}

"تَمَغْرَبيتْ": حين تصير الهوية رهانًا استراتيجيًا

فريد الزاهي 24 أغسطس 2023
اجتماع "تَمَغْرَبيتْ": حين تصير الهوية رهانًا استراتيجيًا
مقطع من أحد أعمال التشكيلي المغربي محمد المرابطي

إذا كانت مرحلة الاستعمار قد أججت لدى العديد من الشعوب الشعور بالهوية والقومية مما أدى ببعضها إلى مساندة النازية في صراعها ضد الدول الاستعمارية الغربية (كما كانت حال العالم العربي عموما)، فإن المرحلة الحالية، بما تعرفه من مدّ إسلاموي وعولمة طاغية، أضحت تحلّل وتبدّد مفاهيم الوطن والأمة والشعب، مما جعل العودة إلى مفهوم الهوية الوطنية خيارًا وإلزامًا إشكاليًا يطرح العديد من الأسئلة. فيما قبل الاستعمار كان الحج والرحلات وطلب العلم تشكل ارتيادًا لآفاق العالم العربي بغير إحساس بالغربة، وكان المغربي يجالس علماء تونس والأزهر ودمشق، ويستقر حيثما يروق له، لهذا السبب أو ذاك، حتى إن المغاربة كوّنوا لهم حيًا بالقدس يسمى حيّ المغاربة. ورغم المتخيل الذي يصنعه هذا الشعب العربي عن ذاك، ومن ضمن ذلك، ومنذ ما جاء في كتاب "ألف ليلة وليلة"، ما يروج عن المغاربة من أنهم شغوفون بالسحر، فإن المصادر والمؤلفات العربية في هذا المضمار لا يمكن إلا أن تفند ذلك وتدحضه...

بحثًا عن الهوية الكائنة في الهوية الممكنة

منذ بضعة أيام أصدر أحد "المؤرخين" ومثقفي السلطة وحارسي رعيّتها في الخارج، والأكثر تشبثًا بتلابيبها كتابًا بعنوان: "تَمَغْرِبيتْ، محددات الهوية وممكنات القوة الناعمة"، يستعيد فيه بطريقة شبه حرفية بعض المعطيات و"المحددات" التي كانت قد جاءت في كتاب عالم اجتماع مغربي وفي حواراته وبعنوان يتحلى بالحيطة والحذر: "تَمَغْرِبيتْ، محاولة لفهم اليقينيات المحلية". كما يستعيد فيه محتويات جريدة إلكترونية يومية تصدر بالاسم نفسه، ومعها برنامج قناة على اليوتيوب استمر طويلًا بعنوان "تمغربيت"، كان قد بلوره عالم اجتماع آخر يبدو أنه قد اشتغل معه. ومن فحوى البرنامج (الذي يتعمّد الحديث بالمغربية الدارجة)، كما من مقصديات هؤلاء جميعًا، يبدو أن المؤلفين قد دبجا كتابيهما للجالية المغربية بالخارج قبل أن يقصدا به مغاربة الداخل، باعتبار أن الأوائل محاطون بشتى أنواع الهويات الأخرى وأن تحيين هويتهم أمر قد يتطلب التذكير المستمر...

في بداية التسعينيات، استدعاني صحافي للمشاركة ضمن مشروع مبتكر كانت تحتضنه الوزارة المكلفة بالهجرة وبمغاربة الخارج لإصدار مجلة مغربية (بالعربية والفرنسية) موجهة لهؤلاء تعنى بقضاياهم أطلقنا عليها اسم "ضفاف". كان طاقم التحرير والمساهمين يتضمن أسماء لامعة من الكتاب والباحثين والصحافيين، ومن ضمنهم عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كليطو وغيرهما. وكان من بين مرامي هذه المجلة الجمع بين مغاربة العالم، ودراسة وضعياتهم، وطرح قضايا الهجرة، واستكشاف الأسماء اللامعة في المهجر من فنانين وعلماء وكتاب ومبتكِرين ولاعبين. وأتذكر أن المجلة والوزارة الوصية في مطالع التسعينيات نظمتا مهرجانًا تواصليًا لمغاربة الخارج، حضره المشاهير الصاعدون والمؤكدون آنذاك كالفنان الهازل جمال الدبوز ولاعب كرة القدم مصطفى حجي ولاعب الريكبي الشهير في الفريق الفرنسي عبد اللطيف بنعزي... ومنذ ذلك الحين فتح الفريق المغربي أبوابه للاعبين من أصول مغربية واستقطب العديد من الفعاليات في جميع المجالات، خالقا دينامية جديدة ساهمت في تألقه في مونديال قطر الأخير...

وأنا أحكي هذا هنا، أتذكر أن العلاقة التي نسجتها تلك المجلة بحرية ومن غير إكراه رسمي آنذاك، لم تكن ذات طابع أيديولوجي تبسيطي، إذ لم يكن من مراميها (خاصة أن أغلب المساهمين فيها كانوا صحافيين ومثقفين متنورين) تجميع مغاربة العالم في وعاء هوية معين بقدر ما كان مرماهم خلق الأواصر بين هؤلاء وبين ثقافتهم وبلدهم الأصل بشكل حرّ وخصب في الاتجاهين معًا: إخصاب المغرب بطاقاته في الخارج وإخصاب هذه الطاقات بانتمائها المزدوج. هكذا لم تكن مواضيع المجلة تدور حول المحددات الإثنوغرافية للهوية المحلية كالكسكس والأهازيج الشعبية وغيرها وإنما تسعى إلى بلورة حوار أشدّ عمقًا حول القضايا التي تهم هذه الجالية اقتصاديًا وفكريًا واجتماعيًا.

في السياق ذاته يحسن بي أن أعرج على تجربة فريدة للخطيبي جعلته من أوائل المثقفين المعاصرين الذين تحدثوا عن "الحضارة المغربية" ونظروا لها بطريقة فريدة. فبعد أن استفاق الرجل من خيبة الحلم بالمغرب الكبير الذي حمله سنوات طويلة والذي كان لديه "أفقًا للفكر" والوجود، بسبب تفاقم الوضعية السياسية فيه، ألفيناه يميل أكثر للحديث عن بلده ويفرد له كتابًا بذلك العنوان الصريح والصارخ. 

أصدر أحد "المؤرخين" ومثقفي السلطة وحارسي رعيّتها في الخارج، والأكثر تشبثًا بتلابيبها كتابًا بعنوان: "تَمَغْرِبيتْ، محددات الهوية وممكنات القوة الناعمة"، يستعيد فيه بطريقة شبه حرفية بعض المعطيات و"المحددات" التي كانت قد جاءت في كتاب عالم اجتماع مغربي وفي حواراته وبعنوان يتحلى بالحيطة والحذر: "تَمَغْرِبيتْ، محاولة لفهم اليقينيات المحلية"


"يبتكر" أصحاب "تَمَغْرِبيتْ" هذا المفهوم وكأنه اقتُطع من عدم، ناسين أو متناسين كتابات سابقة تحدثت في الفترة الكولونيالية عن "الروح المغربية" (فرانسوا بونجان، 1948)، وفي مطالع الاستقلال وبعده عن الحضارة المغربية (الفقيه المنوني، الحسن السايح... ثم الخطيبي). ولم يكن من الغريب أيضًا أن كتاب الحضارة المغربية كان موجهًا، في الأصل، في أواخر القرن الماضي لأبناء الجالية المغربية التي بدا للخطيبي وطاقم المؤلفين معه أنهم الفئة الأحْوج لعدم نسيان تلك الحضارة التي ينتمون إليها، وإن كان الكتاب يتجاوز ذلك حسب الخطيبي ولا يخضع له. وحين سأله أحد الصحافيين بعد صدور الكتاب: ألا يبدو من باب المفارقة الحديث عن حضارة مغربية في بلد يوجد في التقاطع بين العديد من الحضارات (الأفريقية والعربية الإسلامية والأمازيغية والغربية)؟ وألا يوحي بفكرة جزيرة معزولة عن محيطها، وبعالمها الثقافي المصغَّر والمعزول؟ سعى الخطيبي إلى الدفاع عن مفهوم لم يخالج تفكيره من قبل، بالنظر إلى أنه طالما أعلن أنه كائن كوني ومنفتح يؤمن بالتعدد والاختلاف وبوحدة المغرب الكبير. يتمثل البرهان الأول في التجمعات الجهوية بأوروبا وأميركا وآسيا التي تقوم على "بعض المعايير من الهوية الحضارية" (ص. 467). والثاني في أن الملاحظين في بداية القرن (ومن ضمنهم ليوطي المقيم العام الحاكم للمغرب) أكدوا على فرادة هذا البلد. "وعلينا نحن في نهاية هذا القرن أن نتموقع بالعلاقة مع أنفسنا وبالعلاقة مع العالم والتجمعات الجهوية" (ص. 468). وتميز المغرب عن الدول، المجاورة له، المغاربية منها والأفريقية، يتمثل في نظره في الدولة العريقة، إذ "لا غرو في أن مفهوم الدولة وشرعية دولة ما، ووظيفتها يتمثل في كونها تحدّد خصوصيات مجتمع ما" (نفسه). ها هنا يتقاطع تفكير الخطيبي مع العروي، بعد أن كان من أوائل من رفضوا تاريخانيته العقلانية. تنبني الحضارة المغربية في نظر الخطيبي على "الانسجام الداخلي" الذي يقوم على مفهوم الدولة والقيم المتوارثة سواء كانت دينية أو علمانية.

"تمغربيت": أفُق أم شَرَك؟

واليوم عقودًا بعد ذلك، وفي ظل التحولات السياسية التي تعرفها المنطقة والصراعات المتواترة التعقيد والتشابك التي تعيشها، ومحددات الإقلاع الشامل التي يعيشها المغرب اقتصاديًا واجتماعيًا وجيوسياسيًا، يبدو أن العلوم الاجتماعية والإنسانية عوض أن تنصب على الرهانات التي تفترضها هذه الوضعية وعلى دراسة مكونات الخصوصية في تقاطعاتها مع خصوصيات بلدان أخرى، والتحلي باليقظة إزاءها وإزاء ما تجره معها تلك التحولات الجارفة، بدأت تهتم بقضايا بديهية وتنظر لهوية كائنة ومتجذرة لا تتطلب التوكيد بقدر ما تتطلب تحليل تحولاتها. إن ما يحدث اليوم هو أن عوالم الصورة والعولمة والتقنيات الجديدة للتواصل قد حولت الشعوب إلى أفراد رغما عنهم، يتحركون وفق قيم متنافرة، متوزعة بين القيم المتوارثة بالتواتر والتربية، وبين القيم الدينية التي حولتها الدعوية والإسلاموية والجهادية إلى خوارزميات جديدة. والشباب اليوم يؤمن بقيم وأذواق واختيارات ويعيش طقوسيات وسلوكيات لا تختلف كثيرًا عن نظرائه في جميع أنحاء العالم، إلا في ما يختص بالانتماء الديني والعرقي. كما أن أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين فقدوا في غالبهم امتلاك لغة آبائهم وأجدادهم.


بين الكتاب الأول عن تمغربيت والكتاب الثاني، ثمة حذر السوسيولوجي من التعميم مقابل طمأنينة الموظف الرسمي. يقول سعيد بنيس، مؤلف الكتاب الأصل: "يبدو أن تثبيت "تمغربيت" كسردية تتقاطع ضمنها اليقينيات المحلية صار رهين خيار استراتيجي وثقافي ومؤسساتي وسياسي ودستوري وإنساني وحضاري، يمكّن من ضبط آليات التساكن وممكنات العيش المشترك وتعزيز عناصر الرابط الاجتماعي وبناء عقد مجتمعي، أساسه تحقيق تنمية نوعي، تزاوج بين القوى الناعمة والقوى الصلبة، وتبوئ المملكة المغربية مكانة متميزة على الصعيد الإقليمي والعالمي". إنها صمام أمان أمام مخاطر التعدد والتنوع، وانتقال إلى هوية مواطنة تنبني على "نحن مغربية" منفتحة ومتسامحة، تلغي "نحن مغربية" ضيقة ومتشنجة" (ص. 161-163).

كما ثمة لدى عالم الاجتماع الانتباه للمعضلات الاجتماعية والدينامية التي تخلقها والفوارق واحتجاج الشارع. إنها رؤية شاملة تجعل من مفهوم "تَمَغْرِبيتْ" يواجه عوائقه الاجتماعية ومحدداته الفردية والتحولات الجارفة كما التحديات الصارخة التي يندرج فيها المغرب كما باقي الدول النامية والصاعدة. من نظرة السوسيولوجي المفكر (الخطيبي)، إلى نظرة الموظف الرسمي "المثقف"، مرورًا بنظرة سوسيولوجي الوقت الراهن، نجد أنفسنا أمام مفهومين: "الحضارة المغربية" كمفهوم إثنوغرافي جديد يستعيد بشكل أو بآخر تصورات سابقة (من ضمنها نظرة الجنرال ليوطي)، ومفهوم إثنوغرافي مبتكر آخر ينبني أيضًا على يقينيات الحضارة المغربية من غير أن يجردها عن سياقها الاجتماعي. إن مفهوم الحضارة لدى الخطيبي كما مفهوم "تَمَغْرِبيتْ" لدى موظف الدولة ينبني على "سردية معطاة سلفًا"، فيما أن "تَمَغْرِبيتْ" لدى السوسيولوجي المعاصر أشبه بمغامرة مفهومية يتلمس عناصرها ومعالمها بالكثير من الحيطة، وبالتنسيب اللازم، من غير أن يتخلى عن "تَمَغْرِبيتْ" كوعاء لكافة الخصوصيات (كما صرح س. بنيس لقناة تمغربيت ولزميله السوسيولوجي الآخر المروّج لها تلفزيونيا).

هل لنا أن نستخلص من كل هذا أن الأمر يتعلق برهان مركّب؟ إنه فعلًا لَرهان شامل (اقتصادي واجتماعي وقيمي وديني وجيوسياسي). بيد أن كل رهان شَرَك يستتبعه الربح والخسارة، والنجاح والفشل. وهو حين يتوّج بالنجاح يتطلب استراتيجية أكبر لمجاوزة الهوية الانغلاقية (أو ما سماه الخطيبي بالهوية العمياء والاختلاف المتوحش) التي تتحول إلى أيديولوجيا وترمي بالآخر في خارج مطلق. كما أنه يستوجب من ناحية أخرى أن نأخذ بعين الاعتبار التحولات السياسة والجيو استراتيجية التي يعيشها المغرب في علاقته بأفريقيا والشرق الأوسط. وهي تحولات انفتاحية تخلخل ضمنًا أي تمركز عرقي أو حضاري حول الذات، وتفصح عن هوية تعددية منفتحة لا تقبل الانغلاق؛ أم أننا نسينا أن المغرب كان يسمى "المغرب الأقصى"، وأن ثمة مغارب أخرى، مهما كان وضعها الحالي، تظل موشومة بانتمائها المغاربي ذاك؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.