}

ذكرى انفجار المرفأ.. كلمات حبّ وحزن وغضب إلى بيروت

دارين حوماني دارين حوماني 4 أغسطس 2021
هنا/الآن ذكرى انفجار المرفأ.. كلمات حبّ وحزن وغضب إلى بيروت
تمثال "المرأة بيروت" لحياة ناظر قبالة مرفأ بيروت المدمر(getty)

 

 

في القرن الرابع قبل الميلاد كتب الشاعر اليوناني سيلاكس ثلاث كلمات عن بيروت: "بيروت: مدينة ومرفأ". في تعريف "المدينة" تصير بيروت مكانًا للإقامة لكائنات متفقة على شيء واحد "الحزن"، لم يتفقوا بعد على من سبّب خرابها الذي يتمدّد فوقها. لم تعد بيروت "مدينة" في التعريف الأنثروبولوجي للمدينة، أضحت فكرة الحق في المدينة التي دعا إليها الفيلسوف الفرنسيّ هنري لوفيفر  Henri Lefebvre منذ أكثر من أربعة عقود مشوّهة، الحقّ في عيش وصياغة حياة مدينيّة وحضريّة. هنا لديك حق في صياغة الموت فقط وفي اليأس فقط وفي تمدد فكرة الهروب داخل جسدك إلى أي عالم يتيحه لك جواز سفرك. هنا تدفعك الأشياء للشعور بالحاجة إلى الصراخ من أعلى جبل في الوجود. لم تعد بيروت "مرفأ" يا سيلاكس، فجّروا مرفأها مثل فكرة شريرة تمامًا، ولم تعد بيروت غابة "الصنوبر"، كما يعرّفها المؤرخون، أضحت غابة من نوع آخر، أضحت ثقبًا شديد الحزن يا سيلاكس، لا يمكنك العيش فيه ولا العيش بدونه، كما تغني فيروز "صدقني لو بقدر أتحمل عذاب الأشياء كلّا/ ما كنت فليّت/ إذا رجعت بجنّ وإن تركتك بشقى/ لا قدرانة إبقى ولا قدرانة فلّ". لم تعد بيروت تفاحة، بتعبير محمود درويش، أضحت بيروتشيما بتعبير عبده وازن، أو مدينة سابقة ومفقودة بتعبير عقل العويط. مدينة تستعير الركام من هيروشيما وتنضج فوقه تجسيدًا لإلهة "الجثث المفقودة والباحثة عن الأمان" وهي تنادي لنا: من يذهب معي إلى طفولتي، خذوني واتركوني هناك..

في الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت سنقرأ هنا ممّا كُتب عن بيروت شعرًا بعد انفجار 4 آب/أغسطس 2020، بجوار تحيات حب لعدد من الأدباء، من لبنان والعالم العربي، إلى بيروت التي كانت تتقن الحياة والحرية والفرح ذات زمن حيّ.
 

الشاعر عبده وازن  وكتابه "بيروت 4 آب/ أغسطس الساعة السادسة مساءً"



الشاعر عبده وازن (لبنان)

في قصيدته "بيروتشيما" التي صدرت منذ أيام في كتاب مترجمة إلى الفرنسية والإنكليزية بعنوان "بيروت 4 آب/ أغسطس الساعة السادسة مساءً"، يكتب عبده وازن عن بيروت التي فقدت وجهها الأزرق، وعينيها لحظة انبثق الشهب الأحمر. "بيروتشيما" هي قصيدة مطولة، ملحمة شعرية، يوثّق فيها وازن للحدث المؤلم بخطوط بصرية في احتجاج على السواد ومقاومة تامة للألم وللنسيان، ومما يقول فيها:

... هيروشيما هيروشيما/ بيروت بيروتشيما/ هيروشيبيروت
أنتم لم تروا ما رأيتموه/ لم تسمعوا ما سمعتم/ كأنّ الكارثة لم تعبر من هنا
كأنّ الفاجعة لم تقع هنا/ ما حصل كأنّما في كابوس/ في لحظة كابوس كأنّه الأبد
هيروشيما بيروتشيما/ المستشفيات تلفظ أحشاءها/ مستشفيات الساحل والضواحي
تقذف أشباه بشر/ لم تبق أسرة فيها/ لم يبق شاش ومصل ومطهرات
الأروقة تلطخت بالدم/ حافات الأدراج تعلوها آثار أيد/ جرحى يموتون في الهواء الطلق
جرحى ينوحون في الهواء الطلق/ يحملون جروحهم بحثًا عن فراش/ عن ممرضة أو طبيب
جرحى آخرون ما زالوا على أرض المرفأ/ في المنازل والغرف/ في السيارات
جرحى ماتوا للحين/ انفقأت عيونهم/ انفلجت رؤوسهم/ صدورهم انفتحت كعلب كرتون
جرحى تدلّوا من النوافذ/ رافعين أيديَ مدماة/ يستغيثون بأصوات خفيضة
الفتاة ألكسندرا ماتت تحت لوح الزجاج/ الفتاة بيسان سقطت تحت سقف التنك في الكرنتينا
أطفال ولدوا للتوّ غطّى الدم والغبار وجوههم/ في المرفأ عمال قضوا تحت جدران الأهراءات
تحت وابل حبات القمح/ الحبات الصُفر التي تناثرت في شلال النيترات
تحت الركام قتلى وجرحى ومفقودون/ يبحث عنهم رجال الدفاع المدني والصليب الأحمر
كنيسة القديس الناسك أنطونيوس طار سقفها القرميد/ يسوع على الصليب ينظر إلى السماء المكشوف/ بعينين حمراوين
مقابر كنيسة القديس متري هبطت قبابها/ شواهد ضرائح عائلات بيروت تكسّرت
الموتى الراقدون استيقظوا لحظة ثمّ رقدوا/ أيقونات سقطت أرضًا وصلبان
كاهن كنيسة مار ميخائيل هرب من أمام المذبح/ كادت تسقط عليه الثريا المضاءة

فيروز تغني "لبيروت منديل العيون"/ سمعنا الأغنية في قلب الحرب الأهلية وبكينا/ نسمعها اليوم ولا نبكي
لم يجف الدمع في عيوننا/ لكنّ مآقينا تحجرت
أعطيناك بيروت كل شيء/ أعطيتنا كل شيء/ سيدة الدنيا أو خيمة المشردين
نجمة الضالين/ ومنارة التائهين ليلًا في المتوسط/ صنوبرة الصحراء ومطر اليباب
زهرة الأسى وتابوت العصور/ وردة الشرق وأمّ الشرائع..

بيروت بيريت/ بيريتيس بيريتوس/ بيروتا بيرووة باروت
كأنّ قدرك أن تواجهي الموت/ بعينين بارقتين/ عقدًا تلو عقد/ قرنًا تلو قرن
كأنّ تاريخك موت وموت/ طائر الفينيق سقط عند شاطئك
وسيزيف تهاوى عند أسفل أهراءت قمحك...

 

الشاعر عقل العويط  مع كتابيه عن انفجار مرفأ بيروت 



الشاعر عقل العويط (لبنان)

في كتابه "الرابع من آب" يكتب عقل العويط قصيدة واحدة مطولة لبيروت الانفجار وما بعده، هي أيضًا ملحمة شعرية يحرّضنا فيها العويط على الحزن العميق، يوم وصلنا النداء المشفّر الممهور بـ 4 آب/أغسطس السادسة وسبع دقائق، لتفحّص سجلات الموتى عن كثب واستعارة ألمهم ولو لمرة واحدة. وفي كتابه الذي صدر منذ أيام "آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب"، والذي تترافق نصوصه مع لوحات الفنان التشكيلي حسن جوني في متن الكتاب، يحكي العويط عن بيروت الثكلى، ثم يوجّه كلامه إلى إليوت وأرضه اليباب. 

يقول عقل العويط في كتابه "الرابع من آب":

.. كيف أصفك يا بيروت/ قبل الساعة السادسة وسبع دقائق/ كيف أصفك بعد الساعة السادسة وسبع دقائق
كل ما في الأمر/ أني كنت ميتًا/ فكيف لميت أن يصف/ لم أُجد يومًا السباحة/ في ضفة الحياة التي هنا..
لا تغلقوا التوابيت. لا تسمّروها بالمسامير. سيأتي يوم نحتاج فيه إلى التوابيت المختومة/ بسجلات أصحابها..
في اللوحة التي طارت من المكتب/ لتحط على شجرة سمير قصير
في الأوراق التي قفزت من نوافذ الجريدة/ لتنام في مقبرة/ في المقبرة التي لم تعد تتسع لدموع الأمهات
في الرصيف الذي يجرّ قدميه جرّا إلى المشنقة/ في المشنقة/ التي لم يتدلّ من حبلها المشدود/ أي رأس متخم بالقتل
في القتل الذي ضاق ذرعًا بنفسه
في مدينة لا تكف عن الهذيان
في الموتى الذين لا يزالون يبحثون/ عن مفقوديهم بين الأنقاض
في الليالي/ في الساعات/ في الدقائق/ في الثواني غير القابلة للشفاء
في كيفية العبور من طعنة إلى طعنة/ ومن سكين إلى سكين
في الكهرباء المقطوعة/ في الحرّ الذي يمنع الموتى من النوم
في اللوحات التي نزلت عن الجدران/ في البيت الذي لم يعد واقفًا على قدميه/ بعدما اصطحبه مالكه إلى المقبرة
في الميناء الذي ترك مدينته تغرق في بحر الركام والرماد/ في المدينة التي تركت ميناءها يغرق/ في بحر الموت والمساء
في بلادي، في بلادي التي هل تستيقظ غدًا أو بعد غد..

ستموتين كثيرًا وكل وقت، لكنك لن تكوني حصة أحد. ولن يسبيك أحد. ما أجمل أن مراسك صعب وأنت على فراش الموت، ما أجمل أنك لا تؤخذين بذكورة.
وقتلاك لن يُذكروا في كتاب، كمن علّق على خشبة، ودحرج من ثم، في اليوم الثالث، حجرًا عن قبر.
من الداخل، من الخارج، لا قبر يملك أن يتشبّه بقبرك.. لا أسماء لك بعد الآن، لا أهل، لا عائلة، لا أقرباء.
أسميك فقط مدينة سابقة ومفقودة.


ويقول العويط في كتابه "آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب":

... نيسان ليس أقسى الشهور، يا تي. أس. إليوت. وليست أرضك هي حقًا ذلك الموئل حيث المرساة لقصيدة "الأرض الخراب".
كان ينبغي لليباب الذي يوجّع اليابسة ومن عليها، أن يتراءى لك، متحققًا بعد مئة عام، في مكان من هذا الكوكب يدعى بيروت...
بودّي أن نتجالس على مرمى أكوام الألمنيوم والتنك، وأن نكون صحبة ما بقي من نترات الأمونيوم، هل سمعت يومًا بنيترات الأمونيوم يا سيد إليوت؟ 

دائمًا تحت الصفر يا إليوت
إياك والروايات التي كُتبت بخبث، أو باستعجال، وكالإيقاع المريب، على طريقة تقارير الأنظمة الشقيقة والصديقة.
شحنة النيترات جيء بها، لتوزّع حيث يجب، وتلقى حيث يجب، وليبقى منها هنا ما يجب.
هل عرفت الآن، لماذا نيسان عندنا ليس أقسى الشهور؟
أليس الرابع من آب، يا إليوت، هو التوقيت المناسب؟

نيسان ليس أقسى الشهور، يا إليوت، وبيروت ليست لندن، وأرضك الخراب ليست هي الأرض الخراب!
هنا بيروت، وهنا الأرض، وهي أرضنا الخراب.

 

الروائية نجوى بركات (getty)



الروائية نجوى بركات (لبنان)

تُرى، كيف يسير مخلوقٌ بنصفه؟

أنا فقدتُ نصفي محترقةً بأطنان نيترات الأمونيوم التي أخفوها عنـّي لسنوات. انفجر جسدي وانهار وجهي فشعرت بهلاكي قادمًا لا محالة وبطعم حديد يحترق تحت اللسان. لقد قتلوا أبنائي على حين غفلة وجرحوا الآلاف، خرّبوا شوارعي وصدّعوا عماراتي وكسّروا أبوابي وزجاجي، وانتهكوني ثم تركوني جثّةً هامدة في العراء.

والآن، بعد أن لملم أحفادي الركام والرماد والحطام، أرى قتلتي يجولون في أنحائي لا يأبهون ولا يدارون. أتميّز أنيابهم وأظافرهم وسكاكينهم، فيما هم يرتدون أثواب الحِملان ويتنصّلون. هم لا يعرفون أنّي ضربت لهم موعدًا وأني، كما سبق أن انقلبتُ سبع مرات، سوف أنقلب عليهم لأدفنهم، تماما في المكان الذي اغتالوني فيه. هنا ستكون قبورهم التي ستداس بالنعال، ومدافنهم التي ستعلوها أنصاب تروي خسّتهم ووضاعتهم وإجرامهم الذي لم يُعرف له مثيل.

أجل، فليكن معلومًا لديكم أن المدن القتيلة لا تنسى وإن نسيها العالم. المدن المقتولة لا تغدر بقتلاها ولا تغفر لقاتليها، بل تبقى روحُها ترفرف مطالبة بتحقيق العدالة، وإن تعذّرت، فبالانتقام. سبق أن نعمتم بعفوٍ شامل بعد أن مزّقتم أشلائي وتركتموني طريدة للغربان. لكن اليوم، أعدكم أني سوف أنتقم من كل الذين ادّعوا البراءة فيما أيديهم مخضّبة بالدماء، وسوف تجاور صورُ وجوهكم الآثمة التي ستحتلّ الجدران، صورَ أبنائي، ضحايا الغبن والقهر والفساد.

سِر يا ليل، انهضي يا عتمة، واصرخي يا ريح، سوف أجعل أيامهم كوابيس ذعر وغلبة واقتصاص، فالمدن المفجوعة لا تنسى ولا تغفر، ولا بد لأوان الحساب أن يحين.

  

الشاعر محمد بنيس 



الشاعر محمد بنيس (المغرب): بيروت مسكني الثقافي

"بيروت مسكني الثقافي"- هو نص طويل كتبه الشاعر محمد بنيس إلى بيروت، وطلب مني أن اختار منه.
كان من الصعب أن أختار من نص ممتلئ ومفتوح على الحنين والألم من أوله لآخره.
سأورد منه هنا هذه السطور:

... وعندما فتحت التلفزيون يوم 4 آب/أغسطس 2020، حوالي الساعة السادسة مساءً، كانت الصورة التي شاهدتها هي انفجار بيروت الأول، وبعد ثوان لحقه الانفجار ـ القيامة. لست أدري كيف شاهدت، في رعب الصورة، ما كانت ذاكرتي تختزنه عن انفجار هيروشيما. سحابة كثيفة. لا شيء قبلها ولا بعدها. تماسكتُ وتركت عينيّ مفتوحتين. لم أستطع إغماضهما. تمنّيتُ لو أن لي عينيْن بحجم السماء والأرض حتى أشاهد ما تخفيه عني السحابة التي غطت الكون، ولم تترك من فضاء بيروت شيئًا يظهر. في تلك اللحظة جزعتُ على أصدقائي البيروتيين، جزعتُ على أهل بيروت وضيوفها، وفي لمح البصر تهيأ لي أن جسدي يتبدّد في الذي كنت أشاهد. قيامة بيروت قيامتي. بيروت على مرأى من عيني، وأنا في جهتها المقابلة من البحر الأبيض المتوسط، أتتبع مشهد الفناء يتسع، يعلو ويمتد في مدًى لا ينتهي. اختفى المدَى، اختفت معه السماء والبحر والعمارة. وبعد قليل كان الهول بتمامه. صمتي أعتى من الصرخة، وفي أعماقي كان كل شيء يتذرّى. لا، حياتي بدورها كانت تنفجر، ومسكني الثقافي نفسُه يتشظّى.

ما زلتُ، حتى الآن، أحس بصدى الانفجار في صدري يتردّد، وبالدخان يلفّ كوكبًا يتوهّج تحت أجفاني. تاريخ بيروت الحديث، كله، بدون حجاب. لا يغيب. تاريخ ثقافة الحرية والإبداع، من بيروت انطلق وعمّ البلاد العربية، بل بلغ أقصى مناطق الأرض... بيروت. هذه المدينة، ذات المساحة الترابية الصغيرة، هي نفسها التي روت نفوس المتعطشين للحرية في جميع الشعوب العربية، وهي التي ضخّت دماء جديدة في مرافق من الثقافة العربية الحديثة.

من أكبر الدروس التي تعلمتها من بيروت هي الألفة مع العربية الحديثة والفصل بين الديني والثقافي. درسان رسّخا في نفسي عشق العربية وثقافتها، وجعلاني أدرك، وأنا شاب، معنى أن أتحرر من ثقافة المجتمع التي ربّتني على تعظيم المسلم والتوجس من المسيحي. كانت تلك التربية طبيعية، بفعل أن المغرب لم يعرف المسيحيين، في تاريخه، إلا من خلال المستعمر.

متيقّنٌ أنْ لا سكينة لي، بعد انفجار بيروت. وها أنا هنا، في المحمدية، حيث شاطئ الأطلسي يغري بقطع الاتصال بالعالم، أجدني أعود لأطل على شاشة التلفـزة وأتتبع الأخبار. دمار بيروت. ما معنى هذا الانفجار الذي أتى في شكل قيامة لا تترك بعدها غير الفناء؟

أفكر في الحرب الأهلية، التي أحرقت بيروت. كنت خلالها أفتح نوافذ شقتي، المطلة على المحيط الأطلسي، وأنادي بملء صوتي "بيروت، بيروت". ثم يهدأ هوسي قليلًا عندما يغيب الصوت في المدى البحري، كأنه كان يرحل. أبقى واقفًا، أفتش عن منفذ كي أرى بيروت، وأرى ما الذي يحدث لأصدقائي هناك. ما كان يطمئنني هو الرسائل التي كنت أنتظر استلامها كل صباح من ساعي البريد. أدونيس، إلياس خوري، سليم بركات، يمنى العيد، في مقدمة المراسلين.

ثم في ذروة الحرب جاء غزو بيروت من طرف إسرائيل. 1982. إنه الإصرار على اقتلاع جذور المقاومة الفلسطينية ـ اللبنانية التي لا تهادن الاحتلال. إلا أن المقاومة واجهت الغزو وأعادت بيروت إلى حريتها. حينها فهمتُ أن إسرائيل كانت تريد مسح ثقافة الحرية من بيروت، وكانت تسعى إلى التخلص من المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين كانوا يفدون على بيروت من بلاد عربية مختلفة، ليعيشوا زمن الحرية في الكتابة والتفكير والإبداع. ورغم أن بيروت أصبحت، بعد الغزو الإسرائيلي، محرومة من نخبتها العربية التي كانت مقيمة فيها، إلا أنها ظلت مرجعًا لحرية الثقافة.

من أين تبدأ بيروت، وأين تنتهي؟ سؤالان واقعيان، تستدعيهما قدرة بيروت المتواصلة على النهوض، كل مرة تتعرض فيها للدمار. وبدون تلكؤ أجيب، بعبارة واحدة، من الحرية. بهذه العبارة أرى إلى بيروت الآن، في كل آن. وفي مكتبتي بالمحمدية ألتقي بثقافة بيروت، بتاريخ بيروت، بحرية بيروت.

الشاعر سيف الرحبي 



الشاعر سيف الرحبي (عُمان)

كأنما فصول الحروب والمآسي اللبنانية تتوالد وتتناسل من غير أبسط ضوء يستشرف أفق النهاية. فمنذ ما يربو عن أربعة عقود بالنسبة لأفراد مثل أفراد وجماعات جيلنا فتحنا عين البصر والوعي على انفجار الحروب اللبنانية التي لم تهدأ نيرانها إلا لتزداد اشتعالًا وجحيمًا. حروب اللبنانيين أنفسهم وحروب الخارج على الساحة اللبنانية ومن ثم ما يشبه النهاية التي بدأت ترسم أفقًا دمويًا آخر ربما أكثر وحشية وكارثية على اللبنانيين ومناخ حياتهم واقتصادهم واجتماعهم الذي بقي على الحد الأدنى رغم هشاشته من التماسك والأمل للتجاوز إلى مستقبل مختلف يليق باللبنانيين ولبنان ودورهم الحضاري في التاريخ العربي والعالمي. لكن أحيانًا حروب الصمت المحتشدة أكثر فتكًا من حروب الأعمال العسكرية المسلحة وهذا له أمثلة كثيرة في بلدان عربية، وعلى الأرجح في لبنان بعد النهاية الرسمية للحرب تعايش الاثنان وتساكنا لينتجا خرابًا أعظم تجسّد في الخراب الشامل المخزي على كافة الأصعدة الاقتصادية والمعيشية والثقافة المقاومة دائمًا والاجتماع. وجاء انفجار المرفأ كارثة ليبوّئ الطبقة السياسية الحاكمة في سدة عبقرية القدرة على التدمير الكلي الذي لم يعرف له التاريخ ربما مثيلًا. واستيقظ اللبنانيون على كوابيس وأزمات طاحنة تنمحي في ضوء جحيمها الفروق بين الوقائع والفانتازيا من هول ما حدث ويحدث وأصبح وباء نشر الهلع والرعب على مستوى الكون من الأحداث العادية بالنسبة للبنانيين أمام هول ما يحدث لهم لحياتهم وكرامتهم ومكانتهم.

ومن عاش في بيروت من العرب يعرف مدى كرم هذه المدينة على الجميع، منفيين شعراء ومثقفين باحثين عن مكان للحرية والإبداع في ظل الديكتاتوريات العربية العاتية، وعليه فألمهم جزء من ألم هذه المدينة التي كانت مختبرًا لذلك الإبداع والجمال والحرية. فكل فرد عربي يحمل على كتفه دينًا لهذه المدينة المنكوبة الجريحة والحزن والألم يفوق التوصيف والكلمات. 

 

الروائي مروان عبد العال 



الروائي مروان عبد العال (فلسطين): فهرنهايت 4 آب/أغسطس

أن تُعد فنجان قهوتك قبل المساء ولا تحتسيه، هنا بيت على مفترق شارع صبرا، حيث لا ترى منه البحر ولا تسمع هدير أمواجه، تنصت فقط لأنين المخيم. في تلك الساعة سكتت موسيقى الفرح في حفل راقص بميلاد ابن الجيران، عند النافذة المقابلة عجوزّ يلعن الزلزال! ويلهث في إشارة إلى وجود خطر يتهدده من الغازات السامة، والدخان السديمي احتل فضاء أوسع من المدينة، والهروب من والى كل الاتجاهات، فالاحتماء هذه المرة خارج المباني كي لا تسقط، والكمامات على الوجوه للمرة الأولى.

هذا ليس حلمًا! أو مجرد حلم في ليلة صيف، أو فلسفة في زمن الرعب، وحب في زمن النترات، هذه ديستوبيا الحداثة! فهرنهايت 4 آب/أغسطس، فتسرج له خيالك الوحشي؛ نحو عوالم خرافية، عن رواية جديدة من رجال الإطفاء يلتهمهم الحريق، يوم سطرت بيروت فصلًا خياليًا من الديستوبيا التي تفوقت على خيال الكاتب الأميركي راي برادبوري في رواية "فهرنهايت 451".

 هنا فهرنهايت، موجة انفجارية ليست مسبوقة في الحروب الخاطفة، تجوب شوارع المدينة على مهل! فتصبح البيوت بدون أبواب وكراسي المقاهي مشلوحة فوق الأرصفة، والأراكيل تركت وحدها على الشرفات. الكل يتلمس رأسه إن كان لا يزال فوق جسده، يختبر حواسه الحس والسمع والذوق والشم، حتى الذاكرة الفردية.

ابن الحرب قضى ربيع عمره في أشلاء المدن، عند مفترق صبرا، قرأ لائحة الشهداء وظل يدوس على قطع الزجاج فوق إسفلت الشوارع، ويجمع الشظايا القاتلة، هكذا بلفحة هواء نارية طار باب المطبخ المطل على البلكون الخارجي، وخطفت غلاية القهوة من يدي وصفعتني موجة حارّة أخرى وبعثرت ما حوالي وأخلّت بتوازني. الناس يتجادلون ويتراكضون، أذكر أنه كان أسرع هبوط بشري على درجات السلالم مصحوبًا بصراخ يبتعد ويخفت!

هنا فهرنهايت، فجأة دخلت الى الفانتازيا ذاتها، على وقع كلمات من قمح ودم وتراب، وفي الأعلى يتربص جيش من دخان، نظرت وإذ السماء تحوي ثلاث غيوم، واحدة سوداء وواحدة حمراء وواحدة صفراء. دهشت لتناسق اللون في طيات الغيوم وإذ بصوت يخاطبني قائلًا: "أنا "بيروت"، اختر من هذا السحاب أي لون تريد". نبهني صدى "حيفا"، وقالت: "اختر لك سحابة". قلت: "الحمراء". تلاشت الدمى المتحركة وسقطت أقنعتهم الرمادية، وبغمضة عين وجدت نفسي بين ضحايا المدينة.

عند مفترق شارع صبرا، صدح صوت المخيمات مفجوعًا، يرفع الرماد عن جبين المدينة، وسمعنا "حيفا" ترتل صلاتها، وذرفت دمعة ساخنة واضيقت عيناها الواسعتان.

ذات نكبة بكت بيروت شقيقتها حيفا، وظلت ترفع حزام صدرها كفرس أصيلة، لم تنزع بصرها من كفيها المضمومين في حضنها فهمست لي: "سأقاتل القراصنة أكثر، كلما خفت عليكم أكثر ولم أعلم ماذا حدث لكم. أنتظركم علكم تعودون".  ولمّا رست سفينة الخراب في بحر بيروت، علقّت بعصبية: " انها إرم ذات العماد".. كانت تستبشر ميلادها من تحت الرماد.

 

******


في وداع بيروت

في كل مرة أهجر بيروت إلى كندا، أعود إليها.. تسبقني لهفتي إليها، أصدقائي يلومونني لأني أعود كل مرة محمّلة بنوستالجيا مجنونة لشوارع بيروت من الحمرا إلى الجميزة والأشرفية.. لبحرها ومغيب شمسها.. والعالم يلومني، لا يعلمون أني أرى كل شوارع العالم باردة ودون ذاكرة وبلا معنى، وأن شقوق قلبي تظل تكبر وتكبر حزنًا حتى أعود إلى شارع الحمرا.
سأودّعك الآن بهذه الكلمات يا بيروت، لأني سأترككِ بعد أيام، وأقول لك:

المدينة ساكنة في الصباح التالي لانفجار هزّها من النصف
البحر الأحمر المتوسط ينفذ عبر شقوق عنبر رقم 12
جثث فتشت عن أصابعها.. وجثث لسبب غير واضح اختارت الموت بلا ملامح..
لم نتعلم يا بيروي الحب، ولا أن نحبك، وأنت التي قال عنك الشاعر اليوناني ننوس في ملحمته الشعرية: "إنها مدينة بروي، مرفأ كل حب"..
فنحن لم نتعلم أن نرتّب حروفك بحبٍّ سوية على الطاولة دون حقد، ودون أن نقتل حرفًا واحدًا..
هبة ريح واحدة كافية دومًا لتتطاير الأحرف كلها..
هذا ليس موتًا عاديًا، إنه الجحيم يتوسّع على الأرض..
في بلادٍ يقشّر رؤوسها حكامٌ جياع للقتل، يحمون أنفسهم بالكتب المنزّلة..
كنا صغارًا نستلقي بين القنبلة والأخرى، نسأل الوجود أسئلة أطول من أقدامنا وأيدينا..
عن السماء الرمادية دومًا، والأبنية المثقوبة بالكامل بالرصاص
والجثث..
وخط التماس الذي يقصّ قلبك لبيروتين
وجارتنا التي ذهب ابنها إلى المدرسة ولم يعد، فقررت الانتحار
كبرنا يا بيروت كثيرًا، أكبر منا..
غيّروا وجهك تمامًا بما يؤذينا، وها هم لا يزالون يمعنون في تشويهك وهم يصيحون بحبّهم لنا من نفس الأمكنة، ويكذبون ويؤلفون.. مرة أخرى يحرقونك.. تحترقين، وهم يكذبون ويؤلفون.. ونحن نراقب الحقيقةَ وشعبَك الذي سيخذلك دومًا ويحبهم كل مرة من جديد، فنقرر الرحيل..

أعرف تمامًا أنه عليّ أن أعبر بيروت وأمضي بعيدًا.. كل شيء يدفعني خارجًا لأقتفي وطنًا آخر.. أخاف من نفسي أن أظل على الحدود.. لكن من الضروري أن أمضي قدمًا إلى أبعد مكان ممكن.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.