}

"بين القصرين": السراسقة من بيروت إلى روما

أحمد محسن 22 يوليه 2023
عمارة "بين القصرين": السراسقة من بيروت إلى روما
شُيّد قصر سرسق عام 1912
قبل فترةٍ غير بعيدة، أعيد افتتاح متحف سرسق في بيروت. المتحف، الذي كان قصرًا من قصور العائلة التي يحمل اسمها، يحوي ما تحويه المتاحف عادةً: الفنون البرجوازية، والتاريخ البرجوازي، والعلاقات في ما بينهما. لكن تاريخ العائلة أكبر من قصرها. وهو فصلُ قصير من فصول البرجوازية اللبنانية، وأدوارها التي تتجاوز الفنون والسياسة، إلى المشاركة في بناء المدينة ونسج العلاقات الاجتماعية فيها، وفي الانسحاب منها بعد أفول الزمن الإمبراطوري وظهور الدولة القومية. في القصر، ليست التحف فقط ما يمكنك أن تراه.
بعد أقل من شهر على انفجار المرفأ، توفيت السيدة إيڤون سرسق متأثرة بجراحها. في لحظة الانفجار، كانت على الشرفة. وكانت الشرفة التي تطلّ على تاريخ سحيق، معزولة تقريبًا عن التحولات في المدينة منذ وقتٍ بعيد، منذ انكفاء العائلة عن كل شيء إلا عن تاريخها البرجوازي، ودور هذا التاريخ في تشكيل هذا الجزء من المدينة، الذي بقي قائمًا حتى الانفجار. وكانت الراحلة، هي الابنة الوحيدة لألفرد سرسق، من زوجته ماريا تيريزا سيرا دي كاسانو. أما فرانشسكو سيرا، جد إيڤون، فكان دوق كاسانو السابع، الذي تعود أصوله إلى البحر أيضًا. لكن إلى جنوى، وليس إلى القسطنطينية، أو إلى بيروت. أحد أجداد السيدة إيڤون، في قرونٍ غابرة، كان هو الآخر ملكًا على سردينيا.
ولا تتوقف الدماء الإيطالية في عائلة سرسق على ما تركته ماريا تيريزا من كاسانو في عروق ابنتها الراحلة إيڤون. في أوائل القرن السادس عشر، تحديدًا عام 1527، هاجم جنود شارلز الخامس روما. ولولا التحالف الذي عقدته عائلة كولونا الإيطالية مع إمبراطورية الهابسبورغ لكان القصر قد تعرض للنهب والتخريب، كما حلّ بمعظم القصور في حادثة "احتلال روما" آنذاك. هذا القصر الرهيب ستسكنه سيدة لبنانية، وتترك أثرًا كبيرًا فيه، حتى رحيلها أواخر ثمانينيات القرن الفائت. هذه السيدة هي إيزابيل سرسق، التي ولدت في بيروت عام 1889. غالبًا في الشارع نفسه الذي هزّه انفجار المرفأ قبل عامين. في كثيرٍ من المصادر الإيطالية، حتى المعاصرة منها، يعرّف عن "دونا إيزابيل إيلين سرسق" بأنها من عائلة مسيحية أورثوذكسية يونانية من أصل بيزنطي، وأنها من أهم العائلات في بيروت. وفي أحيانٍ كثيرة، لا نجد أثرًا لتجارة الحرير التي كان لها دور كبير في صعود العائلة، وإنما يبدأ التحقيب في تاريخ عائلتها منذ قدومها إلى إيطاليا. وفي ذلك الوقت، كان "السراسقة" مصرفيين وصرافين وأثرياء للغاية فعلًا. كذلك، لا تعترف هذه المصادر بمحل إقامتها العثماني في الزمن الإمبراطوري، ولا اللبناني في بداية نشوء القوميات، وبالتالي بهويتها لحظة ذهابها إلى روما لكي تتزوج مارك أنطونيو السابع. زوجها، الذي يعود نسله هو الآخر إلى العرش البابوي المنتصر على العثمانيين في معركة ليبانتو عام 1571، والتي كانت أساسية لتأكيد السيطرة الغربية على البحر الأبيض المتوسط.
وكما لعبت إيڤون سرسق في ترميم قصر العائلة ومتحفها في بيروت، لعبت إيزابيل دورًا كبيرًا في ترميم "قصر كولونا"، الذي بني على أسس معبدٍ روماني شهير هو سيرابيس في روما، وعبر مراحل عدة تاريخيًا. من بين المهندسين الكبار الذي عملوا بإشرافها في ترميم القصر، أندريا بوزيري، ڤيشي وفدريكو زِري، وتوماسو بوتزي. وخلال عملية الترميم، نقلت إيزابيل معها أطيافًا من بيروت إلى روما. بلغةٍ أكثر دقة، كان يمكننا القول: نقلت شيئًا من المعرفة البرجوازية الناشئة على الحوض الشرقي للمتوسط، إلى البرجوازية العريقة في غربه. وإن لم تكن هذه المعرفة معرفةً بالمعنى الذي نتخيله، بل كانت مجرد رخام. فتاريخ البرجوازيات للأمكنة والأزمنة هو تاريخها نفسها في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة، وليس تاريخًا واقعيًا للعالم وللعلاقات بين جميع الطبقات. يبقى أنّ ذلك الرخام الشرقي كان حدثًا، وقد رأى نقاد إيطاليون وقتها أنه يحوي شيئًا من "روح الشرق الأدنى الفرنسي". والتسمية في حد ذاتها تفتح نقاشًا طويلًا عن العلاقات الاستعمارية بعد الاستعمار، وعن التحالفات البرجوازية قبله، وعن تاريخ المتوسط المأسور بهذه العلاقات.




لا ورثة للسراسقة. والقصد أنه لا ورثة للدور الأرستقراطي الذي لعبته العائلة في زمانها. رغم ذلك، في زمنها، لقبت إيزابيل سرسق كولونا بأنها "وصيفة ملكة إيطاليا"، لشدّة ما كانت كاريزمية، ولشدّة ما كانت محبوبة في أوساط البرجوازية الإيطالية. كان دورها كبيرًا في حماية القصر في كولونا، وفي حماية تحفه وأثاثه خلال الغزو النازي لروما في الحرب العالمية الثانية، بعد أن خبأتها في ملجأ تابع للسفارة الإسبانية، وأعيدت إليه بعد الحرب. يشمل هذا الأعمال الانطباعية الكلاسيكية في القصر، ولا سيما أعمال ڤانڤيتِللي، وپينتوريكّيو، وپومارانشو، بالإضافة إلى أعمال پيتر موريل، وغاسپار دوغيت.
يمكننا التسليم أن ما بين كولونا وسرسق هو علاقات طبيعية بين الأسر البرجوازية في ذلك الوقت. كذلك الأمر العلاقة بين القصرين وبين محتوياتهما التحفية، لما نعرفه عن العلاقة بين تلك الأسر والفنون. قد يكون الأمر برمته مجرد رخام. لكن "تفسير الرخام"، على ما يذهب الشاعر، ليس أمرًا سهلًا. تعود أصول آل سرسق إلى القسطنطينية قبل سقوطها، ولكن ليس أصول القصر. فالقصر بيروتي ولبناني وشاهد على مرحلةٍ لبنانية. مرحلة أفرطت التقاليد اللبنانوية في التأريخ بأسطرتها، وكذلك أفرطت السرديات المضادة في ذمها والتقليل من حضورها في مراحل نشوء المدينة وتطورها. لكن التاريخ يبقى تاريخًا، تهيمن عليه الأيديولوجيا أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى يمحو الوقت أجزاءً من الصورة. كيف لا يكون كذلك، وقد عاشت العائلة العريقة في مرسين العثمانية قبل وصولها إلى جبيل على السواحل الشمالية للبنان، قبل أن يكون "لبنان الكبير"، وهذا يعني أن أصولها الثقافية، قبل أن تصبح واحدة من أكبر البرجوازيات في المنطقة، هي أصول مختلطة. في جبيل، أقامت العائلة في البربارة، وهي واحدة من 7 قرى شكلت "قرنة الروم" على السواحل الشمالية اللبنانية، قبل وصولها إلى بيروت. والمقصود بهذه القرنة، القرى الأورثوذكسية في المحيط الماروني. وفي بيروت، لا يبدو تتبع الأيام الأولى للعائلة سهلًا، فقد عاشوا في بيروت منذ 1712، لكن الوثيقة الأولى التي تثبت وجود السراسقة في بيروت تعود إلى 1832، وقد كانت المدينة محتلة آنذاك من قوات إبراهيم باشا. لكن الوثائق الأخرى في أرشيف العائلة كثيرة، وهي التي دقق فيها الباحث الإيطالي لورنزو ترومبتا. تشير هذه الوثائق إلى أن أشياء كثيرة حول تاريخ البرجوازية اللبنانية وعلاقاتها مع السلطات العثمانية، وبين البرجوازية وبين ممثلي الدول الغربية في سياقٍ مواز.




آخر "الورثة" المعاصرين والمعروفين في بيروت هو نقولا، الذي أصبح القصر متحفًا بناءً على رغبته. ومن ناحية تقنية، يجب الإشارة إلى أن المتحف خضع لعملية ترميم قبل انفجار المرفأ، وبعده أيضًا. وهو يحوي اليوم مجموعات ثابتة، في مثل المجموعة الشرقية، التي يمكن تبدأ بالأيقونات البيزنطية، وتمر بالتحف الإسلامية، وتنتهي ببعض الأعمال التي تعود إلى المراحل الأخيرة في العهد العثماني. وكذلك، هنالك مجموعة الفن المعاصر، التي تضم أعمالًا متنوعة لفنانين متنوعين. وهناك مجموعة فؤاد دباس للصور الفوتوغرافية، والتي تشكّل أرشيفًا بصريًا ثمينًا يمتد على قرنٍ كامل (بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين) ليس فقط للبنان، إنما لكل المنطقة. وفي المتحف أيضًا، تمثال "الباكيتان" الشهير، ليوسف الحويّك، الذي أزيل من ساحة الشهداء في وسط بيروت قبل الحرب الأهلية. لكن ما ليس موجودًا في التحف قد يكون موجودًا في الوثائق التاريخية. في أبحاثه، يذكر ترومبتا أن آل سرسق كانوا ملاكًا غائبين للعقارات في مرج ابن عامر شمال فلسطين. ومن بين ما يذكره أن منظمات الاستيطان أبرمت عقودًا لشراء 71356 دونمًا في المرج من آل سرسق، مشيرًا إلى أن حادثة البيع هذه مشهورة، وإلى أن السلطات العثمانية فشلت في منع الوكالة اليهودية من الاستحواذ على أراضي الفلسطينيين، لأنها "كانت مقيدة بالضغوط الأوروبية، وبجشع كبار المالكين للأراضي". بعد هذه العملية، تم طرد المزارعين الأصليين. أما الحجة التي تذرع بها البريطانيون، فكانت أنّ المزارعين يدفعون العشور لآل سرسق، مقابل حقهم في العمل في الأراضي التي استحوذت عليها العائلة الأرستقراطية في أوقاتٍ سابقة. هكذا تذرع الانتداب البريطاني بأن المزارعين كانوا "مُستأجِرين"، وأيدوا عملية الشراء التي قام بها الصندوق القومي اليهودي.

 لعبت إيڤون سرسق دورًا في ترميم قصر العائلة ومتحفها في بيروت


في مكان إقامتهم، كان الأمر مختلفًا. كان آل سرسق راسخين في بيروت... وفي روما. لا تعرف إن كان القصر متحفًا، أم أن الحدس خاطئ، والأمر بالمقلوب، فيكون المتحف قصرًا. وهذا فصل من فصول العلاقة بين البرجوازية وبين تاريخ الفنون، التي خضعت لهيمنة طويلة واحتكار طويل من أصحاب القدرة على الهيمنة والاحتكار. وإن كان نبذ التسلّط الطبقي وهيمنة الناتج عنه من تأريخ ومعارف مسألة طبيعية، إلا أن فتنة الفنون تبقى حدثًا يبعث دائمًا على الدهشة، وتدفع دائمًا إلى رغبةٍ بالتمسك بها كجزء من هوية جماعية، لا يمكن التنصل منها. هناك في سرسق على باب المتحف، ينتهي القصر وتبدأ بيروت. يمكن معاينة المطرانية القريبة والمباني البرجوازية الأخرى والطريق مفتوح إلى شرايين الأحياء. أما المدينة فهي خلف الحديقة. مدينة كان وجودها في الزمن البرجوازي حديقةً خلفية للقصر، واليوم صارت، أكثر من أي وقتٍ مضى، حاجةً ملحة للمتحف، وهو حاجة ملحة إليها، قبل أن تصير كلها أشلاء في ذاكرة.
تعبر الذاكرة إلى روما، من خلف القصر، عبر البحر المتوسط. كثيرون هم الذين يذكرون أودري هيبورن على دراجة نارية. تلك الصورة الشهيرة من عام 1953، على ملصق فيلم "عطلة رومانية"، أحد أبرز الأفلام السينمائية عن روما. الفيلم الذي ينتهي هناك، في قصر كولونا، في زمن سيدة القصر نفسها التي تحدثنا عنها. ولا نقصد أودري هيبورن، إنما ايزابيل سرسق. وصيفة ملكة إيطاليا كما لقبت في الأوساط (البرجوازية) الإيطالية، الآتية من بيروت، من حي سرسق الشهير بالتحديد، الذي سيدمره انفجار هائل، عصر الرابع من آب/ أغسطس عام 2020.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.