}

في السياق التاريخي للبنيوية: الفكر الذي يستبطن استعمار "الآخر"

سعيد نجدي 20 يونيو 2024
إناسة في السياق التاريخي للبنيوية: الفكر الذي يستبطن استعمار "الآخر"
كلود ليفي ستراوس (Getty)

ظهرت البنيوية في مواجهة الوجودية، باعتبار أن البنيوية منهج يظهر مدى اختفاء الذات في البنية، إلا أن لكلا الفلسفتين أصلًا مشتركًا في أزمة ما بين الحربين الثقافية في فرنسا، وقد أتى العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع من الظاهراتية إلى البنيوية؛ في هذه الفترة سعى كلٌ من جان بول سارتر وموريس ميرلوبونتي لتجديد الفلسفة، بينما طوّر كلود ليفي ستراوس، من خلال العلوم الإنسانية، أدوات للتفسير تستطيع برأيه أن تكون كاشفة بشكل أكبر من المناهج الفلسفية، كما يشير، من خلال ابتعاده عن مفهوم الوعي والاهتمام بالمسائل الاجتماعية الموضوعية، أكثر من اهتمامه بالمعضلات الذاتية لتلك الفلسفات المزعومة واستبدالها بمفهوم البنية اللاواعية.

ولكي نفهم الإطار الذي ظهرت فيه البنيوية يجب أن نحدّد التقاليد التي كانت سائدة في ظل الجمهورية الفرنسية الثالثة، والتي كان مسيطرًا عليها، خصوصًا في الجامعة في فترة ما بين الحربين، التقاليد الدوركايمية التي كانت متصلة اتصالًا وثيقًا بمفهوم إعادة بناء فرنسا بعد الحرب، والتقليد الدوركايمي من جملة ما ينطلق به بوصفه منهجًا كان يتحكم به زاوية نظر مهمة، ألا وهي الوظيفية، من أجل المحافظة على النسق وإعادة إنتاج هذا النسق وفقًا للوجهة السياسية لقيم الجمهورية ذات البعد الليبرالي. من هنا، أعطى الجمهوريون المثقفين الليبراليين الدوركايميين الفرصة من أجل إعادة بناء التعليم وإصلاحه بما يخدم هذه الوجهة، من خلال شغل مناصب في الحياة الجامعية والإدارة التعليمية، ومن هذا المنطلق اعتبر إميل دوركايم أن "الوقائع الاجتماعية أشياء ويجب أن تعالج كما لو أنها كذلك". فبرأي دوركايم، الوظيفية التي عمل عليها "كونت" و"سبنسر" يجب أن تخرج من الإطار النظري إلى حيّز التطبيق، فالمجتمع بالنسبة إلى دوركايم قوة أخلاقية جماعية تقف فوق الفرد، لأن النظام الاجتماعي يعتمد على الاندماج الملائم للفرد في هذا "العقل الجمعي" والذي يعتمد بدوره على وجود شبكة اجتماعية متغلغلة من التفاعلات الاجتماعية حتى يكون كل فرد خاضعًا، وهنا ندخل في مفهوم التضامن في تقسيم العمل لدوركايم.

فالبنية مقولة نجدها منذ ما قبل ليفي ستراوس، ولكن كمصطلح وليس كمنهج، فعلى سبيل المثال نجدها في تقسيم العمل، إذ يشير دوركايم "الظاهرة لا ترتبط بسبب عارض أو مرض، بل هي ترتبط ببنية مجتمعاتنا، وفي الشيء الأساسي في هذه البنية، وذلك لأنها تزداد نموًا كلما ازدادت بنيتنا الاجتماعية الحالية وضوحًا"؛ إذًا يشير دوركايم إلى البنية، ولكن بمعنى آخر، ينظر من خلاله إلى الوظائف المجتمعية، من هنا، فإن هذه الكلمة قد تفهم على معنى من الغموض.

في هذا السياق، يبرز أمامنا أيضًا ردكليف براون (1881-1955)، ممثل الإناسة المجتمعية البريطانية، التي عنيت بدراسة التنظيمات المجتمعية أكثر من دراسة تصوراتها الثقافية، لأنها أيضًا تأثرت، كما كانت الحال في فرنسا، بالاجتماعيات، وهذا ما جعل الدارسين يعتبرون أن ردكليف براون هو مؤسسها رغم أن مالينوفسكي كان له تلامذة من بين ممثلي هذه المدرسة. وبالعودة إلى البنية، فقد اعتُبر ردكليف براون أول من نظّر للبنية، وقَرَن بها مقولة الوظيفة، مما جعل الإناسة البريطانية تحمل اسم "البنيوية- الوظيفية"، وهذا ما يوحّدها بالتوجه السوسيولوجي مع دوركايم. عمل ردكليف براون على استحالة وجود علم للثقافة، وأنه لا علم إلا بـ"السساتيم" المجتمعية، خلافًا للمدرسة الثقافية الأميركية مع فرانزبوا، ولاحقًا مع كلود ليفي ستراوس، أما أحد تلامذة ردكليف براون، وهو إيفانز برتشارد، فقد ابتعد عن أستاذه من الناحية المنهجية، واعتبر أن الإناسة تشكّل جزءًا من الدراسات المجتمعية، وما يوحّدها هو تمسّكها بمفهوم البنية من خلال التحقيقات الميدانية الضخمة، لذلك فإن دراسات ردكليف براون بدأت تشير إلى البنية، ولكن الفكرة الجوهرية التي تصح على المدرسة البنيوية هي أنه لا يمكن أن يكون ثمة دلالة إلا من خلال العلاقات.

إذًا لا يمكن في أي من الأحوال إلا أن نقول إن البنيوية، حتى ولو كان قد أشار إليها ردكليف براون، إلا أنها منهجيًا لم تصغ بعد، لأنها وفقًا له هي تدبير مرتّب لبعض الأجزاء، وكذلك وفقًا لإيفانز بيرتشارد "نعني بالبنية المجتمعية علاقات قائمة بين مجموعات تتمتع بدرجة معينة من الثبات والاستمرارية"، وهنا نرى أنه يشدد على استمرارية الجماعات، وهو يستبعد الأفراد، بل يستبعد عنها أيضًا الجماعات الصغيرة.

واضح أن هذه التعريفات للبنية تركّز على العلاقات، وهي خلافًا للمنهج الذي عمل على صياغته كلود ليفي سراوس حيث إنه يشير بشكل واضح في الإناسة البنيانية إلى عدم إمكانية رد البنية إلى العلاقات المجتمعية، وهذا ما يبرز تعارضه مع البعد الوظيفي لتلك الإتجاهات، "إن البنية المجتمعية لا يسعها بحال من الأحوال أن تُردَ إلى مجمل العلاقات المجتمعية التي تقع تحت المعاينة في مجتمع معين... فهي لا شأن لها بالواقع التجريبي (الأمبيريقي) بل بالنماذج المبنيَة انطلاقًا من هذا الواقع".

في الحديث عن البنيوية، لا بد من الإشارة إلى بنيوية عالم النفس والمنطق جان بياجيه (1896-1980)، لكي نعاين لاحقًا منهج ليفي ستراوس وحتى نفهم أكثر فترة انتشار مفهوم البنية بين مختلف التخصصات، فالبنية بالنسبة لبياجيه هي مجموعة قائمة بذاتها، خاضعة لقوانين خاصة بها، مختلفة عن القوانين التي قد تحكم عناصرها التي تتكون منها، لأن العناصر برأيه قد تتحول كاللغة وتبدّل العلامات على سبيل المثال، لكن المدلول أي المجموعة، وفق بياجيه، تبقى محافظة على خصوصيتها، بمعنى آخر على بنيويتها، وقد دلّ على ذلك بياجيه "البنية سيستام من التحولات ينطوي على القوانين بحكم كونه سيستامًا، خلافًا لخصائص العناصر التي يتكون منها، ويحافظ على نفسه ويغتذي من خلال تحولاته بالذات. وهذه البنية لها عناصر، الكلية، التحول، الضبط الذاتي ... إلخ".

كان ستراوس بحالة تمرّد سافر على دوركايم ووضع لنفسه مهمة ألا وهي إزاحة الاجتماعيات الدوركايمية 


المؤسسة التعليمية والصراع في الوجهات الفكرية

يأتي الفكر، في أحيان كثيرة، نتيجةً للوضع السياسي وما يعيشه من أزمات، ومن هذا المنطلق كان الجو الفرنسي، آنذاك، صاخبًا لناحية بروز العديد من التيارات الفكرية والتي بدأت تشعر أن النظام المعرفي للمدارس السابقة ما عادت قادرةً على الاستجابة لمتطلبات العصر وما يعيشه من بروز أسئلة مستجدة على النسق المجتمعي. من هنا، بدأ الوسط الفكري الفرنسي بإنتاج أفكار جديدة، من خلال بروز التيارات الفكرية، كالوجودية، والظاهراتية، والأهم البنيوية مع رائدها كلود ليفي ستراوس، والذين بدورهم أول ما عاينوه هو النظام التعليمي والذي كان مسيطرًا عليه الأدبيات الدوركايمية في العلوم الإنسانية والبرغسونية والكانطية الجديدة على مستوى الفلسفة، وهنا يشير ستراوس، في هذا الخصوص، إلى كونه قد درّس وعلم في الميدان الفلسفي الذي كان يصفه بالواحدية، كيف أن التيار الفلسفي كان خليطًا ما بين البرغسونية والكانطية الجديدة. نقول هذا لكي نقف على عتبة نشأة البنيوية من خلال عرض أبرز الأفكار والأدبيات التي وضعها ليفي ستراوس في معارضة مع السيستام الفكري، ولكي نفهم على أي منوال قامت البنيوية، وأمام أية أفكار، والأهم من أجل أن نفهم المنهج البنيوي بشكل أعمق، أي الإبستمولوجيا الستروسية. ونذكر قولًا لليفي ستراوس يشرح فيه الجو الذي كان سائدًا "ومع أن غوستاف رودريغز كان مناضلًا في التيار الاشتراكي، إلا أن مذهبه على الصعيد الفلسفي كان خليطًا من البرغسونية والكانطية الجديدة وقد خيّب رجائي بشدة"، هذا النص يدلّل على مواجهة ليفي ستراوس لكل الأفكار التي تختزن بعدًا ميتافيزيقيًا، فبرأيه ما عادت تمكّن من المعرفة بالإنسان، ويوضح كيف أنه بالإمكان من خلال الجو الأكاديمي في وقته حل أية مشكلة خطيرة كانت أم تافهة، بتطبيق منهج هو نفسه دائمًا يقوم على تقابل نظريتين تقليديتين للمسألة بطرح الأولى بناءً على مسوّغات الحس المشترك، ثم إبطال هذه المسوغات بوساطة الثانية، وأخيرًا رد الاثنتين كلتيهما بفضل نظرة ثالثة تكشف الطابع الجزئي للاثنتين الأخريين، وإرجاعهما بحيل لفظية لجوانب مكمّلة للواقع ذاته: كالشكل والمضمون، المحتوى (المضمون) والمحتوى (الشكل)، المخبر والمظهر، المتصل والمنقطع، الجوهر والوجود، فتصبح هذه الممارسات لفظية بسرعة تأسيسًا لفن التلاعب بالألفاظ الذي يحل محل التفكير. ولكي يكشف ليفي ستراوس عن النظام الفكري الذي كان سائدًا، والذي برأيه ما هو إلا حيل وفنون وتركيبات لغوية، يشير "إذ يقدّم السجع بين الألفاظ والتجانس الصوتي مع التعابير الملتبسة، شيئًا فشيئًا مادة الانقلابات التأملية المفاجئة التي بحذقها تعرف الأعمال الفلسفية الجيدة". من خلال هذا النص نستشف أن النص الفلسفي القوي يقوم على التعبيرات الملتبسة أكثر من أنه قد يكون شيئًا حقيقيًا واقعيًا.

إزاء هذا النقد الذي يقدّمه ستراوس، نرى أنه استبدل المناهج السابقة بوضع منهج أصبح أيضًا ذا بعد أيديولوجي، لأنه اعتبر أنه مفسّرٌ لكل الأنساق الثقافية البشرية، ولكن الأهم أنه اتجه صوب الإتنوغرافيا، نظرًا لقصور الأدوات السابقة النظري والمنهجي، وعلى هذا، استبدل الحرفة ببناء شبكة مفاهيمية، انطلاقًا من حرفة الإتنوغرافيا، فهي، برأيه، تهدف إلى معرفة الإنسان والحكم عليه، من وجهة نظر مترّفعة كما يصف، وبعيدة بصفة كافية، حتى يجرّده من الأعراض الخاصة بهذا المجتمع أو تلك الحضارة. مع أننا عندما نغوص أكثر في المتن الستروسي خصوصًا في الأدبيات الوصفية نرى عكس ذلك، على سبيل المثال، في كتابه "الفكر البري" الذي يحتوي على تصنيفات انطلاقًا من زاوية حضارية من خلال مرآة الحضارة الغربية.
يقول ستراوس في الأنثروبولوجيا البنيوية، أن الإثنولوجيا وليدة عصر من عنف عصر الاستعمار، وهو يطبق على نحو آخر هذه الفكرة، من خلال تصنيفاته المنطقية التي يختزل فيها علم "البدائيين" بالأسطورة والسحر، ليوحي أن الأسطورة لا تتكلم عن نفسها بل عن الغرب من خلال الطواطم، "أما استخدام المفردات المتفاوتة من حيث تجريدها فلا يرتبط، كما أشار إليه في القرن الثامن عشر محرّر مقالة في الإنسيكلوبيديا، بتفاوت في الملكات الذهنية بل في مصالح الجماعات داخل المجتمع وبدرجة الحاجة إلى تفصيلها والخوض في دقائقها"، وكأن ستراوس هنا يبدو متسامحًا لناحية عدم التفاوت بالملكات الذهنية بين الثقافات، ولكنه بشكل غير مباشر يعطي تفوقًا لناحية الحاجات، أي من ناحية تعقيد المجتمعات، وأكثر من الناحية الثقافية والشروط المادية والموضوعية.

لكي نفهم النظام المعرفي لستراوس، يجب أن نذكر من خلال الألسنية ودروسها للعالم دو سوسير وكيف استلهم منه ستراوس البنيوية، ولا بد أن نشير إلى تأثره بجان جاك روسو وإعجابه الكبير بمدرسة التحليل النفسي لفرويد التي استفاد منها وطبّقها بشكل واضح، وهنا يتقاطع معه لناحية الاختزال التعميمي والذي لا ينظر للإنسان إلا من خلال أداة اللاوعي. فبرأي ستراوس، التحليل النفسي يكشف أن ما وراء العقلاني ثمة صنف أكثر أهمية وخصوبة هو الدَال الذي هو العقلاني في أعلى أشكال وجوده. يوحي ستراوس بشكل جبري من خلال السيادة المطلقة للاوعي ناسفًا دور الوعي حيث يشير إلى أعمال فرويد لناحية السلوكيات "الأكثر وجدانية في الظاهر، والعمليات الأقل عقلانية، والمظاهر المعتبرة سابقة للمنطق، هي في الوقت ذاته الأكثر دلالة، وعوضًا عن أفعال الإيمان والمصادرات البرغسونية، التي ترجع الكائنات والأشياء إلى حالة العجينة... وليس كما تزعم الكانطية الجديدة"، ما يعيبه ستراوس على غيره يقدّمه بصفة تبشيرية وكأنه الخلاص للمعرفة، وكأن الفرد متبوع بشكل مطلق، وما عابه ستراوس على الوجودية أو سابقتها البرغسونية لناحية البعد الميتافيزيقي، كأنه يعطي اللاوعي بعدًا ميتافيزيقيًا من خلال السيادة الأحادية دون أن يكون هناك احتمالات للفعل. وقد أعطى ماكس فيبر الأهمية للأنماط العدّة للفعل، وليس لبعدٍ واحد، ويعطيه بعدًا عقلانيًا انطلاقًا من المصلحة، فقد صنّف عدة أنماط للفعل الاجتماعي من خلال العلاقة مع الآخرين، وهناك أفعال غير اجتماعية كالتبادل مع المقدّس وهو بُعد جواني، والبعد الواعي للفعل من خلال توقع الفعل من الآخر والذي على أساسه تكون ردّة الفعل، والفعل الاجتماعي الذي يمكن توجيهه للسلوك الماضي أو الحاضر أو المستقبلي المتوقع من الآخرين.

وعلى نفس المنوال، وجد ستراوس أن الماركسية باتجاه مختلف من الواقع، أي أنها تتّبع الأسلوب نفسه للجيولوجيا أيضًا، وهي بذلك كحال التحليل النفسي، وما يجمع الماركسية والجيولوجيا والتحليل النفسي أن الفهم من خلالهم يقوم على إرجاع أنموذج من الواقع إلى أنموذج آخر. هنا يريد ستراوس أن يدهشنا بأسلوبه الروائي وأنه كان متمردًا على الأنساق الميتافيزيقية بتبنّيه موضة عصره لناحية التحليل النفسي أو الديالكتيكي أو الجيولوجي، وبأنه متقدمٌ على الظاهراتية الهوسرلية، التي كان ميرلوبونتي متأثرًا بها، وقد أهدى كتاب "الفكر البري" له، مع أنه يقوم بتقريعها هي والفلسفة الوجودية، "فالفلسفة الظواهرية كانت تصدمني من حيث كونها تسلم بالاستمرارية بين المعيش والواقع... أما الحركة الفكرية التي ستزدهر في الوجودية فقد بدت لي متعارضة مع التفكير المشروع نظرًا لما تظهره من تساهل حيال أوهام الذاتية".

إذًا، وضع ستراوس منهجه في مواجهة الظاهراتية والوجودية، أي ضد الوعي وإعطاء السيادة للّاوعي، وضد الذاتية من خلال أن الإنسان يحدّد ماهيته ووجوده لصالح البنية وإعطائها السيادة. برأيه، فإن الظاهراتية والوجودية أدخلتا منهجين لإيجاد المسوغات للميتافيزيقا بدل أن تعملا على إلغائها. وسوف تبرز لاحقًا البنيوية من خلال النصوص الأدبية مع رولان بارت، ومفهومه الأبرز "موت الكاتب"، واستخدام الدلالة العلامة المميزة في البنيوية، لذة النص، ويرى بارت أن البنيوية طريقة تحليل للمنتجات الثقافية تجد منبعها في مناهج اللغويات من خلال هسهسة اللغة، ومن خلال الدالّ، ومن خلال التراجع اللانهائي للمدلول "أما النص، فإنه يكرّس، على العكس من ذلك، التراجع اللانهائي للمدلول، النص تمدّدي مجاله هو مجال الدال".

 وجد ستراوس ضالّته في أن التحليل النفسي بمنظوره الفردي، والماركسية بوصفها علمًا إنسانيًا بمنظور اجتماعي، والجيولوجيا كعلم فيزيائي وأم للتاريخ ومرضعته وموضوعه، وأن الاثنوغرافيا تتربع في هذه المملكة الإنسانية. ووجد ستراوس أن الإثنولوجيا، كعلم، لها معنى لدى بني الإنسان، ولكن نسأل، ما هو المعنى في وصف الآخر وتحويله إلى موضوع انطلاقًا من القوة ومركزية الذات، وهو ما يبرّر تدشينًا للآخر وتدمير ثقافته، وهو ما حدث من خلال الاستعمار، تحت مبرّر الإثنولوجيا وعلم دراسة الآخر، لذلك نرى طغيانًا ليس من الميتافيزيقا نفسها، التي كانت سلاحَ مؤسسات المعنى ومارست الطغيان؛ يريد ستراوس تدميرها لكي يحلّ مكانها الخطاب باسم العلم، ليمارس من خلاله طغيانًا آخر، وهذا ما يبرّر هجوم ستراوس على كل ما يحمل بعدًا ميتافيزيقيًا إيمانيًا، ولكننا نرى تبشيره لخطاب أكثر أيديولوجية، وهذا ما حدث في أحيان كثيرة من خلال استغلال العلوم الإنسانية والتقنية.

كان الجو الفلسفي في فرنسا، كما شرح ستراوس، برغسونيًا وكانطيًا 


الصراع مع اجتماعيات دوركايم: انزياح مقابل التربّع

في ما يخص علم الاجتماع، وضع ستراوس لنفسه مهمة ألا وهي إزاحة الاجتماعيات الدوركايمية انطلاقًا من كل تلك الاعتبارات السابقة الذكر، فمنهج دوركايم، برأيه، ليس إلا علم لأغراض ميتافيزيقية، "كان القائمون (في البرازيل) على الجامعة ينتظرون مني أن أشارك في تدريس علم اجتماع دوركايمي، دفعهم إليه التقليد الوضعي القديم الشديد الحيوية في أميركا الجنوبية، وهاجس إعطاء قاعدة فلسفية لليبرالية المعتدلة التي هي السلاح الأيديولوجي المعتاد للنخبة ضد السلطة الشخصية، وبما أنني وصلت إلى البرازيل، وأنا في حالة تمرّد سافر على دوركايم، وعلى أية محاولة لاستعمال علم اجتماع لأغراض ميتافيزيقية، فقد أبيت المساعدة على رفع الجدران القديمة، في الوقت الذي كنت أسعى بكل قواي إلى توسيع أفقي، ومن هنا غالبًا وجه اللوم إليَ منذئذ على ما لا أدريه من ولاء للفكر الأنجلو سكسوني، يا للحماقة، إذ فضلًا عن كوني في هذه الآونة الأكثر وفاء، على الأرجح من أي كان، للاتجاه الدوركايمي ولا يشك أحد في الخارج بذلك، فالمؤلفون الذين أدين لهم: روبرت لووي، وكروبر، وفرانز بوس، يبدون لي بعيدين أكثر ما يمكن عن الفلسفة الأميركية على طريقة جيمس أو ديوي (وما يزعم الآن أنه الوضعية المنطقية)، التي عفا عليها الزمن"... إذًا، واضحٌ هذا التمرد على دوركايم، وهو تمرد أشبه بحرب فكرية على عدة اتجاهات، كانت ما بين دوركايم الذي يرجعه ليفي ستراوس إلى المدرسة الأنجلوسكسونية، أي لينزع عنه الطابع الفرنسي وهذا احتمال، ولكن هذه الراديكالية مفهومة عند تدشين منهج جديد يقوم على إبراز العطب المنهجي للآخر لأجل إزاحته من خلال تقديم فرضيات جديدة، ما عادت القديمة قادرة على تلبية الطارئ من الأزمات، وأيضًا من أجل تقديم مشروعية أكبر للخطاب الجديد الذي سوف يغدو خطابًا له سلطته لناحية القول بعدما يأخذ صفة المأسسة في الدوائر الأكاديمية. من هنا، عمل ستراوس على نقد المدارس الفكرية في ذاك الوقت، لتصبح البنيوية هي السائدة، بعدما تحولنا راهنًا إلى ما بعد البنيوية، أي إلى قيام دراسات عديدة عملت على نقد للبنيوية وتجاوزها، وهكذا هي الأفكار تأتي بشكل تعاقبي من خلال الإزاحة بضرب منطقها من الداخل، لأجل تقديم الخطاب الجديد.

وعلى هذه الضفاف وما بعد المتون الفلسفية الضخمة وبروز الهوامش، كان ليفي ستراوس من الذين تصدّروا المشهد، ببناء منهج على الطريقة ذاتها وبشكل مسبق قام على إسقاطه وتعميمه على كل الأنساق البشرية بشكل تعميم الأحكام لكي يدفع بخطابه نحو سيادة وقوة، لا أن يحاول معرفة كل نسق وكشف المعرفة المجتمعية فيه إنما لإثبات صحة المنهج، وهي معرفة تنطوي على بعدٍ أيديولوجي بشكل موارب، وخصوصًا أنه قام بتحقيقين من خلال زيارة إلى البرازيل وأخرى إلى باكستان. تصبح الكتابة، بهذه الحالة، أشبه بكتابة أدبية سردية، من خلال التأويل الجاهز وإسقاطه على الآخر انطلاقًا من الذات وما تحمله من تصورات لا تبدو موضوعية في تمثل الآخر، وهنا نسأل انطلاقًا من الأداة والملكة اللاواعية كمهماز ومحرّك لستراوس، كيف عملت وأثرت جوانيًا عليه في قراءة الآخر لأنها ملكة مستبطنة.

بالعودة إلى جو الوسط الفرنسي الذي لا بد أن نفهمه لكي نفهم ستراوس ونعي أكثر العلاقة ما بين الذات والموضوع الذي اشتغل منه وفيه، كان الجو الفلسفي، كما شرح ستراوس، برغسونيًا وكانطيًا من جهة، أما علم الاجتماع فقد كان دوركايميًا من جهة أخرى، وكانت هذه الأدبيات مرتبطة بإعادة بناء فرنسا بعد الحرب الفرنسية، لأن الدوركايميين كانوا كما سبق أن ذكرنا موالين لقيم الجمهورية الثالثة، والذين عارضوا بشدة مجموعات متنوعة من قوميين، وكاثوليك ذي نزعة نضالية، وملكيين، ومجموعات خارج البرلمان، وعارضهم من اليسار التنظيم النامي للطبقة العاملة التي كانت ذات اتجاه إلى تبني شكلٍ نقابي فاعل خارج حقل البرلمان.

أمام هذا المشهد تلاحم الجمهوريون الذين كانوا يمثّلون البرجوازية الصغيرة ذات المصالح الاقتصادية، من أجل علمنة التعليم. كانت البرجوازية الفرنسية التابعة للجمهورية تواجه اتجاهين: اليمين من جهة، واليسار من جهة أخرى، وكانت أمام تحدٍ لتطوير أخلاقية علمانية وصياغة المؤسسات التي سوف تفرض هذه الأخلاقية على المجتمع. وقد أخذ الدوركايميون على عاتقهم لعب هذا الدور، لأن المجتمع بالنسبة لدوركايم هو قوة أخلاقية جماعية تقف فوق الفرد، من خلال العمل على مفهوم العقل الجمعي والذي يشكل السيادة كمنطلق للتفكير وهذا العقل يتجسّد بالدولة، أي كأنه أشبه بروح العصر لهيغل الذي طوّر أدبياته انطلاقًا من هموم الوحدة والتقدم لألمانيا. إذًا، العلمانية، بالنسبة للدوركايميين، كانت التعبير عن هذا التوجه الذي تنخرط فيه كل التوجهات والتفرّعات لكل الأشكال والفئات في النسق الفرنسي، القائم على البعد السوسيولوجي ذي البعد العقلاني، أمام الفرد ذي البعد العاطفي اللاعقلاني، وهو إذًا نتاج من تطويريات للبعد العلماني الذي هو حاجة لتطور المجتمع ولا بد له من مفهوم يقوم على الأخلاقيات العلمانية.

استلهم ستراوس البنيوية من دو سوسير  


أما برغسون على المقلب الآخر، فقد كان أكثر اعتدالًا للمثل الجمهورية، إذ سعى لوفاق شامل من خلال تسليمه بالدعوى العلمية للعقل، ولكنه جادل في أن العقل لا يمكن أن تكون له أكثر من قيمة علمية، لأنه لا يستطيع أبدًا أن يحيط بكلية وغنى التجربة الروحية، من هنا، نشأت فلسفة برغسون على تعارض بين العقل العملي والتجربة الروحية وأتت على شكل توفيقي من خلال ما يسميه "الوثبة الحيوية". لكن ما تركته الحرب العالمية الاولى وما تلاها، جعلت هذه الجمهورية، وما تحمله من إطار مرجعي لأفكار من دوركايم وبرغسون وغيرهما من أدبيات كانت سائدة، العديد يفقدون الثقة بكل هذا النظام، فعدد القتلى الكبير والجرحى والمعوقين، والدّين الضخم والأزمة المالية الكبيرة وما تلاها من حكومات عاجزة، تعرّضت فيه لمساءلات ضخمة وهجوم من اليمين واليسار، حسمت لصالح اليمين الذي عمل على إنشاء خطاب نضالي ذي جاذبية للشباب، بسبب فقدان الثقة بالنماذج السابقة وما تحمله من قيم الليبرالية. أدى كل ذلك إلى نقد لكل طابع يحمل في طيّاته أي بعد ميتافيزيقي. من هنا نفهم هذا الهجوم الشرس من ليفي ستراوس على كل تلك الأدبيات. كما صارت الماركسية أيضًا ذات جاذبية لما تحمله من بعدٍ تحرري خصوصًا للشباب، وظهرت الوجودية مع جان بول سارتر الذي استفاد من المتن الفلسفي الأنطولوجي الألماني، وريمون آرون الذي تأثر بسوسيولوجا المعنى لفايبر، وموريس ميرلوبونتي الذي بدوره أيضًا استعان بظاهرية هوسرل وجورج لوكاش، وأيضًا لا ننسى بول تيزان، وسيمون دي بوفوار... إلخ. في هذا الجو عمل ليفي ستراوس على تركيب منهج من عدة روافد في الحقل الإناسي، ثبّتت أقدام هذه الروافد مع ستراوس، من خلال منبعها اللغوي الأصلي والتي تشربتها باقي الميادين بوصفها نموذجًا. لاحقًا استفاد منها لويس ألتوسير، وميشال فوكو، وجاك لاكان، ورولان بارت، واستفادوا من الرعيل السابق، وخصوصًا من واضع البنيوية بشكلها المنهجي ليفي ستراوس وطبقها كل منهم في ميدانه.

وكان ليفي ستراوس، شأنه شأن غيره، قد استفاد من فرانز بواس (الألماني الأصل والذي عمل على إنشاء ثقافيات من خلال مفهوم الخصوصية مستفيدًا من الصراع الفكري السابق ما بين المدرستين الفرنسية والألمانية، لهذا استلهم هردر من هذا المنطلق) أنتروبولوجيًا، في وضع اللبنات الأساسية للحقل العياني المعيوش. وفي الجو الداخلي، استفاد ليفي ستراوس مما كان سائدًا لأفكار من اللغويات لدو سوسير، ومن أفكار فرويد ونيتشه وهيغل وماركس من خلال نصوصهم وما كانت تحدثه وقتها من أثر على الصعيد الفكري، فقام على إنشاء تنويعيات من الأدوات التفسيرية، من خلال الحوامل للصراع الدائر حينها ما بين الإرث القديم للفلسفات والأفكار والتحولات التي أفقدت الثقة بالكثير من هذه الأفكار، خصوصًا أنها غير واقعية وبالتالي، غير قادرة على قراءة وتفسير البعد المجتمعي، ففقدت شرعيتها وسلطتها بما هي نصوص ذات قوة وشرعية، وخصوصًا أنها نشأت على مفهوم الفرد والذاتية منذ كوجيتو ديكارت وصولًا إلى الفرد التجريبي في النفعية الإنكليزية، أو السلوكية الأميركية.

لذلك، يُنظر لعمل ستراوس كفيلسوف من خلال البنيوية التي تعتبر فلسفة، أكثر مما هي منهج علمي، ما سوف يعرّضها بعد فترة من السيادة إلى النقد الكبير في كافة الميادين، وأدى ذلك إلى أفولها وخفوتها على صعيد السحر الذي أحدثته ما بعد الحرب، متصدرةً المشهد الفلسفي والأدبي والعلمي. وهذا حال تدرّج النماذج المعرفية، التي تأتي بشكل تعاقبي للتراث السابق وما يحمله من فهم يوجّه النظر؛ كحال الأنتروبولوجيا التي تعاقب على مناهجها العديد من المدارس، بدأت مع التطورية ثم الوظيفية والانتشارية والثقافية، ومن ثم البنيوية، وما تلاها من فترة راهنة درج على تسميتها ما بعد البنيوية.

ولم يكن هذا الصراع يخلو من أبعاد ذات صفة قومية، خصوصًا ما بين المدرسة الفرنسية من جهة والأنجلوسكسونية من جهة أخرى. فالصراع ما بين هذه المدارس كان دائمًا من خلال موضوع "الآخر" بوصفه الأقل قوة وإمكانيات، ومن خلال إسباغ العديد من المسمّيات عليه، بدائي وحشي بربري، عالم ثالث، دول الجنوب... إلخ؛ مسمّيات كانت ذات عنف غير مادي فقط، إنما رمزي بشكل تعسفي. وستراوس نفسه يلمّح إلى ذلك من خلال عمله مع المنظمات الدولية، في إشارة إلى أنه في السابق، كانت الدول الاستعمارية، أثناء الإبادات الجماعية وتهشيم البنى الثقافية، تعمل على موضوع التبشير الديني، أما أدوات التبشير الحديث (بعد استنباء البنى الثقافية الأخرى، ومن خلال الأدوات الاقتصادية المهيمنة، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي) فقد تبدّلت من الدين لتصبح حديثًا على منوال آخر كمفاهيم إسقاطية على الآخر، انطلاقًا من أدبيات وقيم تلك القوى. من هنا، ومن خلال النسبية الثقافية، يشير ستراوس إلى مسؤولية المؤسسات الدولية في كتابه "العرق والتاريخ" الذي يبدو أكثر تسامحًا قياسًا بالكتب الأخرى، "إن ضرورة المحافظة على تنوّع الثقافات في عالم مهدّد بالرتابة والتماثل لم تخف على المؤسسات الدولية، أن تجامل تقاليد محلية وأن تمنح مهلة للأزمنة المنقضية. إن ما يقتضي إنقاذه هو واقع التنوع، وليس المحتوى التاريخي الذي أعطته إياه كل حقبة... ثمة أمام المؤسسات الدولية مهمة ضخمة لكي تمتلك القيمة الوظيفية نفسها التي تمتلكها النماذج السابقة، أن تعيد إنتاجها، لأن مهمة المؤسسات الدولية مزدوجة فهي تقضي من جهة أولى بإجراء تصفية، وعليها أن تساعد الإنسانية من جهة ثانية"، ولكن ما هي حدود المجاملة، وكأن هذا الكلام من منطلق القوة، أي أن القوي يمنح ويعطي، وهو بالوقت ذاته قام بعمليات تدمير، وكأن ستراوس يقول يجب تغيير الطريقة السابقة للاستعمار واستبدال الأدوات. ويناقش ستراوس، في كتابه هذا "العرق والتاريخ"، الاستعارات من الثقافات، لنكون أمام خيارات في ظل هذه الرأسمالية التكنولوجية المتفلتة، ويقول ستراوس أن على الغرب أن يكون مدينًا للثقافات الأخرى في القرون السابقة التي استعار منها ثقافاتها. ولكن ما الذي بقي؛ يورد ستراوس كلامًا عن الإسلام، في القرون الوسطى، حيث يقول "منذ ثلاثة عشر قرنًا مضت، صاغ الإسلام نظرية تضامن جميع أشكال الحياة الإنسانية، التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، لم يكتشفها الغرب إلا مؤخرًا عبر بعض جوانب الفكر الماركسي. ومع ولادة علم السلالات الحديث، نحن نعلم أي مكانة رفيعة سمحت للعرب باحتلالها في الحياة الثقافية للقرون الوسطى؛ هذه هي الرؤية البنيوية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.