إنّ مقولة سيث ليرر: "وُجِد أدب الأطفال مذ وجِد الطفل" في كتابه "أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر" تتغيّا أنّ أيّ أدب أو فنّ هو ابن روافده قبل أن ينتظم نهرًا. وعندما يقول بأنّ أدب الأطفال كان يستعير مواضيعه من أدب الكبار، ويكيفها لتصبح قابلة للاستيعاب لدى الطفل، فالمعنى يفضي إلى أنّ أدب الأطفال كان ملحوظًا دومًا، آخذًا بالنمو مع تطوّر نظرة المجتمع للطفل من زمن إلى آخر، باعتبار الطفل لبنة أساسية في هيكلية المجتمع، ولا يجب أن تترك لتربية خبط عشواء. وبناءً على هذه المقدمة، فالريادة هي بحث في الظنون والشكوك بقدر ما هي إبحار مع يقينية النهر.
كان لأدب الأطفال ولادات عديدة سابقة، قبل أن ينتظم بشكله الحالي مع الفرنسي شارل بيرو عندما أصدر في أواخر القرن السابع عشر ثماني قصص بعنوان "حكايات أمّي الأوزة". ومع حكايات بيرو سجلت ولادة أدب الأطفال رسميًا، من حيث هو أدب يؤلّف للأطفال ابتداءً ويستهدفهم ختامًا. لقد استعار بيرو اسم ابنه لينشر تلك القصص خوفًا من النظرة السائدة في تلك الأزمنة، والتي كانت تصم كتّاب أدب الأطفال باللاموهبة، والتي استمرت حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، ويذكر الأديب أحمد فضل شبلول في كتابه "أدب الأطفال في الوطن العربي: قضايا وآراء" بأنّ رائد أدب الأطفال كامل كيلاني في القرن العشرين، كان يخفي على الأديب النوبلي نجيب محفوظ كتاباته التي تخصّ الأطفال!
لقد تنبّه بيرو سريعًا إلى أنّ جمهور القرّاء يصنعون الأدب، بالإضافة إلى المبدعين والنقّاد، لذلك عندما نشر قصصه ورأى الاستقبال الجيد لها من قبل المجتمع وخاصة الأطفال، تشجّع وأصدر مجموعة قصصية أخرى بعنوان "أقاصيص وحكايات الزمن الماضي"، وكأنّ أدب الأطفال الذي يكتبه الكبار للصغار تُكتب له الاستمرارية والخلود من خلال استقبال الصغار له، فهم وإن لم يبدعوه، لكن تلقيهم له يساهم بالمقدار نفسه جنبًا إلى جنب مع صناعته.
دُعمت هذه الولادة بتنظيرات الفيلسوف الإنكليزي جون لوك الذي وجّه اهتمامه نحو بناء فكر الطفل العقلي والأخلاقي، فأصدر كتاب "الإيسوبيات" مكيّفًا قصص الحكيم اليوناني إيسوب لتصبح مناسبة للأطفال، تطبيقًا لنهجه في التفكير. ومن ثم جاء الفيلسوف جان جاك روسو وخاصة في كتابه "إميل" الذي أولى عنايته بمشاعر وعواطف الطفل، حيث اعتبره شخصية مستقلّة، وقال بضرورة أن تتغيا التربية تفتح كينونة الطفل ليعرف كيف يعيش حرًّا مستقلًا. استكمل أدب الأطفال شخصيته من الشاعر الفرنسي لافونتين الذي أبدع قصصًا وأشعارًا على ألسنة الحيوانات مستلهمًا التراث العالمي وضمنًا "ألف ليلة وليلة". وكان للدانماركي هانز كريستيان أندرسن المشهور بقصة "البطة القبيحة" دور مهم في توطين أدب الأطفال الناشئ الجديد. ويضاف إلى هؤلاء الرواد الأخوان الألمانيان غريم، اللذان جمعا التراث الشفوي الشعبي الألماني، فعرفنا منهما: قصة بياض الثلج والأميرة النائمة وغيرهما الكثير. بعد هذه النهضة في أدب الأطفال في القرن السابع عشر والثامن عشر انتشر أدب الأطفال في الغرب. أمّا في بلادنا العربية، فكانت الإرهاصة الأولى عام 1875 مع المفكر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بعد بعثته إلى فرنسا، فاقتبس وترجم إلى العربية "حكايات الأطفال وعقلة الأصبع" وعمل على إدخال قراءة القصص في المناهج الدراسية للأطفال وأصدر كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين". لقد آمن الطهطاوي باحتياجات الطفولة الفكرية والعاطفية والخيالية وكأنّه يجمع ما بين مذهبي لوك وروسو. ولحق الطهطاوي بهذا التصوّر لفعالية أدب الأطفال في تهيئة الظروف الثقافية والتربوية لنشأة الأطفال، السياسي المصري مصطفى كامل الذي قال في مجلة "المدرسة": "ولمّا كان أسمى غرض لنا، هو تهذيب الأحداث، فقد عزمنا على أن ندرج في كلّ عدد من أعداد جريدتنا، نشيدًا أو نشيدين على نمط السلامة والتهذيب التام، حتى أنّه بعد مضي خمسة أو ستة أشهر يمكننا أن نجمعها في كتاب نضم إليه بعض الشذرات والمحاورات المفيدة، يكون قاعدة عريضة أساسية لتهذيب الأبناء، وإنّا لا نعدم في ذلك العمل مساعدة الفضلاء والأدباء والشعراء"، وللأسف لم يصدر من مجلة "المدرسة" سوى أعداد قليلة ومن ثم توقّفت.
لقد افتتح الطهطاوي مسيرة أدب الأطفال، ولحقه مصطفى كامل، فجاء بعدهما محمد عثمان جلال الذي لاءم أشعار وحكايات لافونتين للأطفال مع اللغة العربية في كتاب جاء بعنوان "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ". وتتالت بعدها الإصدارات، فها هو أمير الشعراء أحمد شوقي يخصّص في ديوانه "الشوقيات" فصلًا للحكايات والقصص الشعرية للأطفال، حيث كتب في مقدمة ديوانه: "جرّبت خاطري في نظم الحكايا على أسلوب لافونتين الشهير... فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئًا منه، فيفهمونه لأوّل وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من الكثرة، وأنا استبشر لذلك، وأتمنّى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين، مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة من منظومات قريبة المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم". على الرغم من هذه الولادة المشجّعة، إلّا أنّ المجتمع لم يكن مستعدًا بعد لاستقبال أدب الأطفال، فقد تخلّى شوقي عن محاولته الرائدة بأن يكون هناك أدب للأطفال، كما في أشعار وقصص لافونتين الذي قدح لديه شرارة الكتابة للأطفال. للأسف ظل أدب الأطفال العربي يمتح من أدب الأطفال في الغرب حتى يومنا هذا، مع أنّ في تراثنا الكثير من المصادر المناسبة لأدب الأطفال والتي استلهم منها الغرب بعضًا من أشهر قصص الأطفال.
وفي نفس الأجواء اللامبالية بأدب الأطفال والرافضة له تعرضت قصيدة معروف الرصافي التي وجهها للأطفال ("تنويمة الأم لطفلها"، 1923) والتي نشرت في مجلة "المرأة الجديدة" لانتقادات من بعض الشعراء وعلى رأسهم جميل صدقي الزهاوي، لكنّ أدب الأطفال الذي كان يحبو مع شوقي أصبح ناضجًا مع كل من محمد الهراوي وكامل كيلاني. لم يكن أدب الأطفال مع الهراوي شأنًا استثنائيًا يراوده بين الفينة والأخرى، بل أعطاه الكثير من وقته وإبداعه، فأصدر العديد من كتب الأطفال (سمير للأطفال البنين، ثلاثة أجزاء. كذلك أصدر بالمثل للبنات، وديوان الطفل الجديد، ورواية الذئب والغنم، وديوان الشعر الديني: أبناء الرُّسل) وكانت هذه الأعمال مزيّنة بالصور؛ صفحة للقصة أو الشعر، تقابلها صفحة للرسم تعبّر عن مضمون القصة أو الشعر، لذلك نالت قبولًا كبيرًا بين الأطفال. وبالمثل كان كامل كيلاني رائدًا له بصمته الخاصة في أدب الأطفال، فقد اقتبس وترجم من الآداب العالمية من مثل روبنسون كروزو ومغامرات جاليفر ومن الآداب المحلية كألف ليلة وليلة، وكان أول من ألف مكتبة للطفل جمع فيها ما يربو على مائتي قصة تمثل مراحل الطفولة كلها.
بدأ أدب الأطفال ينتشر في كل البلاد العربية، ففي لبنان أصدر الأب نيقولا المخلّص كتابه: "أمثال لافونتين" والذي تضمّن مائة وثماني عشرة خرافة من قصص لافونتين في نظم شعري. أمّا في العراق، فلم تثن الانتقادات التي وجهت للشاعر معروف الرصافي من إبداع بعض أشعار الأطفال التي نشرها كقصيدة "الشمس والرفق بالحيوان".
تأخر أدب الأطفال في سورية عن أمثاله في بعض البلاد العربية حتى ستينيات القرن المنصرم، فكتب القاص زكريا تامر مائة قصة للأطفال، فيما سليمان العيسى أصبح شاعر الطفولة في سورية والوطن العربي وكان لهزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 الأثر الأكبر في ذلك. يقول الشاعر سليمان العيسى مبينًا الغاية من كتابته للأطفال: "وذات يوم أفاقت أمتنا العربية على كارثة من كوارثها المتلاحقة، على نكسة حزيران. في هذه الزوبعة السوداء الخانقة التفت إلى أدب الأطفال، رأيت في عيونهم غد الأمة العربية ومستقبلها، فتساءلت: لم لا أتوجّه إليهم؟ لم لا أكتب إليهم؟ لم لا أنقل إليهم همومي كلها". أمّا في منطقة الخليج فقد كانت النشأة الأولى لأدب الأطفال مع الشاعر السعودي طاهر زمخشري، فقد أصدر عام 1959 "مجلة الروضة" وكانت مميزة في حلتها بالرسوم والألوان. بينما في الكويت كانت مجلة "سعد" للأطفال عام 1969 ثم لحقت الدول العربية بأشقائها تباعًا.
ظلّ أدب الأطفال إلى حدٍ ما كغيمة صيف منذ ولادته على يد رفاعة الطهطاوي، لكن بعد سبعينيات القرن العشرين، أصبحت الكتب والمجلات المختصة بالأطفال منتشرة في جميع البلاد العربية، ولكنّ الحراك النقدي الذي يضع ما كتب للأطفال تحت مبضع النقد، فقد جاء هو الآخر متأخرًا. وقد كانت أول بشائر النقد المختص بأدب الأطفال على يد الباحث المصري محمد لطفي في خمسينيات القرن الماضي، وقد بيّنت دراسته الأسباب التي تؤدي إلى صعوبة أو سهولة المادة الأدبية المقدمة للطفل، كبُعدها عن مجال خبرته، أو أن تقدم له بكلمات غير مألوفة له بعد، ويضاف إلى ذلك تعقيد تركيب الجمل. وقد أوصت الدراسة بضرورة توخّي السهولة في المادة الأدبية المقدمة للطفل مع تبسيط المعجم اللغوي، وتتالت بعده الكتب النقدية عن أدب الأطفال.
الآن، وقد خطونا في العقود الأولى للقرن الحادي والعشرين، حيث تطور أدب الأطفال العربي كثيرًا، ورصدت له الأموال، واعتنت به الدول العربية، ومنحت له الجوائز، يظلّ السؤال مطروحًا؛ لماذا لم نجد بعد قصصًا عربية أو أشعارًا ذات تأثير كبير واستمرار في تلبية ما يحتاجه أدب الأطفال من جيل لجيل، كما في بلاد الغرب؟ فأكثر ما نذكره نحن كمشتغلين في الحقل الأدبي، بحكم اهتمامنا، من قراءات طفولتنا؛ هي قصص غربية الطابع، وإن كان منبتها عربيًا على سبيل المثال (سندباد). للأسف لا يوجد أدب عربي للأطفال، من حيث التأثير والاستمرارية، أمّا ما يصدر وما يتم الاحتفاء به، فهو أقرب لزوبعة في فنجان سريعًا ما ينسى! لربما من أهم البرامج التي حصدت شهرة واسعة في طفولتنا كان برنامج "افتح يا سمسم"، وهو برنامج تمت تهيئته عن مسلسل غربي ليكون مناسبا للطفل العربي؛ مع أنّ النهضة الغربية لأدب الأطفال استندت في بعض نواحيها على ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، اللذين كان لهما صداهما الحاسم على لافونتين وهانز كريستيان أندرسن وغيرهما. لا يبدو الجواب مستحيلًا، فما ينقص أدب الأطفال في منطقتنا العربية ليس الإبداع ولا متلقيه من أطفال، بل طبيعة الوسائط، فالتلفزيون والسينما ما زالا يعتمدان على منتجات الغرب من أدب الأطفال، بينما اختصّت الوسائط الورقية بمنتوج الأدب العربي والفرق واضح في التأثير والأهمية بينهما، وخاصة إذا أخذنا معيار نسبة القراءة القليلة في مجتمعاتنا العربية.
لقد نشأ أدب الأطفال في الغرب مبكرًا واستخدم الوسائل المتاحة وخاصة الورقية في ذلك الزمن، لكنّه سريعًا ما ركب موجة السينما ومن ثم التلفزيون وبعدها وسائط الميديا المختلفة، في حين ما نزال في عالمنا العربي نعتمد على الورق، والمعلوم أنّ هذا الوسيط خفَتَ شأنه مقابل الشاشات من تلفزيون وسينما وموبايل، والتي يجب اعتمادها لتثقيف الأطفال وتقديم أدب يمنحهم المعلومة والمتعة والتربية الصحيحة، لكن هناك نقطة مهمة يمكن أن نستلهمها من تجربة شارل بيرو ألا هي أنّ جمهور الأطفال له الباع الأكبر في صناعة أدبه، فهل كان الأطفال العرب في امتناعهم عن صناعة الخلود لقصص وأشعار عربية كتبت لهم، يمارسون حكمًا نقديًا؟
*كاتب من سورية.