}

في زمن كورونا.. "اليوميات" لمقاومة العزلة

صدام الزيدي صدام الزيدي 28 أبريل 2020
هنا/الآن في زمن كورونا.. "اليوميات" لمقاومة العزلة
من اليمين: حاتم الصكر، سعيد الباز، صالح لبريني
بينما يستمر العالم في الحجر المنزلي، وسط حالة من الخوف والقلق، ومتابعة مستمرة لجديد الإحصاءات والأخبار، على نحو غير مسبوق، خرجت كثير من "اليوميات" (الكتابة السير ذاتية) إلى العلن، مستفيدة من فضاء التواصل الاجتماعي، وأخرى تُنشر في مواقع ثقافية وأدبية إلكترونية.
ثمة من الأدباء والكتاب من اعتاد كتابة يومياته بشكل منتظم، محتفظاً بما يدونه لنفسه، لكن، في ظروف العزل وملازمة البيوت، شقّت كثير من "يوميات كورونا" طريقها إلى الفضاء التفاعلي، وهنا تبرز تساؤلات عن هذا النوع من النصوص الإبداعية (كذاكرة سردية)، وأثره على الإبداع؟ وكيف هي يوميات الأدباء والكتاب العرب، الآن، في لحظة أشبه بعاصفة كونيّة؟
يأتي ذلك، بينما يظل "أدب اليوميات" عند العرب، في المجمل، فعلاً محدوداً، ولا يمتلك أصحابه الشجاعة والجرأة للبوح بتفاصيل عن أفراحهم وأحزانهم، نجاحاتهم وإخفاقاتهم، آمالهم ومخاوفهم، بعكس ما أنجزته المدونة الغربية بهذا الصدد.

حاتم الصكر (كاتب وناقد عراقي/ أميركا):
يوميات الزمن الفائض!
دخلت اليوميات في تصنيفات الكتابة السير ذاتية، لا سيما بعد انفتاح الأجناس الأدبية بتأثير تيارات ما بعد الحداثة، والنزعة الشعبوية، على وقع تداولية وسائط الاتصال الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، وشيوع الرسائل النصية في الهواتف. هي ليست بالضرورة جزءاً (من الذاكرة السردية)، بل ينالها التعدد النوعي الذي يسم السيرة الذاتية. فهي تجمع السرد والوثيقة والمذكرات والرأي. وتؤرّخ للحظة كتابتها. هذا التنازع الظرْفي يمثل إشكالاً في تلقيها، حيث تتردد القراءة بين زمن المكتوب، وزمن قراءته، وزمن ثالث يقطعهما هو زمن حدوث المكتوب كواقعة، أو انطباع.
ولاشك أن كتابتها إبداع ذاتي. تنشطه المدارس في الغرب لدى الطلبة مبكراً؛ لتعويدهم على رصد ما حولهم، واكتساب إمكانية تعبيرية تبدأ من ذواتهم.
في ثقافتنا السائدة، يصيب اليوميات والمذكرات ما يصيب الأم الإجناسية، أي السيرة الذاتية، فتتأثر بما تتأثر به من عوامل البوح المحدود، والحذر من المحظورات، وما يجريه الكتّاب من

تعديلات وإضافات وحذف لتفادي تلك الموانع، ولتنزيه الذات من الفشل، أو الخطأ، أو النكوص في الحياة. وهو ما لا يحصل في يوميات وسير ومذكرات الكتّاب الغربيين في فضاء حريتهم الاجتماعية والسياسية.
لذا ندرت اليوميات عندنا، وإنْ وجدت فلا تدخل في دراسة الشخصية، أو استنتاج مكوّناتها. سأمثل بيوميات الفنان العراقي جواد سليم (تأملات روحي)، التي نشرها جبرا إبراهيم جبرا، وهي مكتوبة في فترات زمنية متفاوتة في أماكن متعددة، وفيها لمحات شعرية، وهواجس ذاتية. لكنني لم أجد الدارسين في النقد التشكيلي، أو السيرة، قد أولوها ما تستحق.
قمت مؤخراً بكتابة يوميات مستفيضة في وقت (الكورونا) الفائض. نشرت أجزاء منها في (الجديد)، و(الشارقة الثقافية)، وفي صفحتي على "فيسبوك"، ولم أنشر بعضاً آخر منها. لقد أدركت هيمنة الخوف والترقب فيها، والتشاؤم (كما وصف الأهل والأصدقاء الذين قرأوها). كانت أعداد الموتى بالفايروس والأخبار الناعقة في الفضائيات ليل نهار أشبه بموسيقى تصويرية جنائزية في خلفيّة المكتوب. وأحسب أنها تمثيل فني تراقب فيه الصياغة عفوية الشعور والإحساس. لذا كنت موزعاً بين الهرب من المباشرة التي في أغلب اليوميات العادية، والتعبير بما يرقى بالتوقعات والمخاوف إلى نص من اليوميات ومزاياها الجمالية الممكنة.

سعيد الباز (شاعر ومترجم مغربي):
لتبديد الضجر...
لم يكن الأدب في يوم من الأيام معزولاً عن واقعه، أو غير متفاعل مع محيطه. وعلى هذا الأساس برزت في الآونة الأخيرة كتابات أدبية تناولت موضوع وباء كورونا، وما ارتبط به من معاناة إنسانية شكلت صدمة قوية في عصرنا الحديث، وأثارت أسئلة عن راهن الإنسان ومستقبله، وتقدير حجم خطورته على البشرية جمعاء. إلّا أنّ موضوع الحجر الصحي طغى على غيره من الموضوعات المرتبطة بهذا الوباء، حيث كانت مناسبة لكثير من الكاتبات والكتاب ليستنطقوا ذواتهم، من خلال تجربتهم الخاصة، ويسائلون واقعهم ويتأملونه لحظة إثر لحظة، ويسجلون بالتالي جلّ أطوار هذا الحجر الصحي وتفاصيله اليومية، ما جعلها في الغالب تصاغ على شكل يوميات، وفي حالات أخرى نصوصاً شعرية، أو قصصية، غايتها أن تواكب هذا الحجر الصحي، في أهم أحداثه، وظروفه العامة والخاصة.
بالنسبة إليّ، راودتني الرغبة في كتابة يوميات هذا الحجر الصحي، لكنني عايشت وباء كورونا بشكل مبكر منذ الأيام الأولى التي ظهر فجأة الحديث عن اندلاع شرارته الأولى في مدينة ووهان في مقاطعة هوبي الصينية. بحكم أنّ ابني طالب يدرس في الصين، حيث أخبرني وقتها عن طريق زملائه بخطورة ما يقع هناك. هذه الأجواء عشتها قبل أن يهلّ علينا هذا الوباء في المغرب، ونجد أنفسنا في الحجر الصحي. بالنسبة إليّ، لم أجد في شكل اليوميات، خلال هذه العزلة المفروضة، الوسيلة الناجعة للكتابة، أو حتى في تأمّل موضوع العزلة. تابعت بعض الأصدقاء والصديقات من الكتاب والكاتبات الذين نجحوا في كتابة نصوص مثيرة وجذابة... لكن كتابات أخرى سرعان ما توقفت لعدة أسباب، أهمها في نظري أنّ اليوميات بوصفها كتابة تتابع اليومي وتسجله في مسار خطيّ تتابعيّ تغذيه الأحداث بأنواعها المختلفة، سواء منها

الأحداث المهمة والتافهة أيضاً. الحال هنا أنّ الحجر الصحيّ خالٍ تماماً من الأحداث، بل إنّ خاصيته المميزة أنّه روتينيّ ومتماثل في لحظاته الثقيلة. تتبعت مبادرات أخرى قام بها بعض الكتاب الأصدقاء الذين عمدوا إلى تسجيل فيديوهات مصورة، وبثها عبر "فيسبوك"، يتناولون فيها حياتهم اليومية، مع تعاليق عفوية عن مقامهم القاهر في الحجر الصحي، مثل الشاعر والإعلامي اللبناني، جوزيف عيساوي، لا تخلو من بعض اللماحة إلى أوضاعنا بصفة عامة ما بين ما قبل الكورونا، وأثناءها، واستشراف ما بعد الكورونا المجهول. أنا اخترت شكلا آخر في تصريف وطأة هذا الحجر الصحيّ، من خلال "فيسبوك" تحت عنوان "من أجل تبديد الضجر الكوروني"، وهو عبارة عن حلقات متنوعة، ومختارات من نصوص بارزة لشعراء، ولوحات تشكيلية، شكلت تحولاً كبيراً في الفن التشكيلي، وصور نادرة لكتاب عرب وغير عرب، وهذا الشكل، وإن غلب عليه الحس البيداغوجي، فهو يلبي بالنسبة إليّ اهتماماتي الشعرية والتشكيلية، إضافة إلى التوثيق الثقافي والأدبي.

صالح لبريني (شاعر وكاتب مغربي):
جزء من مقاومة العزلة...
قبل ظهور الكتابة كان الإنسان، منذ وجوده، يدوّن سيرة يومه وحياته، إما عبارة عن رسوم تشكّل ذاكرة له  في الكهوف، وهذا يعني أن رغبة الإنسان في دمْغ وجوده بأشكال التعبير كانت حاضرة، لكن مع بداية التدوين، وبمجرد الانتقال من الميزة الشفاهية إلى ميزة الكتابة، شرع

الإنسان في رسم ملامح كينونته باللغة، فاختار كتابة يومياته، أي حياته التي يعيشها ويحياها. ألا يمكن اعتبار ما كتبه الجاحظ يومياته محشوة بيوميات الناس؟ هذا مجرد سؤال يبقى مفتوحاً على تآويل كثيرة. وهكذا استمر الإنسان في كتابة اليوميات حتى تحوّل إلى نمط في الكتابة، عبرها، يعبّر كاتبها عما يخالجه من مشاعر وأفكار تجاه ذاته وحياته، ويحوّلها إلى نص ناطق بلسانه. والأدب العربي لا يخلو من هذا النمط، إذ هناك العديد من اليوميات التي غدتْ كتبا ذات قيمة معرفية وإنسانية، وعلى رأس هذه الكتابات "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، وغيرها.
بالنسبة إلي، صراحة، لم تكن تعنيني كتابة اليوميات، في بداياتي الأولى، لكن الوسائط الاجتماعية، منذ انخراطي فيها منذ ثماني سنوات، شكّلت لي منعطفاً حاسماً، بل حافزاً لتدوين يومياتي، وهذا ما يتبين منذ الاعتزال الصحي. فعلى الأقل، الناس والكتاب التفتوا إلى كتابة يومياتهم، وذلك للقبض على هذه الحياة المهدّدة بالفناء في أي لحظة. لذا نجد الإنسان في حالة مقاومة لهذا الاعتزال الصحي، بكتابة اليوميات التي تعتبر العلبة السوداء، أو الصندوق السري للإنسان.

عبدالرحيم صايل (شاعر مغربي):
العزلة تُفرِغُ الصناديق
كثيراً ما فضلت أن أقرأ مذكرات الأدباء، الشعراء منهم تحديداً، على قراءة قصائدهم.فمنها كنت أنفذ إلى أرواحهم، وأصل إلى البحيرة، حيث كانوا يصطادون منها أسماكهم الخيالية. لم أقرأ الكثير منها، لأني لم أحصل على الكثير منها. المذكرات، أو اليوميات (تنفلت أيام كثيرة من اليوميات أثناء كتابتها)، هي المتن. القصيدة، وإن كانت لا تظهر بالعين المجردة فيها، لكنها توجد تحت الكلمات، أو توجد إشارة إليها عبر كلمة، عبر جملة، عبر فكرة، على السطح. لماذا كنت أفضل ذلك؟ صراحة، لأني ربما كنت أجيب نفسي، أني بلا يوميات. بلا طقوس، ووقتي كان مثل من يمر علي مرور الكرام. سأعرف، لاحقاً، أن اليوميات ليست بالضرورة ما يحدث خارج جسدك، أو ما قد تفعله. لاحقاً عرفت أن اليوميات ما هي في الحقيقة سوى مشاعر مخلوطة بالكلمات، ما هي في الحقيقة سوى قصائد ملتوية على نفسها.
أعجبني عنوان لسيرة ذاتية للشاعر الأميركي، دونالد هول، "إفراغ الصناديق" كان العنوان. السيرة أيضاً، يوميات، لكنها تتسم بالبعد. وما يميز اليوميات التي يمليها فايروس كورونا حالياً أنها مختلفة. تعج بالقرب. إنها يوميات تشبه تقارير حرب من مراسلين. إنها صادمة، ساحرة، وساخرة، ومثل ما يشبه الاحتضار. إنها خائفة بعض الشيء، وخائفة جداً. إنها يوميات ترتعش

مثل نبتات على حافة طريق وعر. يوميات مجتزأة من يوم واحد كبير اسمه الصمت. خطورة التحدث بالفم عجلت باللجوء إلى اليد. هذه الفم البكماء القديمة التي كانت تكتفي بالتصفيق عند سماع كلمة جيدة، وبالتصفير بمساعدة الفم عند الاستهجان.
اكتشفت، خلال هذه العزلة، أني كنت من كبار الأغبياء قبل الكورونا. ففمي الثرثار كان الفتنة التي لم أحذرها. الفتنة التي كانت تمنعني من الانتباه إلى يدي وقدرتها الرهيبة على التحدث. جاءت هذه العزلة، وجاءت معها كمامة للفم، والكثير من الكلمات والصابون لليد.
قبل كورونا، كان اليوم طويلاً، وكان عليَّ، لغباوتي، كي أهزمه، أن أمعن في القهوة والتبغ وأحلام اليقظة، والتحدث، وحمل كتاب في جيبي لحفظ التوازن النفسي. الكتابة كنت أؤجلها بأن غداً لناظره قريب. بعد كورونا، صار كل يوم يعني لي الكثير، وصرت معه خائفاً أن ينقضي. وجدت نفسي محاطاً بنفسي، محاطاً بيدي. لأول مرة ألمس عمري. ظلي الذي كان دائم التيه في الشوارع، ها هو الآن، يتحول إلى كائن محترم، يجلس على الكرسي لساعات من دون أن يحتاج إلى كثير من الشمس.
الاستيقاظ، التمطي، المحاولة الفاشلة لتذكر الحلم، أخذ دش بارد، ارتداء الملابس، تناول الفطور، ثم التدخين، حمل كتاب، الندم على عدم القراءة باكرا، التدخين مرة أخرى، ثم الخروج إلى الخيال. قصيدة بخصوص أمي، قصيدة عن عصفور يزورني، قصيدة عن القمر الذي تغيرت أحواله، قصيدة عن الموت القديم الذي يوجد في الحجر الصحي، قصيدة إلى قلبي، قصيدة بانورامية عن كل شيء بمزج الفلسفة مع الرعد. قصائد صغيرة عن الهوائي القديم الذي يعاني من الجُدري، وعن العطر الذي يشعر بالاختناق في قنينته... من فكرة لفكرة، أتجول في التاريخ. مرة في العصر الأدبي الباكي أيام الأمويين. مرة كدت أفقد صوابي مع السرياليين، أسافر إلى ألمانيا، وألتقي ريلكه، وستيفان جورج. أعود إلى أبو القاسم الشابي، وأسمعه يقرأ قصيدة يهاجم فيها الشعب. أتذكر مقطعه الذي حملته الأذرع في الربيع العربي. أسافر إلى الولايات المتحدة. كان شعرهم الأول يبعث على الفيكتورية والترهل. أكمل وأعرف كيف تطور. دائماً هنالك شعراء يمهدون الطريق لتنهض اللغة، لتنهض الحياة. أعود إلى غرفتي، أحضر وجبة خفيفة، ومشروباً دافئاً كي يجرف من حلقي أي فيروس يمكنه أن يفكر في اللجوء إلى رئتي المغامرة. أدخن وأقول: ربما، الفيروس يفضل رئات المدخنين، لأنه يشعر بالدفء داخلها. أضحك. هذا حدث مهم. أن أضحك لوحدي، وأرى ظل ضحكتي يسقط ببطء عبر الجدار.
لا أطرح سؤالاً سخيفاً مثل ماذا سأفعل تالياً؟ بل أفتح "فيسبوك"، أكتب شيئا ما، قد لا يكون له أية علاقة بكورونا. أعود إلى طفولتي وأناولها المايكروفون. وأنا أكتب، أجد نفسي أكتب شيئاً آخر يجعلني أكتب شيئاً آخر جداً.
أشاهد فيديوهات مضحكة، وأخرى جدية، وأخرى لا هي بالجدية، ولا هي بالمضحكة، بل صفراء فاقع مضمونها وغير ذي شيء.
كل شيء يهم الآن في كتابة اليوميات. فالعمل مركون في زاوية إلى جانب الأحذية، والأيام تتوالى مثل عارضات أزياء. الحياة كرأس نبتة عباد الشمس، فيما ساقها النحيفة هي الأمل. الأبواب مغلقة، لكن الليل يفتحها بنباح كلب. العزلة تفرغ الصناديق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.