}

الموتى يتكلّمونَ هباءً

جوان تتر 26 يناير 2017
شعر الموتى يتكلّمونَ هباءً
لوحة للفنان المغربي صلاح بنجكان

أَمْقُتُ البُيوتَ الكَبيرَة، لَا بُدَّ وَأن تَكونَ صَغيرَةً رَحيمَةً بالجُزيئات المُتَطَايرَة، هُنا رَذَاذ سُعَالِ العَجوز، هُنَاكَ -قَريباً- الطِّفلُ نَسيَ مَا كَانَ يَجِبُ أنْ يَرتَدي لِيَقيَ حُنجُرَته البردَ الذي في الخَارج، حَبْلُ الغَسيل لَا بُدَّ وَأن يَكونَ قَصيراً يَكفي مَلابِسَ شَخصٍ وَحيد، السَّريرَ ضيّقاً بَحيثُ يَتَّسِعُ لِجُثَّة نَحيلٍ أو رُبَّمَا هَيئَةَ آدَميٍّ شِبه حَيّ...

هَل هَذَا كُلُّ شَيء؟ لا.

 عَلَى البُيوتِ أن تَكونَ ضَاحِكَةً وَشَبِقَة، أنْ تُلَمْلِمَ كُل ما هو فائضٌ وَتَبلعَه في مكانٍ ما غَير مرئيّ،

عَلى الثلجِ أن يَخْجَلَ من الشبابيكِ الصَّغيرة آَنَ تَسَاقُطِه نُدَفَاً هَادئةً كَودَاعِ طِفل.

 

*

 

بِعَينٍ واحدة أترقّبُ المارّة، يهتفون لبعضهم غمغماتٍ لا أفهمها،

 "ثمَّ لعلَّ الموتى يتكلمون هباءً"، أُسِرُّ لنفسي مبتسماً!

دهاءٌ أن أسكب زيت قلي البطاطس من شاهقٍ على رؤوسهم الفارغة الآن، أو ربما هيَ دناءة، "الدنيء رجلٌ يبيع"، أعترف للسرير الممدّد في ضوء شمسِ الشتاء، فارِدَاً روحَهُ للنائمة النَّحيلة، لَقد تَعِبَت ليلة البارحة وهي تشهقُ عبرَ السكايب برفقةِ اللعينِ الألمانيّ!، وَعَدَها ببيتٍ على شاطئ، أو لعلَّ الكابوس بِشأن الموتى كَدَّر سلامها الداخليّ لذا شهقت مرَّاتٍ ومرَّات وتقولُ: "عمتَ مساءً يا سيّد الغَيبِ!"، تَكَلَّمَت وَكَأنني طاولةٌ متهرّئة أو شاحن هاتفٍ جوَّال عَاري الأسلاك.

غارقاً في تلاوة الأبراج لفؤادي الذي لا يسمعُ غير صوتي الخَفيض، أُخَفِّفُ عن ذاتي بأنّ الحرب ستنتهي طَالَما شَهقت النَّحيلةُ وانقطع الاتِّصال، دلالاتٌ مَا من الغيبِ غيرُ مترابطة سَتُحقِّقُ النبوءَةَ حتماً في الأبراج السخيفة..

العجوزُ جارتُنا بَكَت وَلَدَها العشرينيّ - إثرَ صَعقةٍ ماتَ -، أُكرِّرُ العبارة القديمة: كُلُّنا سَنُصْعَقُ يا جدَّة، كُلُّنا سَنُصْعَقُ وَنَهوي من شَاهقٍ، الكلابُ بنُباحِهَا الصباحيّ أغْنَتِ الرؤى وازدادَ اليقين!

على الرفِّ الموازي للسرير، ثمة معجون أسنان لا تستخدمهُ النَّحيلةُ ولستُ مِمَّن يَتَبَاهونَ بنصَاعة أسنانهم! ربما هي لشبح الميّت في الكابوس، أقنعتُ ذاتي كي أبتعدَ عن الرعب، لا وقتَ للرعب هذا الصباح،

أفكِّرُ، البردُ لا شكَّ والتهم أطراف اللاجئين في المخيَّمات البعيدة كمثلِ مُعسكراتٍ تروّض الإثمَ، أنا جالسٌ على أريكةٍ مريحة وجاري الحطَّاب يلعن حظَّه، إني أسمعه يلعن ويترك زوجته لأشباحِ عشَّاقها وينامُ كل ليلة كأنَّه جُثَّة!

 

*

 

على الرغم من أنّني أرتجتُ الأبوابَ والنوافذ، من أنّ الغد يمدّ لسانه مستفزِّاً ذاتي الوَهِنَة، الذكرياتُ تمكّنت الهروبَ واختفت في مكانٍ ما داخل المنزل، دميتي الصغيرة تبتسمُ لارتباكي وحَيرتي، الكتبُ كذلكَ سَخِرَت والأقلامُ القديمةُ التي لا تدوِّنُ سوى الفراغَ ناصعاً.

هل أوقِظُ الموتى الذين تناسوا ذكرياتهم داخلَ غرفِ المنزل العديدةِ؟ أنقذوني، أهتفُ من قعرِ حنجرتي، أستنطِقُ المرآة القديمة التي خَبِرَت وجوهاً في الماضي، الملابسُ الرثّة التي ابتعتها ذات يومٍ من حانوت ثملٍ يبيعُ الرجالَ ثياب النساءِ بَكَتْ، الصورةُ القديمةُ لمقاتلٍ فرّت، غائباً عن كلِّ شيء، أصوتُ كضفدعٍ دُعِسَ للتوّ، أقبضُ على الذكرياتِ مُختالَةً برنينها كرنينِ قَرعٍ في الكنيسَةِ أيَّامَ الآحاد.

 

*

 

على الرغم من قُرب الأشياء وليونة ملمسها، يشعر المرءُ على الضدّ من ذلك،

 إذن، علينا أن نرتّب الأسرَّة عندما نستيقظ كي نشعر بخشونة النوم ومَكره، كما أنّ الوقت لا يسمح لصفاقاتٍ أخرى، كأن أنهر الكلب المربوط بعمود الإسمنت أو أتشاجرَ مع باعة البيرة بدعوى انتهاء صلاحيتها للبشر، كلُّ شيء لا بدّ أن يكونَ مرتّباً حدّ القرف.

**

ماذا لو انهارت قطعة الحديد المُثبتة فوق رأسي؟

حتماً سَتُغرَزُ في صدري العاري، ولكن، أنا وحيدٌ في المنزل الذي لم يَرَ النور مُذ تهافتت ذكريات الوافدين إليه في الأرجاء الرخاميَّة، ليسَ مهمّاً، غير أنّ مشهد الدم وهو يسيلُ من فميَ نصف المفتوح سيغدو ذكرى باهتة، نقاط الدم على جدران الشرفة ستكونُ علامةً فوتوغرافيَّة، سيكتبون عني في الصحف:

غادر مواطنٌ آخر وما من تفجيرٍ في المدينة!

سأبقى ممدَّداً حتّى الصباح، وربمّا المساء، إلى أن يكتشفوا أمر موتي، ستصلُ رسائلُ كثيرة إلى علبة الوارد وأجملها تلك التي تقول:

"أوّاهُ، لم يرَ أيلولَ هذا العام... يا للمسكين"...

 

*

 

شاعرٌ مات، يصرخُ المؤذِّن الذي "دوّخنا" منذ بداية توافدِ الرُّسُل إلى الأرض، شاعر ماتَ ولم ينس قصيدته التي مزّقها على مرأى من الضباب، كانَ سكّيراً ويتسوّلُ الكلمات، تقولُ والدته التي تبرّأت منه، يبكي كالأطفال ويقهقهُ كالممسوس، هذا فقط كانَ صنيعهُ، شاعرٌ ماتَ...شاعرٌ مات.

 

*

 

الهواءُ كان نظيفاً في القرية، وكذلكَ الهُراءُ الموزّع في الأنحاء، كانَ أبي يمسكُ عنق الزجاجة وكأنّه يتهيَّأ للذبح، كانَ لوحده داخل السَّرد، يخبّئ لنا أيَّاماً قصيَّةً في البُعدِ، كنتُ الصغير الوقح،

ما زلتُ حتّى الآن أنام دون أن أهتف: تصبحونَ على خير.

 

*شاعر من سورية

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.