}

هل يكون الحب موضوعًا للأنثربولوجيا؟

فريد الزاهي 15 أغسطس 2023
اجتماع هل يكون الحب موضوعًا للأنثربولوجيا؟
دينو دانيال سويرارو، رومانيا

مع تطور وسائط التواصل الاجتماعي والتطبيقات التي تخبرك بالأشخاص الموجودين حواليك في الحي، وانتشار صور الأشخاص ومعطياتهم المشهرة في صفحاتهم، صار التواصل بين الذكور والإناث مسألة "ميساج" أو "أوديو"، قد يكون نتيجة للايك أو لتعليق أسفل المنشور. الغواية كما الحب والوصال لم تعد أمورا شاقة، وحكاياتها لم تعد قصصًا "أسطورية" تتداولها الشفاه. لا شيء من الحب صار يتم سرًّا كليًا أو علنًا تمامًا. كل شيء يتبلور في الهاتف، في التواصل الخفي والشخصي. ولم يعد الحب اليوم قضية اجتماعية محفوفة بالمخاطر وبالرقيب، وبسماع الصوت كما قال ابن حزم، أو مشهرةً بكتابة الأشعار وإنشادها، بحيث يغدو الحب مشرعا، ويخلق أزواجًا تتداولها الألسن وتلوكها والجلسات الحميمة، وتغدو مواضيع اجتماعية، إلا في حكايات "البيبول"، والمشاهير والممثلين، والسياسيين وأرباب الأموال...

قبل عصر الهاتف الذكي والتطبيقات التواصلية كان الحب أشبه بملحمة أوليس، وتبادله يتم بالرسائل، ووساطة الصبي أو العجوز "مرسول الحب"، والقبلات فيه أندر من التوجه للحج، واللقاءات يحجبها الليل وخلوة الأزقة والسطوح، ويحفها الخوف من الفضيحة أو العار. الحب كان رهانًا اجتماعيًا وشخصيًا يُحكى كخرافة، خاصة في المدن العتيقة والأرياف. الحب كان ذروة اليومي وعسله الذي يذرّ فيه الحلاوة بعد ضنك الشغل والدراسة. ولم يكن الجنس بالضرورة مرمى وهدفا إلا في عمليات الغواية التي تكون هدفا لها المرأة المطلقة أو اللعوب أو الغريبة عن البلد. 

الحب بين الحضور والهامشية

يهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم النفس بكافة الظواهر التي تخترق حياتنا الاجتماعية، من شغل وطفولة وشباب وعلاقات سلطة وقرابة وعوائد اجتماعية... والذين يشكل الجسد بؤرة اهتمامهم تراهم يدرسون العواطف والحواس والمشي...، والنادرون من بينهم من يفردون بعضًا من أبحاثهم وكتاباتهم للحب. إنهم يتحدثون في أحسن الأحوال عن "الأهواء" (passions). أما التحليل النفسي فإن الحب يتحول في ترسانته المفاهيمية إلى غريزة وإلى ثنائية الإيروس والتاتانوس. حين سئل جاك دريدا قبل وفاته عن الحب، أجاب "بمكر" فلسفي إنْ كانت مُحاوِرته تتحدث عن الحب أم عن الموت (فنطق الكلمتين في الفرنسية متقارب: أمور = حب؛ مور =  موت)، ثم قال بشكل قاطع: ليس لدي ما أقوله عن الحب. وحين حاصرته مُحاوِرته طرح سؤال المنْ والماذا (لأنه سؤال الكينونة): هل نحب شخصًا معينًا أم شخصًا ما؟ ثم ماذا نحب في الشخص؟ هل نحب الشخص كذات مطلقة أو لخاصية معينة فيه. وخيبة الحب وموته؟

يطرح دريدا الأسئلة ليفكك سؤال الحب أو ليربطه بسؤال الكينونة، أو لأن الفلسفة الأفلاطونية قد فكرته في محاورة "المائدة" ومنحته طابعًا أسطوريًا وميتافيزيقيًا في شخص الأندروجين من غير أن تفكره في علاقته بالوجود. مع ذلك خصص دريدا حيزًا من شسوع فكره لمسألة الصداقة (سياسات الصداقة) وللكذب وللغفران ولغيرها من القضايا. قريبًا منا ومن جاك دريدا، تحدث الخطيبي كثيرًا عن الحب، وجعل من حبه للغة حبًا للكائن الأنثوي. غير أنه في كتاباته الحكائية لم يتحدث عن تجاربه في الحب بل عن خيباته، وتسامى بهذه التجارب ليستعيد الحب الخائب في مفهوم المحبة (aimance)، الذي يشمل علاقات الصداقة العاشقة كما الحب. يجسد تساؤل دريدا كما النظرة المواربة للخطيبي أمرين: أن الفلسفة المثالية هي التي تطرح مسألة الحب، لكن في غياب مفهوم الوجود، من ناحية، وأن الحب مسألة أدبية بامتياز، أو قضية رواية وشعر ومسرح.

وليس من قبيل المصادفة أن أحد الفلاسفة الأميركيين ألَّف بالولايات المتحدة قبيل وفاته كتابه الأخير عن "الحب والصداقة" (1993) يقول في مقدمته: "لقد ألفت هذا الكتاب خلال فترة نقاهتي من مرض عضال. ومن غرائب الأمور أن هذه الفترة صارت الأسعد في حياتي. كنت في كل صباح ألاقي جان جاك روسو وستندال وأوستن، وأتعلم أمورًا رائعة عما يعنيه الحب والكراهية، وأن يكون المرء خيّرًا أو مزعجًا. وحين أنام، كنت أفكر بفراغ صبر في أن أستفيق لكي أستعيد هذه العلاقة الحية مع الكتب. كانت تلك الكتب تتسامى بي عن همومي الخاصة". فهل يكون الأدب فقط المرتع الأوحد لحكْي الحب؟ وهل الحب فقط حكاية بداية وسعادة ونهاية وألم وشقاء؟

حين درستُ منذ أكثر من عشرين عامًا قضايا الجسد والمقدس والصورة في الإسلام (1999) وبعض قضايا الحب والأنوثة والذكورة في الثقافة العربية (الصورة والآخر، 2013)، اكتشفت أن الكتابات العربية عن الحب (ابن حزم، ابن أبي حجلة...) وعن الغواية (التيفاشي) وعن النكاح (السيوطي...)، يمكنها أن تشكل تصورًا متكاملًا يتجاور فيه الحب العذري والصوفي، المغيّب للممارسة العاشقة، والحب الإيروسي الذي يفترض بشكل أو بآخر أحاسيس الحب. أدركت حينها أن التفكير في الحب ضرورة قد تكون أكبر من ضرورات أخرى، لأنه تفكير في الرابط الإنساني الذي تنسجه الرغبة (الإيروس). وأدركت أن تعقد الحب يدعو إلى التفكير في التباسه وعلاقاته المتشعبة بالأحاسيس والأهواء والجسد والخيال واللغة.

هل يمكن تصور أنثربولوجيا للحب؟

لقد بنى العرب تصورات للحب يمكن استعادتها وتحيينها وإعادة بلورتها لتجاوز التهميش الذي يعرفه الحب في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. إنه تهميش كوني لأن هذه العلوم اهتمت بالطبقات الاجتماعية والقرابة. ولم تقارب الجسد والعواطف والحواس إلا بدءًا من التسعينيات. وقد أشارت مجلة "إيميلاسيون" الفرنسية في العدد الذي خصصته لهذا الموضوع منذ سنوات قليلة (2017) إلى أن "العلوم الاجتماعية لطالما قللت من قيمة هذا الموضوع إلى حدّ الازدراء أحيانًا، مع أنه يوجد في قلب العديد الحيوات الوجودية البشرية، والعديد من التمثيلات في الثقافة الشعبية والتخييل الأدبي والبصري". الحب يخترق تفاصيلنا الحياتية اليومية، وهو موضوع للبحث والتقصي متعدد وملتبس، فهو يفترض الأحاسيس والعواطف كما الحواس والمقاصد، والرغبات والشهوات. إنه ذلك الواقع الذي يلهب الخيال ويفجر المجازات والاستيهامات. وهذا الموقع الفعلي والرمزي هو ما يجعله المسرح الأمثل لصراع الذكورة والأنوثة وتصارع الأساطير، ونزاع السلط. الحب بهذا المعنى يمنح الكيان للكثير من الممارسات، بعضها ذو طابع ديني (مسألة الحجاب) وبعضها شرعي قانوني (الجنس بمظاهره)، وبعضها اقتصادي (الموضة، منتجات التجميل، الجراحة التجميلية...). إنه، بارتباطه بالجسد، يكون حاملًا لكل المعطيات التي يفرضها هذا الأخير، من حواس ومظهريات وسلوكيات ومواقف.

لعل هذا الطابع القنفوذي (بلغة جاك دريدا) هو ما يجعل الحب موضوعًا منفلتًا من الفلسفة المعاصرة، مع أنه كان موضوعًا للفلسفات الأولى (أفلاطون). وما دامت العلوم الاجتماعية سليلة الفلسفة، فهي أحيانًا ترث عثراتها كما حدودها وانفتاحاتها. وربما كان التحليل النفسي بتفرعاته الجديدة أقرب إلى تناول هذا الموضوع. وهي سبل تناول يلزم الإنصات إليها في سعيها للإمساك بالمكبوت والصامت والمستعاد، وفي ما ينطبع على الجسد. وما دام الحب ليس فقط أحاسيس وميولًا ورغبات واستيهامات... فهو يغدو مقاصد اجتماعية، وموطن صراع أو تبعية، ورهانًا ذاتيًا أو اجتماعيًا أو أخلاقيًا/ دينيًا... بهذا قد ينفلت الحب من العلوم الاجتماعية ويتوزع على مقاربات مواربة تمحو وجوده. بيد أن وجوده في اليومي وتمظهراته التعبيرية والخطابية والبصرية في العصر الرقمي، وتحوله إلى مجال لإثبات الذات أو بنائها لدى الشباب... يجعل الانتباه له بشكل أو بآخر كممارسات اجتماعية ورمزية من قبل بعض علماء الاجتماع والأنثربولوجيين بالأخص، دليلًا على تحول النظرة ودخولنا إلى مجالات وباراديغمات فكرية ومعرفية جديدة.

من الجنس إلى الحب

منذ أن نشر صلاح الدين المنجّد الجنس عند العرب وجمال المرأة عند العرب في منتصف القرن الماضي، لم ينتج علماء الاجتماع إلا بعض الدراسات عن الجنس والعلاقات الجنسية (فاطمة المرنيسي، عبد الوهاب بوحديبة)، أما الباقي فإنها دراسات اجتماعية وأنثربولوجية عن وضعية المرأة. والأكيد لدينا أن العلاقات العاشقة لا يمكن اختزالها في الحب، ففي مدارها ثمة علاقات سلطة ومقصديات وألم وزواج وانفصال وأبناء ومظهريات وطقوس وخطابات لا يمكن التغاضي عنها. ولدى شباب اليوم تشكل الصورة والخطاب البصري أدوات تواصل عاشق في الحب من بداياته، مصحوب بالتواصل المباشر المستمر ليل نهار. هذه الأنماط الجديدة من الحب ومستتبعاته خلقت قوانين جديدة للحب والجنس، كما غيرت أنماط التواصل العاشق كما عرفناها منذ بضعة عقود فقط. ولعل ما يفسر ذلك العزوف عن الزواج واستشراء حالات الطلاق بعد الزواج عن حب، وكثرة العلاقات الحرة من الجانبين في ظل الزواج... من ناحية أخرى تطورت في هذا العالم الرقمي (وخارجه) علاقات جديدة صارت تملك مشروعيتها وتعيشها بحرية أو من خلال الجماعات المغلقة.

تطرح علينا هذه التحولات الجديدة ضرورة المتابعة والفهم والتحليل الأنثربولوجي، لأنه الكفيل بإدراكها في منعرجاتها وتعدديتها. وإذا كان البعض قد بدأ يتحدث عن نهاية الحب، أو الحب السائل، وعن العزوف عن الحب واختيار العزلة، فإن هذا الأمر يغدو مدعاة أكثر إقناعًا للتناول الأنثربولوجي للحب في طابعه اليومي وتفاصيله الحياتية، كما يسري في الخطاب والسلوك والصورة، وكما يتبدى لنا أو يتوارى عن أعيننا، في إشراقاته وخيباته، كما في "الثرثرة" المستشرية عنه في الفضاء الأزرق... 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.