}

الكتابة والقراءة بلغتين:غوصٌ في تفاصيلِ ذاكرةٍ مُنشطِرة

جوان تتر 3 نوفمبر 2017
هنا/الآن الكتابة والقراءة بلغتين:غوصٌ في تفاصيلِ ذاكرةٍ مُنشطِرة
لوحة لرينيه ماغريت

  إتقان لغتين يشكّل قوّةً ما للذاكرة، كما أنّه يعطي بُعداً آخر للتدوين، يتجلّى ذلك من خلال التفكير بلغةٍ معينة، تكون اللغة الأمّ عادة، والكتابة بلغةٍ أخرى هي المُكتَسبة، أو لعلّها لغة الثقافة المفروضة "سياسيَّاً" في المجتمعات الثقافيَّة العربية التي كانت تحت سيطرة الانتداب الفرنسي كالجزائر وتونس في وقتٍ مضى من التاريخ، أو كما هو الحال في المجتمع الثقافي الكرديّ اللغوي في سورية على سبيل المثال، والأدب العربي شهد برمّـته عشرات المؤلفات بغير اللغة الأصليَّة، وكذلك الأمر بالنسبة للقراءة بلغةٍ مختلفة عن اللغة الأصل، وبعيداً عن التنوّع والشعور القوميَين، فإنّ عدداً من الكتّاب والأدباء في غير بلد ومجتمع برعوا في هذا الشأن. وهذا ما جعل من خوضِ غمار الكتابة بلغتين مختلفتين منطقةً وعرة وشديدة التعقيد، لأسباب عدّة منها، آليَّة التفكير التي تكون باللغة الأمّ ومن ثم آليَّة التدوين التي تكون بالكتابة بلغة مغايرة تماماً عن الأصل، اختلاف الثقافة والقراءات، الأخيرة التي تُغني التدوين وتمنحه كذلك البعد الأشدّ للغوص في تفاصيل الذاكرات المختلفة والمغايرة. على هذا الأساس يقول الشاعر والمترجم عن الفرنسية "صلاح باديس" حول حالة الجزائر كمثال في موضوع اللغة وازدواجيتها: "الحالة الخاصة في الجزائر وخصوصية الازدواجية اللغوية فيها لا تخصُّ فرداً أو جماعات، فحتى الدولة والسفارات والمواقع الإلكترونيَّة الخاصة بها ليست باللغة العربية بل بالفرنسية، كون قلب الإدارة "مفرنَس" وبدأ تعريبها منذ سنوات فقط، ولكن بمقدورنا القول إن مركز الدولة العميقة "مفرنَس"، المشكلة ليست في القراءة والكتابة بلغتين، المشكلة تكمن حتى في التعاملات، خاصة في العاصمة التي هي مركز كل شيء، فكل أمر مزدوج اللغة ويتمّ التعامل وفق تلك الازدواجية، دائماً لابد أن تكون اللغة الفرنسية حاضرة، الأخيرة التي تغدو في بعض الأحيان مفتاحاً للدخول إلى بعض الدوائر الثقافية النخبويَّة"، وعن حالته الشخصيَّة يقول باديس: "بالنسبة لي شخصياً، أظنّ أنّ الكتابة لدي نابعة من المنطقة الضيقة، أو التي غالباً ما أطلق عليها صفة: منطقة الظل، تلك المنطقة بين اللغتين، فأنا استعمل اللغة العربية، بينما تعلّمت اللغة الفرنسية في المدرسة ومن خلال الاحتكاك مع الأدب"، مستدركاً: "الفرنسيَّة بالطبع لغة رافدة بالنسبة إليّ ولا أستطيع التخلي عنها، حتى حين أدوِّن باللغة العربية أرى ذاتي متأثرةً باللغة الفرنسية من ناحية ترتيب الجمل والمعاني، أستطيع وصف الحالة بـ "القلق الدائم"، قلق أن تقرأ باللغة الفرنسية وتكتب باللغة العربية وتحاول أن تسكنَ منطقة القلق، لكن وفي الآن ذاته، أفضّل هذا القلق على راحة استعمال لغة واحدة والركون إليها في القراءة والكتابة والكلام".

 

هنا آراء لبعض المثقفين الذين يقرأون ويكتبون بلغتين:

 

 

- التأثر العكسي:

يرى الشاعر والمترجم السوري أحمد م. أحمد الذي يترجم عن اللغة الإنكليزيَّة أن: "لا شيء يغني النصّ الأدبي أكثر من اطّلاع كاتبه على آداب وثقافات أخرى، أشعر بغنى أكبر وبقدرتي على الدخول إلى عوالم أكثر اتساعاً مع لغتي الإنكليزيَّة، فهي اللغة التي تترجَم إليها أولاً كافة الثقافات الأخرى"، وعن التأثير يتابع: "أنا مسكون بلغتي العربيَّة، ومع ذلك تطعَّم نصّي العربي بمؤثّرات شعراء يكتبون بالإنكليزيَّة، ومعظم هذه المؤثرات عبرتْ (فلتر المقارنة) الذي أحمله في داخلي. تشبّعتُ بنصوص لبعض الشعراء، ونبذتُ بعضها الآخر، هناك فرق كبير بين قصيدة سيميك "ماذا قال الغجر" وبين قصيدته عن الكلب ذي الأرجل الستّ، الأولى ملهمة وعميقة وصادمة، والثانية، برأيي الشخصي، غير صالحة للنشر. إذاً، هناك شيء اسمه التأثّر العكسي، إن تتمرَّد على تقاليد شاعر غربي، وتعود لتعتدَّ بشعريَّة العرب، وأدَّعي أن تأثّري كان تأثُّراً عكسيَّاً، إلّا من (الجرأة) التي اكتسبتُها من نصوص الثقافة الأخرى، الجرأة الشكلانيَّة، بالإضافة إلى العوالم والصور، التي شعرتُ في بعض كتابتي أنني تجاوزتها. أنا من جماعة (التأثر العكسي)، ولستُ مصاباً برهاب الأسماء الغربيَّة الكبيرة، وهذا نوع من التأثّر (أُدين) به لآداب الغرب"، وحول كتابته بلغة مختلفة عن لغته الأمّ يقول أحمد: "أكتب بالإنكليزيَّة أحياناً، لكن عوالم هذه الكتابات، على قلّتها، هي عوالم وهموم عربيَّة، لكنها لو نُشرت لأعطت القارئ الناطق بالإنكليزية تصوّراً ما عن الثقافة العربيَّة، بالمقابل، لا أجد مشكلة في استخدام كلمة إنكليزية في نصٍّ لي، أو حادثة، أو اسم صديق أو امرأة أميركية حيث أقمتُ لسنوات، أفكّر باللغتين، وأعيشُ الثقافتين دون أدنى فصام، فالألم والأمل البشريّان واحدان، لا أشغل نفسي بهذه الثنائية (نحنُ وهُمُ) ولا أنظر إلى الغرب كـ(آخر). الفارق الأكبر أن الغرب أكثر أخلاقيَّة في ما يتعلّق بالتأثر والتأثير، فكثيرون منهم يعترفون ويفتخرون بتأثرهم بشعراء ذوي أصول إسلاميَّة، بينما يعتبر القومجي أن ترجمة تيار فكري غربي جديد هو "غزو ثقافي"، وينظر المثقف/الشيخ العربي إلى أن التأثر بالغرب زنا واعتداء على إحدى حريمه: السيدة اللغة العربيَّة. وأنا مع (الغزو الثقافي)، ومع الاعتداء على (الحريم اللغوي العربيّ).  

 

    

الموضوع معقَّد:

يقول العراقي غسّان حمدان، الذي يترجم عن الفارسيَّة ويتقنها لغةً: "بالنسبة إلى القراءة لا أجد صعوبة في فهم النصوص واستيعابها، لأن العين تتلقى الكلمات كالطعام. وبالتالي لا يضطر الذهن إلى البحث عن شيء ما، أو عن معنى أحد المصطلحات؛ ولقد تلقنت اللغة الفارسية في المدارس الإيرانية، كما أنني تعلمت اللغة العربية بمجهودي الشخصي ومن خلال عملي مع وسائل الإعلام ودور النشر. وفي رأيي، إن كان المترجم يجد صعوبة في فهم النص وقت القراءة، فمن الأفضل ألا يفكر في الاشتغال بالترجمة، بل يجب عليه أن يكمل دراسته اللغوية. ولكن الوضع يختلف عند الكتابة والترجمة، فأغلب المترجمين لديهم في ذهنهم لغة متفوقة على الأخرى. وحتى لو كان المترجم يتقن لغتين ويفكر بهما، فدائماً ما تتسلط إحداهما على الأخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى أي حد تسيطر اللغة الأولى على اللغة الثانية؟ إنني أرى أن الصعوبة في عملية الترجمة تكمن في البحث عن الكلمات المترادفة فوراً؛ فأحياناّ ما نرى أن الكلمات البارزة في اللغة الأولى تتسرب إلى اللغة الثانية تلقائياً، ويجب إبعادها. لذلك إن كان المترجم متمكناً من لغة أكثر من أخرى، فإن احتمال ظهور هذه المشكلة يبدو أقل. وأما بالنسبة إلى اللغة الفارسية التي دخلت فيها كلمات عربية كثيرة، يقع المترجم في خطأ، ويستخدم مفردات لا يفهمها القارئ العربي مع أنها مفردات عربية. بعبارة أخرى، هناك مفردات عربية موجودة في اللغة الفارسية لكن لها معان أخرى غير معانيها في العربية؛ أي أن الإيرانيين أخذوا هذه المفردات العربية واستخدموها بعيداً عن المعاني العربية الدارجة المعروفة. ومن أجل التغلب على هذه المشكلة، فالحل الأمثل هو وضع الترجمة جانباً لفترة، ثم العودة إليها، ومراجعتها لغوياً وأدبيا والعمل على تنقيحها. وهذا الأمر يشمل المصطلحات والأمثال الشعبية. على كل حال، إن الموضوع معقد في مجمله، وميزان التغلب على هذا التعقيد يبين ميزان احترافية المترجم".

 

 

- نافذة إضافيَّة:

ماذا بخصوص لغة كالألمانيَّة؟ بهذا الصدد يقول المترجم السوري سوار الملّا الذي يترجم عن اللغة الألمانيَّة: "أن تقرأ بلغتين يعني أنَّك تمتلك ثقافتين، وهذا أمرٌ ممتع بقدر ما هو مفيد. بالإضافة إلى ذلك ثمة أشياء لا يمكنك قط قراءتها إن لم تكن تجيد أكثر من لغة، كما أن الترجمات وحدها قد لا تكفي في معظم الأحيان لفهم نصٍّ معيّن أو حتى للتعرّف إلى جماليّته. إجادة لغتين تسهّل عليك مهمة التأكّد من معلومات تعرفها أو تود معرفتها، كما إنها مفتاحٌ سحري لفهم العالم بصورة أوضح وأكثر دقّة، إنها نافذة إضافية تُبيِّن لك جانباً مستتراً من العالم من حولك. ثمة كتبٌ كثيرة، لا تكاد تحصى، ليست مترجمةً رغم أنها مهمّة وتتمتّع بجماليّة خاصّة، لكنها لسوء الحظِ لم تُترجَم، وهذه الكتب تحديداً لن يقرأها سوى ذاك الذي يتقن أكثر من لغة ويعرف أكثر من ثقافة".

 

 

- اللغات بناءات هندسيَّة:

بينما تقول الشاعرة المصرية ودارسة اللغويَّات والأنثروبولوجيا اللغويَّة أمل إدريس هارون: "مؤخراً عرفت أن التحدث بأكثر من لغة /لكنة/ لهجة/ ليست الاستثناء الإنساني بقدر ما كان عليه الوضع في مراحل الإنسانية منذ وقت مبكر، المدهش أن تعدد التواصل بلغات متعددة يسود بين مجتمعات تبدو أقل تعقيداً من منظور العلم، ما أعلم عنه بشكل مؤكد هي مجتمعات قبلية أصلية في أفريقيا أو أستراليا أو حتى في أميركا الشمالية، يبدو الأمر يتعلق بالحراك والتبادل والإثراء المتبادل والاشتباك مع جيران الإنسانية، اللغة الأم واللغة الوطنية، مفهوم جديد كمسمى في لحظة اختراع الحدود القومية في القرن التاسع عشر، اختراع أتى معه السمت الوطني والمطبخ الوطني والتفوق الوطني، لا ينفي هذا خصوصية لغة الأم، بالمعنى الحرفي للكلمة التي استعارتها الأيديولوجية القومية وليس العكس، وأعني بها اللغة الأولى التي نتعاطى بها مع العالم، ومواضيع الحب والحنان والحكي والأغاني والحزن والأمومة والمحيط الأنثوي". تتابع: "إذن نشأت في اللغة الواحدة فيما كنت أتصور، وعاء مشترك مع كل من كنت أعرفهم، اللغة العربية، لم يكن هناك من يضع شمولية وسطوة هذه اللغة الجليلة محل الشك، كانت مسلمة وأمر بديهي، لاحقاً فهمت أن هناك لغات عربية كثيرة وتمركزات أكبر لها تاريخياً وجغرافياً، كانت هي لغة المدرسة والعلم والوعي والنظرة للعالم، لغة الأم والثقافة والدين، الجميع متشابه، ومتناغم في تعاطيه مع اللغة وشفراتها المجتمعية، الكل متشابه، المركزية التي ليست محلاً لأي شك، في مطلع المراهقة بالمرحلة الإعدادية خطوت نحو عالم آخر ، لغة أخرى ومنطق آخر للحروف والتعاطي والسرد والخط، ثم لغة ثالثة في الثانوية، كانت اللغة الأخرى تمثُلاً للاختلاف المغوي والمغري، فضاءً من الحرية المنفلت، وفقاعة للفردية والجمال الغرائبي، كانت تمثلاً لحياة سرية منفصلة عن الجميع الذي يتشارك كل شيء بالعربية، تخصصت في الفرنسية بالجامعة والآن بعد كل هذه السنوات، هي لغة التعامل والدرس والفكر، بينما العربية تظل لغة الأم والحزن والعاطفة، أحرّر الفكر بالفرنسية وأحياناً بالإنكليزية، أشعر بالعربية، أسبُّ بالعربية! أحزن بالعربية، أكتب الشعر بالعربية، أترجم الشعر إلى العربية".

وعن تجربتها تقول: "كنت محظوظة لدراسة اللغويات والأنثروبولوجيا اللغوية، فككت هذه الدراسة اللغات وطرحتها تحت المجهر، كل اللغات بناءات هندسية متقنة ورائعة، أوعية شديدة التركيب والتعقيد من الأصوات المتناغمة والفكر والنظرة للعالم والعمق الحضاري لمحيط ثقافي، كيف يمكننا ترجمة أن الحيوانات هي أشقاء للبشر وأولاد عمومة في كلمة واحدة مختصرة كما تفعل لغة قبيلة أمازونية على وشك الانقراض؟ كيف نفهم بشكل دقيق أن الغابات تفكر وتشعر ولها روح في كلمة واحدة كما تطرحها لغة أخرى بالأمازون في رؤيتها للعالم، كيف نترجم كلمة بركة العربية للإنكليزية بلا إخلال لحمولاتها المعقدة؟ كيف نترجم التراتبية الاجتماعية شديدة التعقيد في لغات مثل اليابانية أو في لغات غينيا الجديدة البدائية أو أن اختلاف النغمة يغيّر من معنى الكلمة نفسها عند الصينيين، كيف لا نعجب بوجود جنس ثالث محايد في لغات مثل الألمانية والروسية، كيف نفهم غياب الجنس للأشياء في الإنكليزية؟ كيف نترجم أنساق اللغات المختلفة دون ولوج عالمها المتسع المبهر المبتكر؟ كيف نلغي الحدود المتخيلة التي ننغلق فيها ونتخيل سمونا المفترض، بينما كل صياغات الأفعال لا وجود لها في الواقع، اللغات ملاعب للمتعة الصافية والتأمل الملهم في ابتكارية الإنسان، الابتكارية والإبداع بلا حقوق فكرية، بل إتاحتهم لجميع البشر بمساواة وعدل بينما نحتار الانغلاق على معين واحد ونتصور السمو والعلو حيث لا سموّ وعلوّ".

تضيف "أمل": "لا أعرف تحديد كل هذا المسار في تجربتي، أو حجم الإضافة المستمرة للتجربة، ربما الرغبة المتزايدة في تجاوز صعوبات التعلم في اللغات لفهم نسقها وألعابها الهندسية في التركيب والطرح، كل اللغات بها هذه المناطق شديدة الجمال والتعقيد والاستحالة في الترجمة الدقيقة، كل اللغات فيها تلك الألعاب للمجاز والتورية والطباق والتصريع، كل اللغات فضاء بِكر للدهشة والانفتاح على الإنسانية بمعناها الأكبر، وفي كل لغة شعر وشعراء وحكي وغناء، كنوز ومساحات من التجارب المكثفة، كل اللغات أصوات تتناقل وتتجدد وتتطور وتعيد إنتاج نفسها، حيوات مذهلة".

وعن أثر كل هذا تتابع: "البساطة المطلقة والتخلي عن الكبر، التخلي عن الترهّلات اللغوية التي تبدو مواكبة لحركة الاستقرار في لغة واحدة، الكتابة بتمثل روح السائح بين القبائل والأراضي، لغة بسيطة ومكثفة، تسعى للبحث عن معنى أشمل وأكبر من الهم المعتاد، والبحث عن تمازج بين اللغات في بعض الأحيان، تمازج ينتصر للفكرة وللجمال، النصوص يجب أن تكون راحلة بين عوالم عدة، ليست مستقرة في وعاء واحد، وهذا يجبرنا على التحرك والقراءة والتخلص من ترهات التميز والعنصرية اللاواقعية، للانفتاح على كل التجربة الإنسانية".

-          اللغةُ كائناً رقيقاً:

يذهب المترجم والشاعر التونسي "أشرف القرقنّي" إلى مكانٍ أشدّ تعقيداً حول الموضوع فيقول: "يمكنك أن تقول "أمّي" بكلّ اللّغات الممكنة. سوف يؤدّي ذلك وظيفته إخباراً أو نداءً أو غير ذلك. لكن، توقّف قليلاً. قلها بلغتك الأمّ. فقط، حينئذ يمكنك أن تصيب الهدف في عينه: استحضارُها مكتملةً ومنسابة مع صور من الذّكرى تُستعادُ في داخلك بقوّةِ ما هو كائنٌ حقّا. أعتقد أنّ اللّغة الأمّ تشبه بيت الطّفولة لدى غاستون باشلار. إنّه المكان/ الكيانُ. وهو محرّك الأمكنة الأخرى التي نمضي إليها لاحقاً. من عدسته الباطنيّة نطلّ على العالم ونختبره. لهذا يقول بعضهم إنّ اللّغة الأمّ نشعر بها ونحسّ بها (ويحلو لي أن أقول فيها بما أنّها تحتوي حضورنا في العالم على نحوٍ مّا). بينما اللغات الأخرى التي نتملّكها ونكتب بها حتّى، فنحن نفكّر بها وندرك بها مفاهيم ومعطيات وتصوّرات".

يتابع أشرف: "تتنازع اللّغات في ذهن متكلّمها حسب الجاحظ. وأنا لا أخالفه تماماً. لستُ أملك تصوّراً دقيقاً لكيفيّة اشتغال الذّهن البشريّ في شتّى تفصيلاته، بما أنّ ذلك بصدد الدّراسة والاكتشاف المتجدّدين. لكنّني أكادُ أكون متيقّناً أنّه لا فصل بين هذا العرفان وبين المخيّلة وبالتّالي الذّاكرة. تقتحم اللّغات الأخرى التي يكتب بها الكاتب ويتداولها ذهنه. تخلق مساحات أخرى وتصوّرات كامنةً فيها، كانت قد اختزنتها طيلة تطوّرها الحيويّ في ثقافة مّا. وإذ تفعل ذلك تثري مخيّلتنا. لكنّنا لا نتعاطى مع الذّاكرة إلاّ من خلال المخيّلة. وعلى هذا الأساس يتبدّل ما كنّا قد عشناه سلفاً. يتغيّر على أنحاء مختلفة تختلف في الحدّة والشّكل. نراه من خلال حجبٍ شفّافة لكنّها تبدّل أبعاده وبالتالي تساهم في تغيير دلالاته. وإذا ما تغيّرت ذاكرتنا، فإنّ حاضرنا يتغيّر بدوره. الكتّاب الذين يقيمون في الخارج. وتكون لغة الاستعمال لديهم هي اللّغة المكتسبة، قد يخفّ حجم التّوتّر لديهم، بما أنّهم يجذّرون -وعلى نحو مستمرّ -انتماءهم إلى اللّغة الجديدة. اللّغة بدورها كائنٌ حيّ. وأن تتكلّم وتكتب خاصّة بأكثر من واحدة يعني أن يتنازع كيانك حبّ أكثر من امرأة ورجل في نفس الوقت".

- اللغة بيتُ الوجود:

الكاتبة التونسية "عفاف خليفي" التي تكتب وتقرأ بلغتين (الفرنسيّة والعربيَّة) تتحدّث عن هذا الموضوع قائلة: "اللّغة بيت الوجود"، من أجل ذلك كلّ تداخل بين لسانين أو بُطلان أحدهما هو نتاج سياسي استعماري، إمّا باحتلال بلاد ودخولٍ على أهلها أو نقل من ديارهم أو اختلاطهم مع رهط أخر، فإمّا أن تقاوم المجموعة بالحفاظ على كينونتها أو تضعف خواطرها ومضمونها وعلومها، والتّاريخ جليّ، لن يسعنا حصر كلّ الفظاعات هنا والمتمثّلة في محاولات إبادة اللغات، وبالتالي حرمان مجموعة بشريّة من أصالة وجودها". متابعةً: "دعنا نتحدّث في أفق أكثر انفتاحاً و تفاعلاً، اللّغة والوجود المنفتح، هذا لن يتحقّق سوى في الشّعر والأدب والأغاني والفلسفة، التعابير الثقافية تحمل الصفاء وقوّة الرّوح، فاللّغات المختلفة تقول الوجود المتنوّع. إنّ اللغة هنا تجلب الغير إلى مقربة منّي بل قل إلى ذواتي. علينا أن نقرأ ونتكلّم ونتقن هذه اللّغات الغيرية كي ننتمي إلى الكلّي الإنساني بالمعنى الأنطولوجي والقيمي، لكن التجربة المعيشة واليومي والبيروقراطية، ونحن في لقائنا مع ذواتنا نسيء لأنفسنا - في أوطاننا- نعبّر عن فقر داخليّ مريع، وجه من الاغتراب، ماذا يمكن أن نسمّي معيّة لغات عدّة في لسان واحد؟ (شتات من المصطلحات الناقصة والتعابير التي لا تشبه أنفسنا من خلال ممارسة لغته، نحن نتشبّه بالغير دون معرفة به، هذا ما يعكس علاقتنا الباتولوجية بالآخر). أعتقد أنّ الرّياضيات هي الوضع الأهم للغة فعلاً، هي تفتحنا على المعقولية الصحيحة والوجود الصميم كالشّعر تماماً". 

- معرفة الآخر ولغة الشعور:

في حالة اللغة الكرديَّة يختلف الواقع قليلاً، فمن لغةٍ كانت مقموعة من السلطات الثقافية والسياسية السوريَّة إلى لغةً عادت إلى الوجود، وأغلب الكتّاب الكرد في سورية يتقنون الكتابة والقراءة بلغتين (العربيَّة والكرديَّة)، وبهذا الصدد يقول المترجم والشاعر الكردي السوري "خوشمان قادو"، الذي صدر له ديوان باللغة العربيَّة وآخر باللغة الكرديَّة ويعمل في مجال الترجمة من اللغة العربيَّة إلى الكرديَّة إنّ: "اللغة عبارة عن هوية لأنها تولد معي، وأنا شخصيَّاً مثل غيري من الكرد لم أمارس حقي الكامل في تعلّم لغتي الأمّ، فكانت لغةً شعوريَّة أكثر منها فكريَّة، أمّا اللغة العربيَّة فهي لغتي الثقافية والمعرفية وكان لها الحظ الأوفر من شخصيتي"، وعن الكتابة بأكثر من لغة يتابع قادو قائلاً : "الأمر مربك ومرهق في الآن نفسه، إذ تجد نفسك أسير شخصيتين مختلفتين تماماً، لكل لغة ثقافة ومدلولات خاصّة بها، لذا تكون آلية التفكير خاضعة للغة/الشخصية التي ستكتب بها"، وعن تجربته الشخصية في الكتابة بلغتين مختلفتين يقول: "اكتشفت أنّ ثمة ما هو خارج الإطار اللغوي البحت، ثمة حالة من التواصل تمهّد لمعرفة الآخر لا من حيث وجوده كقومية وحسب، بل من حيث الفكر والمعرفة والثقافة والمشاعر، وهذا ما يؤسّس ويؤصّل جسور التواصل بين كل الثقافات".

 

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.