على وجه العموم، يمتزج، في حالة الردهات، المطلب الجمالي، مع المطلب الوظيفي، بما قد لا يحدث مع مفردة معمارية أخرى بالقدر نفسه، والأهمية نفسها. أما لماذا هذا التمازج (المزج) المطلبيّ يصبح، في الردهات، ضروريًّا، فلأن الردهات تتعلّق باستخدام جمعيّ يشمل مستفيدين من مشارب متنوّعة، ومرجعيات ثقافية ومعرفية وذائقية متباينة، ومن شرائح عمرية واجتماعية مختلفة.
الفضاء الداخلي في المُجمعات الكبرى والفنادق والمؤسسات العامة وحتى المستشفيات، يشكّل، إلى حدٍّ ما، استراحة بين جانبيْن من جوانب المجمع/ السوق الكبيرة... إلخ، والاستراحة، تحتمل، أحيانًا، لحظةً ممكنةً من لحظات تأمّل المبنى الغارقين نحن فيه نستجيب لمطالب شراء الزوجة، أو الابنة، أو الابن، أو الأم... إلخ، وبالتالي، من المناسب، ومن الفكر التجاريّ اللمّاح، أن تتشبّع لحظات تأمّلنا بمحيط فاتن الجمال، مبهر المفردات، ساحر التفاصيل الهندسية المعمارية.
التباسٌ مصطلحيّ
قبل الخوض في جماليات الردهات ووظائفها ومختلف المعارف المعمارية المتعلّقة بها، ربما، مما لا بأس به، التطرّق إلى الالتباس المتعلّق بالتخيّل الأول الذي يمرّ في ذهن كل واحد منّا عند سماعه كلمة ردهة؛ بعضنا قد يتخيّل المساحة الأمامية خارج المبنى وليس داخله، بعضنا قد يخطر على بالِه الممرّات على اختلاف ضيقها، أو اتساعها داخل مبنى ما، وهلمّ جرًّا. أنا شخصيًا وصلت إلى طمأنينة أن الردهة/ الردهات هي الفضاء الواسع طولًا وعرضًا وارتفاعًا داخل مبنى كبير (مجمع تجاري، أو حكومي، أو ما إلى ذلك)، بعد نبش في عديد المباحث المتخصصة، وبعد اطلاع على تباين التعريفات والتباس الإجماعات. على كل حال، قد تكون الردهة حملت، في زمن سابق، تعريفها التقليدي الذي ربطها بما يسبق المفردة المعمارية من مساحة (العتبات، المساحات الحضرية حول المباني)، ولكن الردهة، وبما يشبه الإجماع، أصبحت ما يتعارف عليه أنه الفضاء الداخلي (الهول، رغم أن الترجمة الحرفيّة لمفردة hall تحيلنا إلى المفردة العربية قاعة). نعم، قد يكون هذا هو المعنى: الردهة هي القاعة الكبيرة التي تتوسط طوابق وأقسامًا وحكايات عن يمينها وعن يسارها وأمامها وخلفها. وتكون مرئية لكل ما حولها، وترى هي بدورها كلَّ ما حولها.
استخدامات وجماليات
الردهة هي مساحة مفتوحة وواسعة داخل المباني تعمل كممرٍ، أو مكان للتّجمع والانتظار. وهي تُستخدم، عادة، لتوصيل مختلف الأماكن داخل المبنى معًا وتوفير مساحةِ تجمعٍ للناس، أو مكان للاسترخاء. هذا التعدّد في الوظائف التي يمكن أن تقوم بها الردهات، وتؤمّنها للمباني الكبيرة العامة، هو ما يمنحها أهمية مضاعفة، ويجعل التريّث في تصميم عمارتها بما يليق، ويفيد، وينفع الناس، أمرًا في غاية الأهمية، ليست الجمالية فقط، ولكن أيضًا التسويقية والاقتصادية.
تختلف أحجام وأشكال الردهات ووظائفها وفقًا للنمط المعماري للمبنى، والاحتياجات الوظيفية للمستخدمين. فالرّدهات في الفنادق والمراكز السياحية، على سبيل المثال، تُستخدم لاستقبال النزلاء وتوجيههم (استخدامات وظيفية)، كما يمكن أن تكون مكانًا للجلوس والاستراحة (قيم جمالية)، أو مكانًا للمعلومات وتوجيه الزوار (وظيفية). ولعلها في المطارات ومحطات القطار والحافلات، تُستخدم لتوجيه الركاب وتقديم المعلومات (وظيفية) وتوفير مساحات انتظار مريحة (جمالية).
التصميم الجمالي والوظيفي للردهة يعتمدان على طبيعة المبنى، والاستخدام المخطط لها. وعلى وجه العموم، يهدف تصميم الردهات إلى خلق تجربة إيجابية للمستخدمين وزوار المبنى.
جماليًّا، تُستخدم في عمارة الهول (الردهة الرئيسية) المواد والألوان والأثاث لإضفاء جو مريح
وجذّاب.
أما وظيفيًّا، فيمكن وضع نقاط معلومات، أو لوحات إرشادية، داخل الهول للمساعدة في توجيه الزوار وتقديم معلومات عن المتاجر، وتفاصيل المبنى/ المجمّع وخدماته.
كما يُمكن استخدام الهول لعقد فعاليات ترويجية، أو عروض خاصة، أو فعاليات فنية لجذب الزوار وزيادة حركة التجارة.
ودائمًا في البعد الوظيفيّ، يُمكن أن يكون الهول مكانًا للتجمعات والأحداث المجتمعية، مما يساهم في تعزيزِ جوٍّ مجتمعيٍّ تقاربيٍّ دافئٍ في المساحة التي تخدمها الردهة الرئيسية، ويسهم في تواصل الزوار مع بعضهم البعض.
عناصر معمارية شائعة
بما أن الهدف من الردهات هو إنشاء بيئة وديّةٍ وجاذبةٍ تجعل الزوار يشعرون بالراحة والترحيب في أثناء تجربتهم داخل المركز التجاري، فإن استخدام الأعمدة، والجدران المزخرفة، والأرضيات المميزة، والإضاءة المدروسة، والنباتات والعناصر النسيجية مثل الحرير والصوف (تُضيف إلى الفراغ النعومة والحياة)، الأخشاب الفاخرة، والرخام المصقول (الحجارة والأخشاب تمنح الفراغ شعورًا بالدفء والأصالة)، والزجاج المنضود (يؤسّس لِشفافيّةٍ لافتة، ويتيح للضوءِ التسلُّل)، والمعادن النفيسة، كعناصر معماريّة، يمكن أن تسهم في تزيين الهول، وإضفاء الطابع الجماليّ على التصميم، ما يعني، في نهاية المطاف، إنشاء بيئة صديقة جاذبة وآسِرة.
أنماط وخيارات
هنالك عدد من الخيارات المعمارية الممكنة لتصميم الردهات والفراغات في المباني. تختلف هذه الخيارات بناءً على النمط المعماريّ والغرض من المبنى. ولكن هنالك بعض الخيارات الشائعة التي يمكن أن تُستخدم لتحقيق تصميم جميلٍ ووظيفيٍّ في الوقت نفسه.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى العناصر المعمارية التقليدية، مثل الأعمدة الكلاسيكية ذات التأثير الكبير على شكل الردهة، بما يمكن أن تضيفه وتضفيه من لمسةِ أناقة ورقيّ.
في سياق متصل، تعد القباب والأقواس في الردهات ذات تأثيرٍ جماليٍّ ووظيفيٍّ مركّبٍ متعدد المستويّات الزاخرة بالفخامة والتفرد.
ليس بعيدًا عن كل هذا وذاك، فإن الرسومات الجدارية، والمنحوتات الحجرية، أو المعدنية، يمكن أن تعبر عن هوية المكان (الفضاء الداخلي).
بين الماضي والحاضر
في العصور القديمة (الإغريق والرومان والمصريون، للتمثيل لا للحصر)، اُستخدمت الردهات بوصفها أماكنَ تجمع واجتماع للناس، وكانت تُزيّن، بالتالي، بالأعمدة والزخارف الفنية.
لاحقًا، جرى التعامل مع ردهات قصور العصور الوسطى وقلاعها بوصفها جزءًا من تلك القلاع وهاتيك القصور، وكانت تُستخدم، بالتالي، للاستقبال والاحتفالات، وكذلك كمساحات للتجمع والتفاعل.
في عصر الباروك، وعهد العمارة الباروكية، تحقق تطوير تصاميم للردهات في القصور والمباني الكبيرة ذات الطابع الضخم، والزخارف المعقدة. وهو ما ينطبق كذلك على العمارة الفيكتورية.
في عمارة الحداثة، وعمارة ما بعد الحداثة، اتجه تصميم الردهات (الفضاء/ الفراغ) نحو البساطة والوظائفية (أصبحت في عصر الحداثة أكثر تبسيطًا وتفسيرًا لتلبية الاحتياجات المعاصرة).
أما في عمارة ما بعد الحداثة فقد استمرت تصاميم الردهات بالتطور قافزة نحو دمج التكنولوجيا والابتكار في الهندسة المعمارية، مع مزيد من التوازن بين الجمالية والوظيفة.
نستنتج أنه، وعلى مر العصور، تطوّرت تصاميم الردهات بشكل مستجيبٍ للتغيرات الثقافية والاجتماعية والتقنية، وأن تاريخ عمارة الردهات يعكس التطوّر المستمر للمفاهيم المعمارية والاحتياجات البشرية عبر الزمن.
الفضاء المفتوح
يتيح الفضاء المفتوح (ذو السقف الزجاجيّ، أو المتحرّك) إضاءة طبيعية مشرقة ومفعمة بالحيوية.
هذا لا يعني أن الفضاء المغلق والمزوّد بإضاءة صناعية سيءٌ في مختلف تجليّاته، فهو له جمالياته، وأنواع إضاءته التي يتفنّن فيها، وفي حالات بعينها، مصممو الإضاءة بتعاونهم مع معماريين منفتحين على مختلف الخيارات.
الردهات ذات السقف الزجاجيّ الشفّاف المعانقة أشعة الشمس، المتسلّل عبرها ضوء النهار، بإمكانها، إضافة لِما تقدّم، أن تخلق جوًّا من الراحة والطمأنينة عند من يعانون من رهاب المناطق المغلقة، وعند من يعانون من ضيقِ تنفّسٍ (أنا مثلًا).
في حين بإمكان الزجاج الملون أن يضفي لمسة فنية وتأثيرات سحرية على الإضاءة والظلال داخل الردهة.
تخيّلوا ردهة مسقوفة بالشمس، وتتوزّع جنباتها، إلى ذلك، أعمدة وأقواس (سواء كلاسيكية، أو حديثة)، فأي جمالية يمكن أن نحصل عليها، وأي هندسة فريدة للردهة يمكن أن نتنعّم بها.
الردهات ذات الفضاء المفتوح تشير إلى المساحات الواسعة والمفتوحة داخل المباني التي تُصمم بشكل يجمع بين العناصر المعمارية والتصميمية لإنشاء ممر، أو منطقة تجمع بين الأماكن المختلفة. هذه الردهات تتميز بعدم وجود حواجز كبيرة، أو جدران تقسمها، مما يخلق تجربة مفتوحة ومتصلة.
تحقّق ردهات الفضاء المفتوح شكلًا من أشكال التدفق الطبيعي للحركة والتجوّل بانسيابيةٍ بين مختلف الأماكن في المبنى، من دون تكهّنات كبيرة، أو تداخلات.
ناهيكم عمّا يمكن أن تحققه ردهات الفضاء المفتوح من اتصالٍ حيويٍّ بالمحيط، وتشجيعٍ على تواصلٍ إيجابيّ في المساحات المشتركة حول الردهة وعبرها. كما يسمح الفضاء المفتوح للردهة بتوزيع الإضاءة الطبيعية والاصطناعية بشكل متساوٍ، مما يخلق تأثيرًا بصريًا مشرقًا ومفعمًا بالحيوية. وهي تفضي (أي الردهات المفتوحة) إلى تأثيرٍ بصريٍّ مدهشٍ وأخّاذ، يثير الفضول والاستكشاف بين زوّار المكان.
تناغم مع البيئة
يمكن أن يعزز تصميم الردهة من التناغم مع المحيط الخارجي، سواء كان ذلك من خلال المناظر الطبيعية المرئية من الردهة، أو من خلال استخدام المواد المحلية في التصميم.
كما يمكن أن يشمل تصميم الردهات تفاصيل فنية دقيقة مثل الأشكال الهندسية والنقوش الفنية على الجدران، أو الأرضيات.
من شأنه، إلى ذلك، التوازن بين البساطة والتعقيد أن يحيل إلى جماليات بسيطة ونظيفة، أو معقدة ومزينة بحسب التصميم المطلوب. وأن يحقّق، على وجه العموم، تجربة تصميمية متوازنة وجميلة.
شرق... غرب
عمارة الردهات الشرقية قد تكون أكثر تعقيدًا من حيث الزخارف والأشكال المعمارية، في حين تميل عمارة الردهات في الغرب إلى تصاميم أكثر بساطةً وتجريدًا.
في شرقنا، نستخدم المواد المحلية التقليدية، مثل الحجر والطين والخشب، أما في غربهم، فقد يستخدمون لردهاتِهم مواد متنوّعة، وبما يشمل الزجاج والفولاذ والمعادن الحديثة.
تميل الردهات في الشرق إلى استخدام الزخارف والنقوش التقليدية المعقّدة التي تعبّر عن الهوية الثقافية. وفي حين قد تغيب هذه الزخارف في الردهات الغربية، إلا أنها تستعيض عنها بأناقة الأشكال الهندسية البسيطة.
في بعض الثقافات الشرقية، يمكن أن تكون الردهات مكانًا للطقوس الدينية، في الغرب تُستخدم الردهات غالبًا للاستقبال والتجمعات الاجتماعية العامة.
على كل حال، وبعيدًا عن الفروقات والاختلافات، فإن الردهات تلتقي بشرقها وغربها حول تركيزها على الإضاءة لإبراز جماليات الردهات. ويحرص كلاهما؛ الشرقيون والغربيون، على تصميم ردهات توفّر مساحة مريحة للزوار للاجتماع والتفاعل والاسترخاء.
وسواءً في الشرق، أو في الغرب، يسعى المهندسون المعماريون إلى تحقيق توازنٍ مثاليٍّ بين البعديْن الجماليّ والوظيفيّ في تصميم الردهات.
على الرغم من الاختلافات الثقافية والتقنية بين الشرق والغرب، فإن عمارة الردهات في كلتا الثقافتيْن تعكس تطور التصميم المعماري عبر العصور، وتجمع بين العناصر الجمالية والثقافية لتوفير تجربة متكاملة للزوار.
ردهات وتجليات
نماذج لا تحصى ولا تُعد في شرق الكوكب وغربه تتحدث عن تجليات الردهات، وعن أمثلة ناصعة عند التطرّق لهذا المبحث المعماريّ المُهم والمُتشعّب والمُمتد، علمًا أن تعداد بعضها لا يعني حصرها وتقييد مجدها بتلك الأمثلة وهاتيك الأسماء: الردهة الملكية في قصر مدريد الكبير، بتصميمها الباروكي الرائع، وزخارفها المعقدة؛ قاعة التيان آن من في الصين، حيث يتميز سقف القاعة بألوانه الزاهية ونقوشه الجميلة؛ الجراند كورت في قصر بيترهوف الروسيّ؛ قصر السنت جيمس داخل قصر بكنغهام في لندن (ديكورات فاخرة وتصميم كلاسيكي)؛ ردهة الأمير ألبرت في مبنى مسرح الأوبرا في موناكو الفرنسية؛ المركز الفني في نيويورك؛ وقصر فرساي في باريس (الفخامة والجمال الفرنسي التقليدي).
عربيًا، لا يخلو الأمر من ردهات جميلة تتميز بتصميمها وجمالها: قصر الحمراء في غرناطة؛ الحرم المكي والمدينة المنورة (الجمال والجلال)؛ قصر البهجة في تونس (بِعمارته الأندلسية وزخارفه الإسلامية)؛ القصر الكبير في مراكش (بزخارفه الموريسكية وألوانه الزاهية)؛ قصر الزبير في القاهرة؛ قصر الحمراء في بغداد، ومعالم عربية أُخرى، لعلها، كثيرة.