}

عن الأزمنة والسؤال حول الحاضر المتعثّر

سعيد نجدي 1 أغسطس 2024
إناسة عن الأزمنة والسؤال حول الحاضر المتعثّر
(Getty)

تحوّلت الأحداث التي نعيشها إلى إشارة في تقادم الماضي وسيلانه في الحاضر ليكون تجلّيًا تبرز فيه العصبية وتستجلب أزمنتها، ومن هنا لا معنى للزمن إلا إذا أردنا أن نؤرّخ له انطلاقًا من قطائع باشلار التي تُحدث تحولات عميقة، والتي تؤرّخ للمستقبل؛ لهذا فإن الحق وأحداثه ما زال مرتبطًا بالأزمنة الممتدة التي توفّرها العصبية بوصفها خطوطًا هادية إرشادية للفعل طالما أنها لا تضع المستقبل أمامها، بل إن القوى تعمل على منوال الصندوق وأدواته الذي يحفظ السلطة، ما يجعل الجماعات العصبية تعيش حالة أشبه بمنزلة بين منزلتين، حدّ الظاهر الذي يتجاوب مع تعبيرات الحاضر من خلال الشكل، وحدّ الباطن الذي يستبطن النفوس من خلال عقلية الماضي، وهذا الاضطراب يعيق بناء المستقبل الذي يرتبط حسب باشلار في لهب شمعته، بالوجود الحالم السعيد بأحلامه، النشيط بأحلام يقظته، هو الذي يمتلك حقيقة الوجود ومستقبل الوجود البشري، فكيف الحال بالجماعات التي لا تحلم ولا تضع المستقبل أمامها ما يجعلها لا تتحول إلى حد الفعل الحر الذي يؤمن الوجود الفاعل للإنسان، بفعل تدجين حيويته الخيالية الخلاقة بالعصبية.

الأوقات هي شروق الأزمنة وتعارضها

ما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والكهنوتية والحزبية، والتي لها أزمنتها، على توقيت المنافع، غاب في هذا الحقل زمان الناس، الفعل ورد الفعل يبين إلى حدّ كبير، أن الحاضر من خلال تتبّع علاماته ما هو إلا إيقاعات الاستبطان النفسي للأزمنة الماضية، التي تغيب معها تعبيرات ومؤشرات ظاهراتية لما يمكن أن يأتي من المستقبل. ويشير الفيلسوف الظاهراتي موريس مرلوبونتي في كتابه "المرئي وغير المرئي" إلى أن الحاضر المرئي ليس له مثل هذه القيمة، ليست له ميزة مطلقة إلا بسبب من مضمونه الهائل الكامن في الماضي، وفي المستقبل وغيره الذي يعلن عنه ويخفيه من صور وعلامات أشبه بدواليل. من هنا، وعند أي حدث، تبرز الكمية الهائلة من أزمنة معشعشة في ذكريات الناس، أزمنة قاتلة وجارحة تتعسّف على حاملها أولًا، لأنه واقف فيها بشكل دائري، لا يستطيع تخطّي البكتيريا التي يتغذّى وعيه ولاوعيه عليها، وبالتالي تجعل اللامرئي القبيح المذهبي والطائفي مرئيًا، والذي هو صراع ما بين الأضداد، ما بين المعقول واللامعقول، والذي في وسطه يختفي الحاضر، ما بين الأضداد من المنازل، لهذا ومن خلال اللغة تصبح الكتابة للتاريخ وسيلة وتقنية للهيمنة، التي تطبق الحاضر، وتمنع الوثبة والانتباه إلى الحياة وتذكر الحاضر.

قسّم هنري برغسون الوقت إلى نوعين: الوقت العلمي الذي يقسّم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، وهو وقت ثابت لا يتغير، والوقت النفسي وهو الوقت الذي يعيشه الإنسان ويستمتع به، وهو بالنسبة لبيرغسون الوقت الحقيقي. يمنع برغسون نفسه من وصف الماضي في مادة، لكنه يصوّر الحاضر في الماضي ولكن دون تذكرٍ له، وهكذا تتجلّى النفس كشيء وراء مدّ ظواهره، وهي حقًا ليست معاصرةً لسيولة الأشياء والظواهر، وهي لم تستقر مع ذلك حتى في سيلان الزمان، إلا أنها أبقت مكانًا للتضامن بين الماضي والمستقبل، أبقت لزوجة الزمان التي تجعل من الماضي جوهرًا للحاضر، هكذا يصبح الزمان مكانًا سائلًا، كما أشار ابن عربي إلى ذلك، وما بين برغسون وابن عربي لا يكون المكان الحاضر سوى ظاهرة للماضي. في علم النفس البرغسوني يفسح الزمان الممتلئ، العميق، المتواصل، الغني بالتعبيرات، مكانًا بشكل دائم، بحيث أن النفس لا تستطيع أن تنفصل عن الزمان، والتوقف عن السيلان، توقف عن الوجود، لأن التجمّد الزماني في المكان في إشارة ابن عربي معناه الموت، ولم يعد التواصل المفكر سوى تواصل الجوهر الزماني، بمعنى أن الحاضر أي الوجود، إضافة شيء للوجود دون إفساح مجال للعدم.

في فيمينولوجيا الزمن، الذي يتحوّل بلحظة وكأن هذا الماضي يتدّفق ويعصر ويعجن ويستحضر، لا انصرام البتّة، فحدث معيّن يستدعي كل الكنايات البعيدة، وبالتالي يتحوّل إلى انتشال جماعي للمخيلة ووضعها في الخارج من الحاضر، وحتى الآنات الثلاث لا يعود لها معنى في إشارة هيدغر، الذي ينفي مصطلح الزمانية وتصورات الزمان التقليدية باعتباره ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، بل إن هذا الفهم التقليدي إنما هو ناجم عن زمانية الوجود غير الأصيل، تقوم رؤيته على أن توحيد آنات الزمان الثلاث في اللحظة والزمان، إنما يبدأ من المستقبل لا من الماضي، وهذا يأخذنا إلى حدّ كبير كجماعات عصبية أنساقها هي إفراز دائم لتعبيرات العصبية، إنها خارج الزمن طالما أنها لا تضع المستقبل أمامها والذي يشكل نوعًا من أنواع الإبداع، وكشف الغباش الذي يعمي النظر في عدسات الجماعة ذات المنوال الأحادي النظر.

قسّم برغسون الوقت إلى نوعين: الوقت العلمي الذي يقسّم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، وهو وقت ثابت لا يتغير، والوقت النفسي وهو الوقت الذي يستمتع به الإنسان


تشيؤ الزمن

إذا تكلمنا على معرفة للزمان، فلا بد لنا من الوصول إلى تقديم طرائق من مواجهة الذات للزمان، لأنه ليس لنا الحق في إنجاز جهلنا وفي الإسناد المتسرّع لنمو الظاهرة الزمانية، لأن حدس الزمن عابر جدًا والذاكرة متصلة بالجماعة، كما أوضح بيار جانيه ذلك، وهنا يقول القديس أغوستين: "ما هو الزمن؟ إذا لم تسألوني ما هو فإنني أعرفه، وإذا ما سألتموني ما هو، فإنني لا أعرفه". لكن من ناحية أخرى، يمكن تمثّل وملاحظة كيفية اشتغال السلطة/ القوة على تشيؤ الزمن، أي جعله رديفًا استعماليًا حتى يمدّ الفعل لناحية الوظيفة الإسنادية التحويرية، عندها يتم نوع من أنواع تشيّؤ للمعاني، واستحضارها من فانوس الماضي لخدمة العصبية، لتكون أشبه بخيوط إرشادية تعمل على ضبط الفعل بما يخدم السلطة، وعندها يمكن فهم تشيؤ الزمن بوصفه يسير وفق مصلحة الأيديولوجيا التبريرية للصور الجاهزة والتي توضع دائمًا في الواقع بشكل مقلوب، والتي تخرّب تحرّر اليوتوبيا التي من شأنها بناء صور للمستقبل، أو إعادة فهم جديد لصور الماضي حتى يصار إلى انتشال الوعي المخدّر من واقعه التعيس.

إن ترابطات اللحظات الفاعلة يتم إنجازها دائمًا على الصعيد الذي ينفّذ فيه الفعل، فإنه عندئذ لن يكون الزمان إلا علامات توضع في الأثر، وعندها لا مجال للدهشة من إمكان إيجاد علامات لتمثّل الزمن في الفعل، في الحياة التي يبرز الزمن فيه علاماته ورموزه التي تكون لغة التواصل الرمزي للجماعات العصبية، أو هي أشبه بأغانٍ تنويمية، موسيقى صامتة، تكون باهتة وصالها خافت لأن تكرارها وحواملها يبلغ صداه المنشود، نظرًا إلى عدم وجود عنصر الغرابة، ما يثير الغثيان انطلاقًا من قبح المشهد، وتكرار الشيء نفسه، فاختبارات الزمن هو ما يشكل تعاسة التلقي للصور الاسترجاعية وإحالاتها، في أصوات النشاز في بنيتها السيكولوجية، وحتى المادية.

زمان الناس وزمان السلطة

كل مرة تثار نقاشات الزمن المنقوش في شتى المجالات، إن كانت فكرية وسياسية وحتى ذات طابع جمالي وفني، في الجامعات والمراكز البحثية وشتى مؤسسات المعنى، والإعلام أيضًا، وهو، كما أسلفنا سابقًا، ما عاد يثير الدهشة من حيث الفعل، ضجّته توحي بأنه نقاش حول حدث مركزية الشمس العلمي، أو نسبية الزمن الفيزيائية، أو بأنه نقاش حول طبيعة المسيح اللاهوتية، أو قضية حرية الأفعال وخلق القرائن الكلامية، أو قضية الزمان في أنه قديم أم محدث!

عند إفلاس المؤسّسات التي تستحوذ على السلطة وشرعية القول والفصل في الأهواء والملل والنحل، تعمل القوى على تغييب أزمنة الناس ومصالحها الحقيقية من حقوقها في التعليم الرسمي على سبيل المثال، وفي ظل غياب أي إنجاز، يستحضر حدث الأزمنة، ولكن أي أزمنة؟ هل يستحضر زمان الناس الذي أشار له ابن المقفع في حديثه عن الزمان، التي يمكن أن نستفيد منها فيما يخص الفرق بين تاريخ السلطة وتاريخ الناس لعذاباتها، للاستبعادات، للهوامش للذين لا صوت لهم، وهي إقامة الفروقات التي حفظها الناس في التاريخ المبثوث في ذاكرتها، ليكون الشاهد على الاتباع، لأن وظيفة هذا الحفظ هو إغفال العقل عن التمييز، الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، كما تحدث الجاحظ عن الحفظ، وهو ما يحمله الناس كوعاء لحفظ هذه الأزمنة المتكدسة في ذاكرتها الشقية والتعيسة، التي تعيش معها في الماضي. وقد يشكّل القطع مع الذاكرة لنماذج الإستحواذ من الفهم الأحادي، والقول وشرعيته والتي تقدّمه بشكل معاق ومشوه، والتي من غير المسموح تقديم فهم مغاير حوله، عذابًا للضمير تعمل المؤسسة على تكراره ومعاودته على الدوام، للبسط والإحكام على الجماعات المعدة لتدشين الأزمنة وتكرارها، لأن الناس أصبحت وبشكل كبير مدجنة بروايات الأمجاد المصطنعة، أو روايات الحرمان الدائمة، لذلك فإن الحاضر لهذا الحقل الممتد على جغرافيا الأقطار ذات اللسان العربي ثقافيًا، لا يؤشر في أي حال من الأحوال إلى أي شيء يبشّر بالآتي من المستقبل، إنما معاودة وتكرار لأزمنة القبح والنشاز، التي يعيش الناس في قسم كبير منها على أن هذه الأزمنة الملعونة هي التي أعطت الوجود، ولكن هذه الكينونة هي كينونة معادية للوجود ناسية له، تقطع كل مباغتة بشكل مسبق، والتي تغطيه برداء العصبية التي لا توفّر له سوى العودة إلى الخارج من الزمن، والذي لا يهيئ المكان القابل للتاريخ ولكل إمكان وجودي، من شأنه أن يخرجنا خارج المألوف، أو إعادة بناء للنسق بشكل جمالي يعيد تحرير ملكات الذوق، وعندها أكثر من ذلك لا نستغرب فقدان الإبداع، لأن المخيّلة بلغت من الصور المتكرّرة حدًّا، أصبح أشبه بالسياج الذي يمنع تخطّي كل تعبيراته لمنازل اللغة التي نفكر بها، وتمارس علينا سلطتها بفعل مؤسسات السلطة الشرعية.

وأخيرًا نتساءل، من الذي حفظنا من خلال الوجود؟ هل هو الإتّباع ومعاودة الأزمنة التي تعمل على تشيئة الذوق، أم الإبداع كقفز نحو المستقبل، والقطع مع عصبية المعاني الهدّامة؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.