}

وضاح شرارة: بإمكان الرواية أن تخرج أشياء مضمرة

أحمد محسن 23 مارس 2022

 

في روايته الجديدة، "أمس اليوم" (دار نوفل/ 2022)، يكتب وضّاح شرارة عن حياة كاملة، عن حياة عالقة، تنساب أحيانًا بسلاسة في النصوص، وأحيانًا بصعوبة كأنها تتوقف في الزمن. وتدلف من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر كذلك، بين المسرح الجنوبي البعيد، وبين المدينة التي هي بيروت، إلى حواشيها وضواحيها. يبحث شرارة عن أشياء متجاورة خلف ذاكرته، ويتحرّر تدريجيًا من ثقل التأريخ الذي حفر فيه من قبل، وعلى هامش المجتمع الذي صوّب نظره إليه طويلًا. بعد البحث في "أصول لبنان الطائفي"، وفي أحوال المدينة ومسارحها، وفي تفكيك عصبة الجماعة ومحاولة تفسير استوائها في أشكالها الحالية، يفسح شرارة مجالًا لذاكرته أن ترنو قليلًا إلى ذاتها، وإلى ما يجاورها من خيال.

على هامش صدور روايته الجديدة، والأولى كرواية بعد عشرات المؤلفات في السياسة والاجتماعيات وغيرها، كان هذا اللقاء، للحديث عنها وعن أحوال السياسة والأدب في المجتمع اللبناني خاصةً والعربي عمومًا، وعن العلاقة بينهما. كان هذا للحديث عن الأمس، وعن اليوم.

 

 (*) تعالج سلسة مواضيع في "أمس اليوم" عالجتها سابقًا في كتبك، مِثل قلق الجماعة الأهلية وعصبيتها، ومِثل تبدل مواقع النخب في داخلها وعلاقتهم بالمجتمع الذي يحدث خارجها، إضافة إلى عناصر أخرى كثيرة. إلى أي مدى تعتقد أن الرواية قادرة على قول ما لا تستطيع السوسيولوجيا الجافة قوله؟

في "أمس اليوم"، يمكننا أن نبدأ من العنوان تحديدًا. العنوان يحمل شُبهة الجمع بين الكلمتين. إذا كنا نعتبر الأمس مبتدأ مضافًا، واليوم مضافًا إليه، فهذا يعني أمس اليومِ وهكذا نؤرخ لليوم من أمسه وللأمس من اليوم. وإذا تركناهما في جوار معلّق بدون رابط نحوي بينهما، سنكون في هذه الحالة، نتابع العد، نعدّد أمس اليوم حتى نصل إلى غد. انتبهت إلى ذلك بعد الانتهاء من الرواية، أي إلى أني أروي نوعًا من عودة: ولدٌ شهد انفصال والده ووالدته، فعاش انتقالًا من حياة إلى حياة ومن زمن إلى زمن آخر. العودة لبيت أبيه كان ممكنًا أن تسمى بعودة الابن، وليس بعودة الابن الضال. هذه العودة لأصل غير محدّد وغير معروف، وكانت بحاجة إلى دليل. كان الدليل في هذه العودة هي ابنة عمه، التي هي أصغر منه، والتي هي ليست دليلًا في الواقع. كانت عودة إلى عالم رحِمي، فيه خليط رهيب من القديم والجديد والأشياء البالية. العودة التي تتكرر، وكذلك الدليل، مع ابن عم الأب، ومع بيت الخال. إنها العودة التي تتكرر مثل أمس اليوم، هذا ما أتحدث عنه.





(*) في الرواية الجديدة، يشعر القارئ أنه يتبع أحداثًا وقصصًا تساير منهجية كتابية ولكنها غير صارمة على غرار أعمالك الأكاديمية. أحداث محمّلة بوظائف تأريخية. هل يمكن أن نسمّي الأحداث التي ترد فيها تأريخًا متسامحًا يتمظهر بصيغة روائية، أم أنها فعلًا أقرب إلى خيال روائي صرف تمرّس صاحبه في التحرر من الشبكات المعقدة التي تشكّل تاريخًا بحد ذاته؟

مسألة الأمانة مطروحة. لكنها مطروحة ليس كأمانة وقائع. معظم الأشياء المروية لم تحدث. نتحدث عن أمانة مختلفة، عن خط حدثي أو عن مجموعة أحداث. عندما بدأت الكتابة عن جو أو نفس أو شعور خلف ما أتذكر أو أخترع أو أتخيّل، كان لدي شعور بأن هناك معاني غير مجردة أو ذهنية، ولكني كنت أبحث عن معانٍ ونوابض وأشياء تقود إلى بعضها البعض. أشياء من معدن أو من مادة الحِس. شيء يشبه البحث عن حياة الأشياء في الذاكرة وفي الفِعل، حياة الحيوانات، حياة الأشياء المضمرة، التي تعبر الكتابة عنها.

(*) بشكل عام، كعالم اجتماع ومؤرخ، كيف تقرأ حضور الرواية والأدب عمومًا في المشهد الثقافي اللبناني والعربي؟ هل كان دورها ايجابيًا في إنتاج المعرفة أم أن سقوطها في فِخاخ الخطاب المهيمن كان أكثر حدوثًا؟

أعتقد أنه بإمكان الرواية – وهذا حدث فعلًا – بمعنى ما، أن تؤرّخ بلغتها، وتخرج ما هو مضمر، أو الشيء الذي بجوار الشيء، كإبراز الجوارات بين الأشياء، وهذا ما لا يمكن للكتابة التأريخية أن تفعله. لا أعرف إذا كانت قد أنتجت معرفة، ولكن ما أحاول قوله هو أن الطبقة أو النصاب الذي تقوم عليه الرواية هو أبعد وأوسع وأكثر تعقيدًا من الكتابة والأعمال التاريخية.

(*) نعيش في عالم بلغ التلاعب بالوقائع والأفكار فيه حدًا ظاهرًا، إن كان ذلك بواسطة الإعلام الجماهيري أم بواسطة الدعاية السياسية القائمة على عصبيات قديمة وجديدة. في روايتك، هل ثمة ما يدل على أن العصبيات اللبنانية ما زالت على حالها، أم أنها ازدادت حضورًا أو خفوتًا؟

المسألة حادة. وإذا أردنا العودة للرواية تحديدًا، فيمكننا أن نستشهد بحديث العمة عن "التخريب الناتج بسبب خروج الابن عن أصله". مسألة الرد للأصل هي مسألة عصبية حاضرة. ولا أتحدث عن التأصيل بالمعنى النحوي، أتحدث عن هاجس الأصل، الذي لا ينتبه دائمًا لمسألة جوهرية، وهي اشتباه العالم. معاني العالم ليست مُحكمة وغير متزامنة أو متواقتة. العالم مزيج من الأزمنة والوقائع والمعاني. والفصل الأخير، ومن دون إرادتي، كان مخصصًا لقراءات متعدّدة لواقعة معيّنة ومحدّدة، حيث تنهال الأسئلة بغزارة. بالعودة إلى السؤال الأساسي، أرى أن ثمة شبهًا جوهريًا. لدي إحساس أن الظواهر السياسية الكبيرة، في الثلاثين أو الأربعين عامًا الأخيرة، هي أشياء تندرج في هذا السياق، أو تذهب هذه الوجهة. وجهة السؤال عن الأصل والحالة والعالم الراهن. الجواب القاطع، أو محاولة الجواب القاطع على هذه الأسئلة، صعب أن تكون أكثر من شعيرة تدور حول أصل مات. هذا البحث عن الأصل، يشبه الاستدارة، يشبه رقص "فروة الرأس" عند الهنود الحمر، بينما لم يعد يوجد رأس ولا يوجد شخص ولا جثة.

(*) بعيدًا عن الرواية، أو بالقرب منها، نتحدث قليلًا في السياسة والمجتمع، وعن التجارب الطويلة. في وقتٍ من الأوقات، هيمنت البنيوية على الثقافة الأوروبية عمومًا، قبل ظهور التفكيكية كخطاب معرفي جديد تزامن مع إعادة إنتاج اليسار الأوروبي لنفسه. هل ينسحب نقدك العميق لتجربة اليسارين اللبناني والعربي على اليسار في أوروبا والعالم؟

ثمة وقائع متجاذبة أو متناقضة. من ناحية، لا يوجد مكان في العالم إلا ويوجد كلام عن أزمة اليسار. ومن ناحية أخرى، وفي أمكنة أخرى لافتة، شهدت السنوات العشر الأخيرة – تزامنًا مع صعود هَبّة الشعبوية - نوعًا من العودة إلى يسار ناشط، كما في البلدان الإسكندنافية، وهذا صحيح أيضًا في الحزب الديموقراطي الأميركي، بانتخاب بايدن في أحد أوجهه الانتخابية وبالنظر إلى برنامجه بين مشروعين ضخمين يعد صعودًا في هذا الإطار. الحراكات المختلفة في العالم العربي وأميركا اللاتينية وفي أوروبا تدلّ على بدايات إرهاصات بوجهة تبحث عن مشكلتها وعن بنيتها وجسمها. في بعض جوانب هذا البحث هناك إيجابية حتى لو خبت كما في الجزائر أو تعثرت كما في السودان. ما يحدث في الجزائر وفي السودان بديع الدلالة، حالة مدهشة فعلًا.





(*)
يعرف عنك نقدًا صارمًا لليسار اللبناني، تضاف إلى قراءات طويلة في تشكّل اليمين واليسار اللبنانيين. لكن ما لا يعرفه كثيرون، هو انتقادك أيضًا لصيغ الليبرالية اللبنانية أو العربية. تقول في مقابلة سابقة إن هؤلاء [الليبراليين اللبنانيين] لا يستوون مع الليبراليين في شيء. ما هي مشكلة الليبراليين اللبنانيين والعرب تحديدًا؟

ثمة ما هو جوهري بالليبرالية، وثمة ما هو جوهري في الاجتماعيات العربية، أي في بنية المجتمعات العربية. الليبرالية، بشكل رئيسي، تهدف إلى وضع حد إلى كليانية السُلطة وإلى طموح السُلطة بأن تكون كل شيء. هناك جملة شهيرة لكارل ماركس عن رقابة الطباعة، يتحدث فيها عن بيروقراطية الرقابة، حلم البيروقراطية أن لا يتبقى ما تراقبه، وإنما أن تكتب بنفسها كل ما تحتاج إلى مراقبته. هناك نزعة للسُلطة إلى ابتلاع المجتمع، وهذه النزعة مفسرة على نحو جيد في الأدبيات الهيغلية والماركسية. هذه النزعة في المجتمعات العربية تبدو وكأنها طبيعية أو بديهية، بينما المفهوم الحقوقي لتجاوز حق السُلطة، أي صاحب الحق، يعني أن يكون المجتمع شيء غير السلطة وفي وجهها. ولا يعني ذلك أن المجتمع يجب أن يكون خارج السُلطة أو أنه يتنافى معها، فالعلاقة بينهما هي علاقة تنازع على منطقة مشتركة. في مجتمعاتنا العربية، لما يوجد ليبراليين، فليبراليتهم لا تبدو ليبرالية أي مطلب، ويعملون على بنية لفظية. مثلًا، لدينا حركات سياسية هنا تحدّثت عن التصنيع والذهاب إلى مجتمع صناعي، في نموذج في ذهنهم كان ألمانيًا، ولكن المشكلة كانت من سيصّنع؟ وجدوا مجموعة محامين ومعلمي مدارس وخطباء. وهذا لا ينطلق من حاجات وتطلعات المجتمع، لأن ليس مجموعة الصناعيين هي التي ستفعل ذلك. دعنا نعطي مثلًا عن السان سيمونيين. لم يكن هؤلاء مفكّرين وكتابا بل كانوا رجال أعمال، وواحد منهم شقّ قناة السويس. ما أقصد قوله، ويمكنني الاستعانة بكارل ماركس أيضًا هنا، فقد كان دائمًا يسخر من تغيير العالم في الرأس، بينما العالم يحدث في مكان آخر.


(*) يمكن القول إنك أجريت مراجعة، أدت إلى استواء نقدك ما يسمى باليمين اللبناني (أو ما سمّي كذلك) في صيغ جديدة، حاولت مع الوقت دائمًا أن تكون أكثر موضوعية. هذا اليمين (المسيحي) الذي شرحت عنه باسهاب في أعمال سابقة كثيرة، عن تشكله وعن تمثيلاته بالنسبة للآخر الذي صار في لحظة حساسة هو اليسار (العربي والاسلامي). من هذا اليمين تفرّعت نظريات وتفسيرات، تقول بانتماء لبنان إلى حضارة أوروبية بموازاة الانتماء إلى حضارات أخرى. هل ترى ذلك ممكنًا؟

مسألة نقل أو نسخ أو تقليد الحضارات هي مسألة بلا أفق. كل العلاقات الموجودة بين لبنان والغرب لا تكفي إطلاقًا لتجعل منه نسخة أو مقتديًا بنموذج. مأساة التاريخ اللبناني – وهي مأساة التاريخ السوري والتاريخ العراقي أيضًا – هي عدم احتضان تاريخها كتاريخ معاصر أو كتاريخ داخلي، لا معاصر زمنًا ولا داخلي في سياق انجازه. ذلك لأنه عمليًا لا يوجد عمل على الأفكار والأعمال والتجارة أو أي شيء إلا ويلازمه نظام قيمي؛ يُحدد الخطأ والصواب، على الأقل من الناحية اللغوية. وفي حالة الفِعل ينسحب الشيء نفسه، إن كان ذلك في مدرسة أو في مستشفى أو أي فِعل. هناك نظام قيمي. ولا في أي مكان يمكن أن يوجد عنصر معرفي تقني مجرد، ففي داخل التقنية – وهناك عبارة شهيرة لهابرماس في هذا الإطار – العلم والتقنية كأيديولوجية، هناك نزاع دائم للتخلص من عنصر أيديولوجي أو قيمي.





(*) من خلال عملك المعروف في قراءة ومراجعة، ويمكن أن نقول تفسير التفسير في اشتغالات حنا بطاطو، الذي فكّك مجتمعات عربية ناشطة تفكيكًا دقيقًا، ومع الأخذ بالاعتبار موقفك الطبيعي ضدّ الديكتاتوريات، هل تعتقد أن مفاعيل "الربيع العربي" كانت في حدوثه بحد ذاته، أم أنها ستترك أثرًا تراكميًا؟

الأكيد في الأمر أن حدوثها بحد ذاته كان أساسيًا وعميقًا. النتائج مشكلة، لأنها حدثت في بيئة غير متماسكة غير الظاهر. هناك تماسك صوري. حافظ الأسد حكم سوريا لثلاثين عامًا والآن ابنه حكم عشرين عامًا. نتحدث عن خمسين عامًا. تماسك الجزائر؟ جاءت جبهة التحرير من 1962 وعمليًا تابعت بعد 1988، وتابعت بعد الحركات الإسلامية في التسعينيات التي راح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل، التماسكان السوداني والمصري مشابهان مع اختلافات كبيرة، لكن هناك شبه دائمًا في تماسك ظاهري، خارجي. سعة وأهمية الحراك الذي حدث في هذه البلدان، أن البيئة التي قام فيها هي بيئة في الأساس قامت على إطلاق العنان للسُلطة، بقمع المجتمع وبإدارة الظهر لحاجاته ومتطلباته. الحراك كسّر الإطار السياسي، في مكان بديع كالسودان مثلًا، حيث يمكننا أن نرى قبائل ونقابات وشعوبًا وأصواتًا تخرج وتبحث عن توازنها وتصارع لإيجاده. في سورية كانت آلة القمع الأهلية، بمرتكزها الأهلي، تؤدي إلى حرب أهلية مفتوحة، لا يمكن أن يُعرف كيف ومتى سيُقدر على الخروج منها كحرب. في الجزائر يوجد وضع مختلف، حيث تكمن قوة وأهمية الحراك وسلميته الكاملة، في خوف السُلطة على نفسها، ما أنتج توازنًا سمح بانقاذ الحراك، بحيث لم يفشل تمامًا ولم ينجح، لكن الدولة لم تنتصر. في الجزائر مثلًا توجد عناصر جاهزة لحراك آخر في ظروف أخرى.

(*) على الهامش، ما رأيك بالأدب الناتج عن الانتفاضات في عالمنا العربي عمومًا؟ هناك من يقول إن 14 آذار و17 تشرين أحداث غير قادرة على الوصول إلى الرواية وإلى الأدب، مثل أحداث ما سمي بالربيع العربي بشكل عام، على عكس الانتفاضات التشيكية أو المجرية ضدّ السوفيات، أو انتفاضات أوروبا أواخر الستينيات عمومًا. في هذه النقطة بالذات، هل الخلل في أدبنا، أم في انتفاضاتنا؟ أين النقص؟

الحركات أو الانتفاضات الأوروبية قبل أثرها في الأدب أثرت في المجتمع نفسه. أصداء 1968 في الحياتين الفرنسية أو الإيطالية، أو المعاصر لها في الولايات المتحدة الأميركية كانت دخلت في تغير نسيج المجتمع. أكثر من ذلك، هناك ما يسبق هذا ويكمله. هذه الحركات منذ انطلاقتها هي حركات مشبعة بروح أدبية. وليس صدفة أن يُكتب على حيطان باريس الكلمات التي مصادرها الأدبية الفكرية والأدبية معروفة، شيء مثل "كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل". ما هي 1968 بشكل جوهري؟ فكرة التسيير الذاتي مطبّقة على نواحي الحياة الاجتماعية، الجامعة، المصنع، المدرسة، المستشفى وغيره، أي ادارة المؤسسة وتطويرها من الناس الذين هم فيها. أذكر هنا عملًا جميلًا لجاك رانسيير هو "ليل البروليتاريين". في هذا العمل بحث رانسيير عن البروليتاريين في الليل، تجاربهم ووثائقهم، فاكتشف أنهم يقرأون في الليل، ويحلمون بقراءاتهم. فكرة التسيير الذاتي، هي أحلام ليل البروليتاريين بعد القراءة. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.