}

"قمر في بيت دراس": في استعادة النكبة والرواية الأصلية

راسم المدهون 18 أبريل 2024
استعادات "قمر في بيت دراس": في استعادة النكبة والرواية الأصلية
مدخل قرية بيت دراس


ينتمي الروائي والقاص الفلسطيني عبد الله تايه إلى جيل النكبة الكبرى، هو الذي ولد في أعقابها عام 1953 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة لأسرة هجرت من قرية "بيت دراس" عام 1948، وهو بهذا الانتماء وبكل ما يتصل به وجد نفسه منذ البدايات الأولى وجهًا لوجه أمام تراجيديا عاصفة فرضت عليه صعوبات لا تحصى، لا نبالغ إذ نقول إنها طاولت جوانب حياته كلها وبالذات العيش اليومي والتعليم كما في تحصيل ثقافة كبرى في رحلته الطويلة مع الأدب والكتابة والتي تجاوزت أربعة عقود طويلة قدّم خلالها خمس روايات وخمس مجموعات قصصية إضافة إلى عدد من المؤلفات البحثية والدراسات، وكلها نتاجات استحق من أجلها أن تمنحه وزارة الثقافة في فلسطين لقب "شخصية العام الثقافية" عام 2022.

عبد الله تايه زار "بيت دراس" قريته المحتلة منذ عام 1948 مرة يتيمة، لكنها كانت كفيلة بأن تدفعه لاستعادتها أدبيًا من خلال رواية جميلة قدّمت صور الحياة في "بيت دراس" وصور وقائع المواجهات العسكرية غير المتكافئة مع المستوطنين الذين نجحوا خلال حرب النكبة الفلسطينية الكبرى في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية وإعلان تأسيس دولتهم الإحتلالية الإحلالية على حساب أهل فلسطين وأرض وطنهم. هي رواية بانوراما الحياة الاجتماعية في قرية ريفية كانت تستعد للمواجهة الكبرى بأقل القليل من أدوات المواجهة.

في "قمر في بيت دراس" يحشد عبد الله تايه أدواته كلها: الولع المدهش والحار بالقرية التي حرمه الاحتلال من حقه في أن تكون "مسقط رأسه"، وآلاف الحكايات اليومية لأهله وجيرانه وأبناء قريته الذين أصبحوا لاجئين في المخيم (جباليا)، دون أن ننسى بالطبع "السيناريو" الذي تكرر في احتلال المدن والقرى الفلسطينية الأخرى، وصور وتفاصيل ما حدث خلال كل تلك المعارك والمواجهات غير المتكافئة من مذابح مخطط لها سلفا كي تكون وسيلة التهجير المباشر للشعب الفلسطيني خارج وطنه وتحويل البلاد واقعيًا إلى "وطن قومي" لليهود على النحو الذي عشناه وعاشه معنا العالم وصار منذ النكبة الكبرى عام 1948 تاريخ فلسطين بل وتاريخ الشرق الأوسط، وقد قرأنا بعضًا من شهادات كتبها "العائدون" من الكتاب والمثقفين الذين "تمكنوا" من القيام بزيارات قصيرة إلى مدنهم أو قراهم التي هجروا منها عام 1948، وعادوا ليكتبوا عن تلك "الزيارات الخاطفة"... ولعلي أتذكر هنا بالذات "شهادة" الكاتب حسن خضر، إبن مخيم خانيونس والذي هجر مع عائلته هو أيضًا من قرية "الجلدية" غير البعيدة عن "بيت دراس".

"قمر في بيت دراس" رواية النكبة بأحداثها وأبطالها وضحاياها


هي تجارب "أدبية" حملت فرادة إنسانية تضعها في مكانة شديدة الخصوصية في الأدب والثقافة الإنسانية عمومًا، وقد زاد من فداحة هولها أنها شكلَت استحضارًا عاطفيًا ووجوديًا نابضًا ومشتعلًا بالحنين لذلك الواقع الذي كان ولتلك "الخارطة" التي أهال عليها المحتلون الإحلاليون غبارًا مقصودًا ومخططًا له يخدم سياق اللعبة الكبرى التي تحدثت عن "وطن بلا شعب من أجل شعب بلا وطن"، كما قيل وما يقال حتى اللحظة التي نكتب بها هذه الكلمات.

عبد الله تايه يبدأ من "لحظة أولى في تاريخ الصراع"، أعني نهايات الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية التي كان خلالها بطل الرواية جنديا رغمًا عن إرادته في جيش العثمانيين و"مقتنعًا" بعظمة تلك الدولة وجبروتها الذي عبّر عنه من خلال إعجابه بقائده العسكري العثماني المباشر في توقيت بالغ الحساسية كان يشهد فرار الجنود العرب الذين يرابطون معه على خطوط القتال مع الإنكليز، والذين كانوا يتناقصون مع طلوع كل فجر نهار جديد عائدين إلى مدنهم وقراهم وأهلهم. تلك لحظة البدايات، وقد اختار تايه أن تكون "بداية كبرى" تليق بمهمتها الصعبة، مهمة التمهيد لولادة زمن جديد عنوانه الأبرز سعي المحتلين الجدد لتطويع فلسطين كي تكون "وطنًا قوميًا لليهود"، وهي المرحلة التي كان مأمولًا أن تؤسس وعيًا جديدًا تمامًا بعد بؤس العثمانيين، غير أن وقوع فلسطين تحت سلطة الانتداب أفشل ذلك الأمل وأدخل البلاد وأهلها في حرائق أكبر أوصلت لمأساة أشد هولًا وفتكًا.

عودة بطل روايتنا، الجندي المهزوم في الحرب العالمية الأولى، إلى قريته "بيت دراس" ستكون بداية استعادته للحياة الطبيعية في العمل كفلاح وكذلك في الحب الذي سيحمل من تلك البدايات بعديه الواقعي والرمزي، وستمضي الرواية بعيدا في تصاعدها. تفاصيل ما جرى لبطل الرواية ولقرية "بيت دراس" لا تختلف كثيرًا عن ما جرى في المدن والقرى الفلسطينية الأخرى، التي قهرها "الانتداب" البريطاني وحرمها بالقوة الجبرية من امتلاك أدوات الحرب والمقاومة ليسهل عليه بعد ذلك الوصول إلى اللحظة الفاصلة والتاريخية، لحظة إعلان فلسطين دولة لليهود ووطنًا قوميًا.

"قمر في بيت دراس" رواية النكبة بأحداثها وأبطالها وضحاياها. حدث حرب النكبة هو مفتاح الآلام الكبرى والكوارث المتناسلة التي انطلقت من لحظة "الخروج الكبير" نحو فضاء مفتوح وضع أولئك الفلاحين البسطاء وجهًا لوجه أمام كارثة البحث عن ملاذ آمن يمكن لهم أن يؤسسوا فيه حياة جديدة. في الرواية يبدو الحب موجة لا تنطفىء ولا تنتصر، إنه قمر يأتي ويغيب، ولكنه لا يغيب إلا ليعود من جديد ليضيء ليل المعذبين وليداعب مخيلاتهم بآمال لا تبرح مكانها في الروح وفي النفوس التي هجرت من بيوتها، ولكنها ظلت "هناك" حيث يمكن للحب أن يكون بل ويجب أن يكون.

يختار عبد الله تايه أبطال روايته من مجتمع سمته الأهم البساطة واليسر رغم كل مصاعب العيش وتعقيدات الواقع، وهو يتركهم على سجيتهم يعبّرون بأقوالهم وتصرفاتهم عن صورة المجتمع التي كانت في فلسطين قبل عام 1948، وسنلاحظ هنا براعة الكاتب في "توليف" صورة واقعية نجحت في الابتعاد عن رؤى المثقفين التي اعتدنا في حالات كثيرة أن ترسم للمجتمع صورة من خيال الكاتب وأفكاره، فقرية "بيت دراس" في الرواية حملت في تفاصيلها صور حياة الناس، مثلما حملت وعيهم البسيط والفطري بل وعاداتهم وتقاليدهم واتساقهم مع نمط الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة قبل النكبة وما فيها من معاناة كبرى بسبب عسف الانتداب البريطاني والمتواطئ ضد الفلسطينيين ومستقبل وطنهم. سنرى مشاهد لا تحصى لأشكال حياة الناس ونشاطاتهم العملية والإجتماعية والطابع البسيط والتلقائي لأولئك الرجال المحتشدين ببسالة التعلق بالأرض والوطن المهدد، والذين يهبون للدفاع عن وطنهم، وبيوتهم وحياة أهلهم وجيرانهم. وفي الرواية مشاهد لا تنسى عن أشكال المواجهة التي أبدعها أولئك الفلاحون البسطاء ودفع كثر منهم حياته خلالها.

قدّمت الرواية صور وقائع المواجهات العسكرية غير المتكافئة مع المستوطنين الذين نجحوا خلال حرب النكبة الفلسطينية الكبرى في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية


"قمر في بيت دراس" استعادة الرواية الأصلية، الحقيقية والناصعة بصدق الانتماء لوطن كان ولم يزل ضحية تواطؤ الدول العظمى في سياق تحالفها ضد شعوب المنطقة وفي القلب منها فلسطين، و"بيت دراس" هي بهذا المعنى اسم آخر لفلسطين التي تحضر كلها في سطور الرواية وترمز لأحداثها وأهلها وتحمل إرثها القديم، الأول، والمتجدد في الثبات على القيم الكبرى حيث الحياة زمن مفتوح على المقاومة واجتراح أشكال الصمود والمقاومة، وحيث يتناسل الأعداء السابقون عن أعداء جدد، ويتناسل الضحايا الأوائل في صور أبنائهم وأحفادهم الذين ولدوا وعاشوا بعيدًا عن "الأرض الأولى"ولكنهم ظلوا يحدقون في السماء باحثين عن قمرهم البعيد الذي كان في "بيت دراس" ويؤمنون أنه هو أيضًا يبحث عنهم ويحدق فيهم.

تنهض الرواية أيضًا على قوة بناء الشخصيات، التي نراها تتشكل وتأخذ أبعادها بعيدًا عن التنميط الذي طالما سقط فيه الكتّاب، كما الابتعاد عن سطوة الأيديولوجيا ووصفاتها الجاهزة والمعلبة. شخصيات تشبه أهالي "بيت دراس" لمن يعرفهم أو عايشهم، وأهمها الصلابة وقوة الروح ورفض الظلم أو التسليم به. هنا نتحدث عن الرجال الذين هم فئة فلاحي القرية ومعهم نساء تلك الحياة الريفية البسيطة، ولكن بالغة القسوة والتي تضيف لها مخاطر المواجهات العسكرية في الحرب أبعادًا أخرى. في الرواية رجال من مختلف الأبعاد والمواقف ينتظمهم خيط دراما متوازن يقدمه تايه بلغة بالغة الحساسية، لغة سردية تتمتع بحيوية تفاعل البشر مع الأحداث من حولهم، خصوصًا في السرد المكثف والبالغ التعبير عن محنة النكبة، بل حتى قبل وقوعها، أي في احتدام معارك تلك الحرب غير المتكافئة التي أوصلت إلى المأساة الكبرى.

هي بهذا المعنى رواية عالية فنيًا وتمتلك جماليات مناخاتها وأجوائها خصوصًا في التعبير ببساطة عميقة لا تتكلف، بل لعلها تنطلق من فكرة إدارة الحدث الروائي من خلال مقاربات جميلة لما في القسوة من حدّة ومن جموح لواقع هو الخيال أو يشبهه إلى حد بعيد، خصوصًا وأنها تعيد تركيب وسرد الأحداث التاريخية التي وقعت عام 1948 من حدقة الرؤية الواقعية وحدقة المخيلة معًا. كتابة روائية تضاف إلى رصيدنا من الروايات التي تناولت مرحلة النكبة، لكنها تتميز باعتنائها الجميل بما في النكبة من احتشاد للآمال المكسورة والأحلام المتساقطة وصولًا إلى عري التشرد في الشتات وما حمله من آلام وعذابات لم تزل تتفاعل إلى اليوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.