}

كيف تُجدّد الصين الأماكن القديمة؟

مي عاشور 12 سبتمبر 2023
اجتماع كيف تُجدّد الصين الأماكن القديمة؟
ساحة 1905

للأماكن ذاكرة، تطوي أسرارًا شتى بداخلها، ومراحل مختلفة من التاريخ، بما طرأ عليه من انتصارات وانهزامات. للأماكن ذاكرة قوية، تسجل التفاصيل كلها، بما فيها من منعطفات وإخفاقات، وثبات للخطى، ونقاط تحول وإنجازات.

كل الأماكن تملك حكايات، فلو أزيلت، ضاعت حكايتها، ولو بقيت، خلدت إلى الأبد.

في نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، ذهبت إلى الصين للمرة الأولى بعد انقطاع عن السفر دام لأربعة أعوام، بسبب الوباء. أعترف، راودتني بعض المخاوف في البداية، إلا أن حماسة التجربة حررتني منها. كانت واجهتي هذه المرة هي مدينة شن يانغ، عاصمة مقاطعة لياو نينغ، بشمال شرقي الصين.  شن يانغ مدينة زرتها للمرة الأولى، وعلمت أنها مدينة عريقة، وثرية بالثقافة والفنون، ومتقدمة تكنولوجيًا. بل وتتمتع بمكانة مهمة جدًا في الصناعة في الصين.

كل مدينة في الصين تتفرد بأشياء تميزها عن غيرها من المدن، وربما أكثر ما جذبني في هذه المدينة، هما الجانبان الثقافي والفني فيها، في رأيي أنها مدينة مبهجة. وهذه المرة استوقفتني ثلاثة أماكن زرتها، وجعلتني أتأملها، لوجود سمة مشتركة جمعت بينها، وهي "إعادة تدويرها"؛ أي تجديدها، وتحويلها من حال إلى آخر مغاير، بشكل مبهر يواكب تطور المدينة، ولكنه في نفس الوقت، يحفظ ملامحها الأصلية، دون هدمها أو إزالتها.

ساحة للجلوس محاطة بالنباتات بداخل المكتبة، وقاعات القراءة من داخل المكتبة، ومكتبة المستودع الثقافي العصري من الخارج وصورة لشكل المستودع قبل تحويله إلى مكتبة  

من مستودع إلى مكتبة

في اليوم الثاني لي في مدينة شن يانغ، زرت مكتبة المستودع الثقافي العصري، والتي افتتحت للجمهور في العام الماضي (2022)، وما أدهشني أنها كانت بالفعل مجمعًا للمستودعات عام 1950، في فترة معركة رد العدوان الأميركي ونجدة كوريا الشمالية. لكنني وجدت نفسي بداخل مكتبة جميلة، بديعة التصميم، تتسربل بنور الشمس، الذي يتخللها عبر الزجاج من كل الجهات، فيزيدها إشراقًا. أما النباتات المتنوعة الموجودة بداخلها، فقد جعلتني أشعر أنني أسير في داخل حديقة صغيرة نقية الهواء. المكتبة فيها أماكن مخصصة للقراءة، ومجهزة بكل ما يحتاج إليه القراء، وكذلك مصممة بشكل عصري، مما يبعث في نفس القارىء شعورًا بالراحة والخصوصية، كما أنها مزودة بـ 600 مقعد للقراءة.

تبلغ مساحة المكتبة 5500 متر مربع، وتحتوي على 100 ألف كتاب في المجالات المختلفة، كالأدب، والتاريخ، والفنون، والعلوم. كما أن هناك طابقًا مخصصًا للأطفال الصغار، يصحبهم إليه ذووهم.
المكتبة فيها قاعات للفاعليات الثقافية من ندوات ومعارض، إلى جانب أنها تقدم خدمات القراءة الإلكترونية المتنوعة؛ كتصفح الكتب إلكترونيًا عن طريق شاشات، أو سماعها عن طريق مسح رمز الاستجابة السريع، أو قراءتها عبر شبكة الإنترنت. ويمكن استعارة الكتب مجانًا.

مصنع بداخل متحف

أحب زيارة المتاحف بشكل عام؛ لأنها عادةً تضيف لي شيئًا. هذه المرة زرت متحف الصين الصناعي بمدينة شن يانغ، والمتحف يروي تاريخ تطور الصناعة الصينية، وحكاية نهضة الصين تدريجيًا في المجال الصناعي، بداية من الصناعات البسيطة، والبدائية، مرورًا بالصناعات الثقيلة، والأكثر تعقيدًا، ثم الإلكترونية والتكنولوجية المتقدمة.    

ومدينة شن يانغ لها تاريخ صناعي يعود إلى قرن من الزمن، وتعد قاعدة الصين الصناعية، بل وقاعدة لصناعة المعدات المتقدمة، فقد ابتكرت ما يفوق 200 (منتج أول) في تاريخ جمهورية الصين الشعبية الصناعي. كما أنها مركز للابتكار العلمي في شمال شرقي الصين.

يحتوي المتحف على 20 ألف قطعة مختلفة، وتغطى مساحته 53 ألف متر مربع. وبه عدة أقسام، ولوحات وصور تحكي قصصًا عن الصناعة في الصين. وقبل تحويل المكان إلى متحف، كان  مصنعًا قديمًا لإنتاج المسَابِك. ولا يزال المصنع موجودًا بداخل المتحف، محتفظًا بحالته القديمة وآلاته، كجزء من تاريخ الصين الصناعي.

يلقي المتحف الضوء على  الفترات المختلفة التي مرت بها الصناعة الصينية، مثلًا كدخول الصناعة الصينية إلى فترة القفزة الكبرى إلى الأمام (1958-1960)، والتي رفعت شعاري "اتخاذ الفولاذ كأساس"، و"اللحاق بإنكلترا، واجتياز أميركا"، وركزت فيها الصين على تصنيع الحديد والفولاذ على نطاق واسع، وما تبع هذه الفترة من أحداث، وتصحيح للمسار. وكذلك يوضح المتحف ملامح تطور الصناعة الصينية في فترة الإصلاح الاقتصادي في نهاية السبعينيات، والتي استمر فيها الإصلاح الاقتصادي من الجذور، ودخلت فيها الصناعة في الصين إلى مرحلة التوجه نحو المستهلك، بل وواكبت الخطى السريعة لانفتاحها على العالم.

والجدير بالذكر أن تصنيع الصين للأجهزة الإلكترونية المتنوعة، قد عزز التقدم السريع لصناعة المعلومات الإلكترونية، إلى أن انطلق مصطلح "صنع في الصين" إلى العالم، من المنطقة الاقتصادية الخاصة بمدينة شن جين.

ساحة 1905 الثقافية والإبداعية من الداخل ولوحة لصور العمال في الفترات المختلفة من تاريخ الصين وصورة من داخل المتحف الصين الصناعي (تصوير مي عاشور)


ساحة 1905 الثقافية والإبداعية

ساحة 1905 الثقافية والإبداعية من أجمل الأماكن التي زرتها، أجواءها لطيفة وفنية. ومن خلالها يمكن لمس الفنون المعاصرة في الصين، مع الاحتفاظ بسمات الفن الصيني وخصائصه.

في السابق، كان هذا المكان عبارة عن ورشة قديمة للصناعات المعدنية، يرجع تاريخها إلى عام 1937. فيما بعد تم تحويل هذه الورشة إلى ساحة فنية وإبداعية، عصرية التصميم، مع الاحتفاظ بشكلها الأصلي. تم تجديدها عام 2012، لتكون مركزًا فنيًا وثقافيًا فريدًا من نوعه في شمال شرق الصين.  تضم الساحة بداخلها قاعات للمسرح، والعروض الفنية، والموسيقى، والسينما، ومعارض للرسم المعاصر، والفوتوغرافيا، وأماكن لحضور ورش عمل فنية ويدوية مختلفة. وكذلك هناك متاجر لبيع المنتجات اليدوية المبتكرة، وأماكن لاحتساء القهوة، وتناول الطعام.

أقيمت في ساحة 1905، ما يعادل 3200 فعالية ثقافية. واجتاز عدد الزوار الذين ترددوا عليها 3 ملايين زائر.

*****

أحببت زيارتي إلى الصين هذه المرة؛ لأنها كسرت حاجزًا ما بداخلي، بل وأتاحت لي رؤية أماكن جديدة، من خلالها شاهدت كيف تسعى الصين إلى تطوير مدنها، والرفع من مستواها، لتضعها على الخريطة العالمية كغيرها من المدن الأخرى، وكيف تعمل على الجمع بين القديم والمعاصر، عن طريق تلك الأماكن، والتي ستظل شاهدة على مسيرة تطوّر الصين، وقفزاتها المتتالية في المجلات المختلفة، اعتمادًا على نفسها -كليًا- في المقام الأول. وجذبتني فكرة "إعادة تدوير" الأماكن القديمة، دون محوها، أو إسراف الإنفاق في الوقت، والجهد، والأموال الطائلة لهدمها وإعادة بنائها.  والإصرار على الاحتفاظ بها، لكونها جزءًا من التاريخ والتراث، وتوظيف المهارات المعمارية والإبداعية في إظهارها بشكل جديد، دون طمس ملامحها، في سبيل تحقيق هدف جديد يواكب الحداثة والتطور، وكذلك ليخدم ملايين العامة من دون إقصاء أو تمييز.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.