press, Sheffield 1995. p. 139.

2- Ibid: pp. 142 - 145.

3- عدنان محمد زرزور: جذور الفكر القومي والعلماني. المكتب الإسلامي، بيروت 1999. ص. 43 - 45.

4- Brett: pp. 144 - 145.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.