}

الشعر في محرقة غزة: عن الأمكنة والذاكرة الشخصية

راسم المدهون 8 يناير 2024
أمكنة الشعر في محرقة غزة: عن الأمكنة والذاكرة الشخصية
أطفال فلسطينيون خارج خيمتهم في دير البلح (6/1/2024/Getty)

منذ "طوفان الأقصى"، واندلاع المحرقة الإسرائيلية ضد مواطني قطاع غزة، تناهبتني أفكار ومشاهد لا تحصى تأخذني كلها إلى الشعر، حيث هناك بالذات يمكن لكلام الأدب أن يعثر على شكله ومضمونه، وأن يختار "قوامه" الذي تجسد أمام ناظري وفي أفكاري في قصائد يمكن أن تحدق في المحرقة، وتحاول استعادتها، في مشاهد شعرية. أتحدث هنا عن بعض عناصر التجربة، وفي البال بالطبع أن الشعر الذي أكتبه (في العقدين الفائتين على الأقل) هو القصيدة الحرّة المتحررة من قيود الوزن والقافية، أنا الذي تجنبت منذ البدايات الأولى "القصيدة العمودية"، التي تذكرني بالنشيد، المنتظم وذي الإيقاع الواحد، فتحيل إلى الصخب والضوضاء أكثر من إحالتها إلى المقاربات الروحية، وما فيها من حس فردي يبحث عن الذات وقلقها في محطات الحياة كلها، الإنسانية، وبالذات ما نعيشه هذه الأيام من تراجيديا لا شبيه لها في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في الأيام الأولى للمحرقة، أعلن بعض الشعراء أن صخب الحرب وما فيها من تدمير منهجي ومذابح متعمدة لا يتيح أية إمكانية للشعر، بل إن بعضهم قال إن شعرًا يكتب في هذه المحرقة سيكون بالضرورة "تافهًا"، ولا يستحق القراءة. مع ذلك، كانت أفكاري أن الشعر بالذات هو الأقرب إلى "اليومي"، باعتبار التراجيديا الدامية الراهنة تحتاج إلى جنس الرواية التي تستطيع أكثر من غيرها على الخوض في الأعماق، وتشريح الحدث، وملاحقة مصائر أبطاله وتفاصيل مأساتهم، خصوصًا وأن الرواية ابنة الواقع الاجتماعي، وفنه بامتياز.
في الرهان على الشعر، ذهبت إلى خياري الأبرز منذ البدايات الأولى، وأعني تقديم قصيدة تنتمي إلى المشهد، بما فيه من نسغ درامي يقدم الرؤية الشعرية في إطار سردية حجر الأساس فيها هو الصورة، التشكيلية والدرامية معًا، والتي تنجح في إطار علاقتها بما قبلها وما بعدها من الصور في تكوين مشهد شعري ينجح في بث الروح القلقة والمتوثبة معًا في النص لتحقيق أثر يتكئ على فكرة أساس هي أن يتمكن القارئ من استعادة هذا المشهد في مخيلته، أي أن يكون القارئ بدوره مشاركًا في القصيدة من خلال التلقي الفاعل:

"تمشي الأشجار في غزة من الشمال إلى الجنوب
تقف قليلًا عند قلعة برقوق في خانيونس
وتبتسم لأشجار أخرى
تمشي هي أيضًا إلى الشمال
الأشجار القادمة من الشمال والجنوب تبتسم
لأن الغول الأبله أقسم ببلفور وروتشيلد
أن يحرق غزة
وظل الوقت كله يعلك قسمه المأفون
ويرسم على شفتيه ابتسامة الأبله
فيما أشجار الشمال تواصل زيارتها للجنوب
وأشجار الجنوب تكمل زيارتها للشمال
وترمق الغول الأبله
وتضحك
تضحك
حتى تخرج الأرضُ أثقالها"...
البحث عن "المشهدية" كإطار ومضمون للقصائد دفع الأمكنة بأسمائها إلى سطور الشعر، خصوصًا وأن تلك الأمكنة جمعت بين كونها مرجعيات للذاكرة الشخصية، وأيضًا ساحات لحرب المحرقة يذهب ضحيتها البشر ذاتهم متجسدين في أبنائهم وأحفادهم. ذلك لا يقارب التوثيق، ولا يقصده، فالمكان، أو الأمكنة بالأدق، يشكل حضورها "مناخات" للروح الفردية المثقلة بالذاكرة القديمة، الحية والتي تتجدد في أتون الحرائق الجديدة وأهوالها:
"لا وقت سوى للحب
لبياض الأكفان الذي لا يغطي جمال الوجوه
والجموع تدفن بعضها
وتعود لتمنح بعضها الآخر لقمة
وجرعة ماء
وتطمئن الأطفال بدعابة تعلو على أصوات الطائرات
لا وقت سوى للحب
لعروسين يمشيان يدًا بيد
في جحيم القصف ويبتسمان
بلا ورود في أيديهما
ولا بيت يذهبان إليه
مكللين بالزغاريد
تشق ضجيج القذائف
وعواء الطائرات
لأن لا وقت سوى للحب
حيث يطوف دمار البيوت
وتعب الهائمين بين الشمال والجنوب
وضحكاتهم حين تسقط دورية الأعداء في شر أعمالها
وتهرول نحو "غلاف غزة"
تهرب من أرض الحب
الحب الذي يعلو كوردة في حجم الأرض
والسماء
وردة تحفظ أسماء من رحلوا
وأسماء من يصمدون".

علم فلسطين خلال احتجاج ضد إسرائيل في مدينة ويموث/ بريطانيا (6/1/2024/Getty)





أعادتني محرقة غزة الراهنة إلى شعر المقاومة في مناطق عديدة من العالم، خصوصًا الشعر الفرنسي، وبالذات بول إيلوار، ومع ذلك ظل ما يحدث اليوم أقرب إلى الدم وروائح الموت من كل التجارب المقاومة في العالم، وبالذات لأن مفهومي لشعر المقاومة يتجاوز فكرة التحريض، وما يتصل بها من غايات "تثويرية"، طامحًا إلى التعبير عن حالة إنسانية عنوانها الأبرز والأكثر عمقًا في الروح الإبادة كفعل تدميري للإنسان بالمفهوم والاحتمال الشمولي. محنة غزة التي تتجاوز أية كارثة عشتها شكلت شعريًا استنفارًا هائلًا لمخزون الذاكرة، ذاكرة المكان، أو بدقة أكثر الأمكنة وذاكرة البشر، بما هم معادل إيجابي للحياة. هنا بالذات بات الأمر يتعلق بما يتجاوز فكرة المقاومة بمعناها البديهي والبسيط كفعل إرادة من أجل الدفاع عن الحاضر والمستقبل، إلى اجتراح نصوص "تناوش" المصير الإنساني برمته، والمقاومة هنا باتت تعني إزاحة الكارثة كواقع حقيقي يطال الأشياء كلها، بما فيها المآلات الكبرى، كالموت والحب مثلًا.
هكذا نبتت قصيدة أخرى عندي، وراحت تنمو كعشب بري على حواف الروح، وتتغلغل عميقًا فيها، وسأقول بوضوح أكثر ـ رغم أن الحالة لم تكتمل بل لا تزال في بداياتها ـ أنها حالة إبداعية لا يشكلها النقد، أو التنظير الفكري، الذهني، بقدر ما تتأسس في حضور الوجع الوحشي المتحد مع نقيضه الإنساني الذي يرفعه عاليًا صمود الضحايا الفلسطينيين وإصرارهم المذهل على صناعة النصر انتصارًا للحياة أكثر من رغبة في انتقام هو حق لهم، فغزة تدفعنا إلى قناعة كبرى تؤكد أن الانتقام، بما هو فعل رغبوي سلبي، ليس هو ما يفعله ضحايا العدوان في غزة، الذين يواجهون طاغوت انتقام عدوهم من البشرية كلها.
هكذا يذهب الشعر إلى المحرقة.. يدخل أتونها يحترق بها ومعها، ولعله يؤجج نار الحب النبيل، العميق والنابع من وجد الضحايا، ومن انتمائهم للأيام القادمة، ولعصر آخر لا يشبه بذاءة المحارق وأهوالها:
"أنا أعرف رغم المسافات والزمن
ستنجو بلادي بأولادها
وتأخذ من يظل منهم إلى أيام بلا قنابل
حيث الأطفال يذهبون بفرحهم إلى "صف بستان"*
وأعرف
ستنفض قلعة برقوق غبار الجريمة
عن جدرانها الصخرية
وتعيد الشجاعية ترتيل قصائد معين بسيسو
وسأستعيد كلام أمي لطيفة
عن "التفين"*
وعن المستشفى الإنكليزي
وستعود أحاديث جدي عن حرب الأناضول
والرجوع ماشيًا
على قدمين متشققتين إلى حلب
ومنها على "طنبر"* إلى طرابلس
ومنها إلى المجدل..
ستنتهي الحرب ولا ننتهي
أعدكم أن نذهب معًا إلى المواصي غرب خانيونس
وأن نشاهد فيلمًا قديمًا في سينما الجلاء
وأن نتناول البوظة عند سمارة
بل أعدكم أن نضحك
حين نتذكر كم مر على بلادنا من جنرالات الوهم
وكانوا مدججين بأحلامهم الدموية
وكيف اختفوا فجأة كأن لم يكونوا
أعدكم أن أدعو كل أصدقاء الشباب الأول
فيصل الذي استشهد في جنوب لبنان مبكرًا
ومحمد الذي رحل قبل عامين
وعبد العال الذي خرج لأرض الله الواسعة
ولم يترك لي عنوانًا أو إشارة
أعدكم أنني سأفعل كل هذا
وحين تكتمل الأشياء كلها
سوف أصعد أعلى "تلة المنطار"*
وأتلو عليكم
"نشيد الحياة"
محنة الحرب الهمجية التي تحرق كل شيء في غزة اليوم تصلي نارها الشعر كفن إنساني لا يعيش خارج الحس الإنساني وما يتعرض له من خراب، ولا أبالغ حين أقول إن تجربة غزة الجديدة بكل ما تحمله من أشكال ومعاني التراجيديا تدفع الشعر للخروج بكامل لياقته وحضوره إلى كتابة نفسه على نحو مختلف يتأسس في أتون المحرقة، ويجتهد للتعبير عنها من خلال التوحد مع الألم، ودفعه نحو أفق فني جديد يجانب الحماسات الصاخبة والهتافات العالية، كي ينصت أكثر للعميق في الروح، المستتر والخافت، والذي يحاور الدم، ويرسم صورة الجراح في الذات البشرية بجمال.

هوامش:

*الطنبر: عربة يجرها حمار، أو بغل.
*التفين: هو الاسم الشعبي المتداول لحي التفاح.
*تلة المنطار: تلة شرق غزة.
*صف البستان هو اسم روضة الأطفال في فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.