}

"العهد الآتي": تجليات رفض الهزيمة لدى الناس والشوارع

راسم المدهون 8 أبريل 2024
آراء "العهد الآتي": تجليات رفض الهزيمة لدى الناس والشوارع
أمل دنقل (1940 ـ 1983)

تجربة الشاعر المصري أمل دنقل الشعرية بدأت من مجلة "روز اليوسف" المصرية أواسط ستينيات القرن الماضي، لكن حضوره البارز في المشهد الشعري العربي جاء في أعقاب هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، حين نشر في مجلة "الآداب" اللبنانية قصيدته المدوية "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، التي استعار فيها صوت عنترة العبسي، وقدم
مرافعة شعرية صاخبة وآسرة في آن، وهي القصيدة التي تضمنها ديوانه الشعري الأول، بالعنوان ذاته.
"العهد الآتي" هو ديوانه الرابع، أي أنه يقع في منتصف تجربته الشعرية التي ملأت الآفاق، واستحوذت على اهتمام قراء العربية في مختلف بلدانهم، بسبب من امتلاك شعريته لمستوى فني عال في جمالياته الفنية، ناهيك عن حدّة صوته، وامتلاكه مفردات التراث وعوالمه، وبراعته في زجها بسلاسة ويسر في قصائد صارت تشير إليه باعتباره "شاعر الرفض"، بما يشكله من صوت غاضب في المجالين السياسي والاجتماعي العربي معًا. و"العهد الآتي" جاء أيضًا في مرحلة سياسية قلقة، بل وصاخبة، شهدت حراكًا شعبيًا مصريًا، وخصوصًا في أوساط الطلاب الجامعيين في تظاهراتهم ومطالباتهم بتحرير الأرض المصرية التي كانت تحتلها إسرائيل منذ الخامس من يونيو/ حزيران 1967.
واضح من خلال تقسيم دنقل قصائد "العهد الآتي" إلى "أسفار" و"إصحاحات" غايته من استلهام الموروث الديني بعهديه القديم والجديد لمحاورة واقع سياسي راهن له تأثيراته العميقة في أوساط المجتمع المصري خصوصًا، والعربي عمومًا، وسنرى أسطع تلك المقاربات الشعرية لصخب الشارع الطلابي وثورته في قصيدته الشهيرة "سفر الخروج"، أو "أغنية الكعكة الحجرية". الكعكة الحجرية هنا "ميدان التحرير" بالذات، حيث وقعت المواجهات العنيفة والدامية بين جموع الطلاب والطالبات وعناصر الأمن المركزي، وسقط خلالها ضحايا، فيما تم القبض على العشرات وزجهم في المعتقلات:
"أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموتُ، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة
والزنازين أضرحة
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي عظمتان وجمجمة
وشعري: الصباح"...
لافت في قصائد "العهد الآتي" رغبة الشاعر في الرسم: الفكرة تجد طريقها إلى قوام القصيدة من خلال رسمها بخطوط المخيلة، وهو يفعل ذلك طيلة الوقت فنرى الشعر بمخيلتنا، مخيلة القارىء الذي يتبع تلك اللوحات المتتابعة والمتراكمة ونرى حركيتها، وهنا أشير إلى ما تمتلكه تلك الصور واللوحات من بنائية درامية تحتفل بحيوية الحياة التي نراها في الواقع، وتزج بها في تفاعل مع الأفكار. أمل دنقل هنا يستفيد من الفن التشكيلي على نحو لافت يضيف إلى بلاغة الكلمة والجملة فاعلية الدراما وحوارها مع مخيلة القارئ الذي يجد نفسه طرفًا أساسيًا في القصيدة:
"دقت الساعة المتعبة
جلست أمه، رتقت جوربه
(وخزته عيون المحقق...
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة)"...
هي جدارة اللغة في أتون صراع المشاهد، الحادة، والمنسوجة من مفردات الواقع، وهي ـ غالبًا ـ مشاهد مكتنزة، تحتشد بالمعاني وتضمرها على نحو فيه كثير من حدَة التناقضات، ومن إيحائها، حيث "الساعة المتعبة" تعبير ساخن عن الواقع الرديء، وحيث "رتقت أمه جوربه" جملة تشير إلى انتماء الضحية ـ المقاوم للظلم ـ للجموع البسيطة، أو بتعبير آخر للقاعدة الاجتماعية الأوسع. رهان أمل دنقل على عنصري الفكرة والصورة هو رهان بليغ على حداثة تتأسس في أتون الوعي بالعلاقة بين الفنون على تنوعها واختلاف أشكالها وأدواتها ووسائل تعبيرها، وهو رهان يذهب حدَ الاتكاء على "القص"، وما فيه من انتقائيات متوهجة للأحداث الأشد سطوعًا، والأغزر تعبيرًا.
في مكان آخر نقرأ:
قبلها، كنت أقرأ في صفحة الرمل
والرمل أصبح أبسطة... تحت أقدام جيش الدفاع.
هكذا تأتي الهزيمة بمفرداتها لا اللغوية وحسب، ولكن التشكيلية أيضًا بكل ما في تلك اللغة من قسوة باهظة في تعبيرها عن الحالة العامة، والتي هي بالضرورة فردية تتوزع على الجميع، وتمنح كل واحد "حصته" من الألم. هل تبدو تلك الدراما الشعرية في هولها عناوين تكتفي بعموميتها وصخب شعارها البارز كحدث عسكري ـ سياسي؟




تجربة دنقل عمومًا تمثل مرحلة مهمة في التجربة الشعرية العربية الحديثة وهي في هذه المجموعة بالذات تتميز ببنائيتها المختلفة في الجملة الشعرية بما هي شكل ومضمون على السواء. يلاحظ قارئ "العهد الآتي" أن اللغة تأتي مباشرة وتحمل معناها المباشر، لكنها مع ذلك تنطوي على إيحائية تستفيد من لغة القرآن وظلالها، وأمل دنقل يختار ألفاظه ومفرداته من قاموس الحياة النابضة، الحيوية والمغمسة بأبعادها الكثيرة. في العلاقة مع التراث، عمومًا، يرسم دنقل بعدًا "آخر" للمفردات يضاف إلى ذلك البعد الذي يحمله المعنى ذاته، وهي حالة شعرية تتصاعد في علياء ارتفاعها لتلامس الروح والجسد الإنسانيين على نحو يفتح الصورة الشعرية على مآلاتها المباشرة والمحتملة:
"عندما تتخاصر في المشية الهادئة
زهرة من غناء
تتورد فوق كمنجات صوتك
حين تفاجئك القبلة الدافئة
زهرة من بكاء
تتجمد فوق شجيرة عينيك في لحظات الشجار الصغيرة
أشواكها: الحزن والكبرياء"...

مشهدية شعرية تنفرد في انفتاحها على إيقاع الحياة اليومية ولغتها المباشرة التي تحدث عنها ومارسها من قبل صلاح عبد الصبور، غير أن أمل دنقل أعاد لتلك اللغة ما تحتاجه "يوميتها" من استحضار كثيف لشواهد الألم المبثوثة في تفاصيل الواقع ومساحاته معًا. دنقل يكتب بلغة الحياة اليومية، ولكن تلك اللغة المنسوجة من علاقتها المباشرة والمتشابكة مع المعنيين المباشر وغير المباشر معًا، وهو يبحث بحدقتي الشاعر المرهف عن جزئيات آلام الحياة الراهنة في كل شيء، وبالذات في الناس، وهو يحقق ذلك من خلال صور حسية ترسم برهافة، ولكن أيضًا بحدّة تتواشج مع الفكرة، ومع بنائية القصيدة ككيان هو مزيج من كيانية التراث وآمال المستقبل وحيوية صوره.
"تذهب السيدات
ليعالجن أسنانهن فيؤمن بالوحدة الشاملة
ويجدن الهوى بلسان الخليج
يا أبانا الذي صار في الصيدليات والعلب العازلة
نجنا من يد (القابلة)
نجنا، حين نقضم في جنة البؤس
تفاحة العربات
وثياب الخروج".

هي قصائد الولع العميق بمرايا الواقع ومرايا الروح معًا، حيث تبتكر القصيدة شكلها وصورها ومشاهدها من معاينة القسوة في جباه البشر العاديين، وقد كان لافتًا أن يكرّس الشاعر بعضًا من أجمل مغامراته الشعرية للمظاهرات بحديها، الجمهور المحتشد والواسع، وأدوات القتل التي تحاول فضّ تلك التجمعات وإسكاتها، وكان رمز المكان (ميدان التحرير) حاضرًا من خلال بلاغة تشكيلية أطلقت عليه اسم "الكعكة الحجرية":
"كان يجلس في هذه الزاوية
عندما مرّت المرأة العارية
ودعاها، فقالت له إنها لن تطيل القعود
فهي منذ الصباح تفتش مستشفيات الجمود
عن أخيها المحاصر في الضفة الثانية
عادت الأرض لكنه لا يعود"...

ترتفع قصائد أمل دنقل في "العهد الآتي" إلى مقام استقراء الفاجعة القابضة على حدي الوطن والناس، والشاعر ينفرد بين زملائه من شعراء القصيدة الحديثة في مصر بعلاقته المميزة باللحظة، باعتبارها زمنًا طويلًا حين يتعلق الأمر بوقوع الأرض تحت الاحتلال. هذا ولع سيرافق الشاعر بعد ذلك، وسيأخذه لسبر عوالم شائكة تزج الشعر في حروب الكينونة المفتوحة على معارك ومواجهات أعتقد أن أمل كان أبرع الشعراء العرب في تمثلها وإعادة تقديمها على ذلك النحو الجميل الذي عرفناه في شعره.
فرادة "العهد الآتي" وقصائده أنها تتواشج كسفر حياة بالغ التماسك ومفتوح على المستقبل، حتى أن الماضي والراهن معًا ليسا سوى لافتات ساطعة الحروف تشير إلى المستقبل، وترسم ملامحه، وفيها كقصائد بلاغة الانتباه إلى طاقة الشعر الجبارة في استحضار القسوة المنتشرة في لوحة الواقع وإعادة توظيفها في سياق القصائد بفنية آسرة أراها استثناء جميلًا في تجارب الشعر السياسي التي كثيرًا ما سقط أصحابها في غوايات الشعار والمنبرية المباشرة، فابتعدت عن الشعر وفنياته، فيما توحدت تجربة دنقل مع القراءات العميقة والتشكيل الجذاب.

أمل دنقل في "العهد الآتي" يرتفع إلى ذرى الشعر الجميل، الناصع والمحتشد بالألم، وهو لهذا، وغيره كثير، استحق بجدارة لقب شاعر الرفض، ومعه شاعر الصورة الشعرية المشتعلة والمكتنزة بالمعاني والجمال في زمن عربي طفحت من حوافه تجليات الهزيمة فطغت على صورة الحياة العربية وتفاصيلها السوداء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.