}

سنان أنطون: الخطاب المساند لإسرائيل بأميركا يواجه معارضة ونقدًا

دارين حوماني دارين حوماني 16 مايو 2024



في مقال له بصحيفة "القدس العربي"، يقول سنان أنطون: "الصلة التي تربط  كوشنر برفاقه وشركائه ليست الصهيونية والتصَهْيُن فحسب، بل التآلف والتوافق في اعتناق الرأسمالية المتوحشة، والبحث المحموم عن الأرباح والاستثمار في الموت وتشييد العمارات والمشاريع السياحية فوق المقابر الجماعية"... بهذه النبرة الحادّة يتحدث سنان أنطون في كل مقالاته عن فلسطين، التي تلاحقه ويلاحقها من مقال لآخر، وهو المقيم حيث منبت الرأسمالية المتوحشة، ويواجهها على طريقته، فكان أول المعتصمين في جامعة نيويورك لأجل وقف حرب الإبادة في غزة حيث تم اعتقاله ضمن حملة اعتقالات لأكاديميين وطلاب من الجامعة بهدف قمع التظاهر. وسنان أنطون شاعر وروائي وأكاديمي جامعي ومترجم، يكتب الأبحاث ومقالاته عن فلسطين بيده اليمنى، ويكتب الرواية والشعر بيده اليسرى مؤرخًا لأوجاع العراق، موطنه الذي يلاحقه روائيًا وشعريًا منذ اغترابه في عام 1991 متوجهًا إلى أوروبا ثم إلى أميركا حيث حاز على الدكتوراه من جامعة هارفارد، وأصدر ديوانيه الشعريين وخمس روايات وأخرج فيلمًا بعنوان "حول العراق" عام 2004 وترجم محمود درويش وسعدي يوسف للإنكليزية. وفازت ترجمته "في حضرة الغياب" لدرويش بجائزة أفضل ترجمة أدبية في شمال القارة الأميركية. وقد تُرجمت روايات سنان أنطون إلى عدد من اللغات العالمية.

ورغم انشغاله الأكاديمي في "جامعة نيويورك" لم يتوقف إبداع سنان أنطون، ورغم إقامته خارج العراق منذ أكثر من 30 عامًا إلا أن ليل العراق يتحرّك في داخله بلغة مسنونة وبضربات فرشاة حادّة، بقدر الألم الذي يرافقه، وهو يبتدئ روايته "يا مريم" بعبارة "انت عيش بالماضي يا عمّو"، تصير الكلمات كتظهير صور غارقة في حزن واقعيّتها، تجعله مقيمًا على ضفة ثالثة خارج موطنه الأول العراق وموطنه الأخير أميركا، في مكان خارج هذا العالم يراقب منه غرق العالم، إذ يقول في قصيدته "ليل واحد في كل المدن": "نتكئ على جذع نخلة/ احترقت منذ سنين/ لكن ظلها يُصرّ/ على أن يؤانسنا حتى في ليل الغربة/ تلوّح السعفات مودعة/ من شبابيك أغنية قديمة/ عن النهر/ قبل أن تختنق أمواجه بالجثث/ ونحن على ضفة ثالثة/ في كل مكان/ نراقب الأغنية تغرق/ هناك ما يكفي الليلة/ حتى لأشباح الغرقى/ الذين تحلقوا حول المائدة/ يحثًا عن رؤوسهم المقطوعة/ غدًا علينا أن نُخرج جثثهم من الأغنية/ ونكفّنها بالكلمات".
هنا حوار معه:


(*) أود أن أبدأ من الأحداث الأخيرة في جامعة نيويورك حيث تدرّس، على الرغم من أن تاريخ أميركا حافل بالاعتصامات الطلابية كما أن طلابًا يهودًا احتفلوا بعيد الفصح من داخل الاعتصام الحالي، ويشاركون معكم، إلا أن تهمة التجاوز ومعاداة السامية تلاحقك ورفاقك من الأساتذة الجامعيين في وقوفكم مع الطلبة، ماذا حصل معكم تحديدًا، وهل ترى أن ما حصل معك قد يؤثر على المستقبل الأكاديمي في بلاد يتحكّم بجامعاتها لوبي صهيوني؟ وخصوصًا أنه يمكننا أن نقدّم أمثلة عديدة في هذا الصدد عن فصل أكاديميين...

تهمة معاداة السامية ليست جديدة، فلطالما كانت توظف كسلاح ضد من ينتقد إسرائيل أو يعادي الصهيونية. وإذا كان يهوديًا فسيُتهم بكره الذات. وهذه التهمة هي السلاح الأخير في جعبة الصهاينة بعد أن سقطت كل الأقنعة وانكشفت البشاعة أمام العالم منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. من الضروري أن نتذكّر أن اعتناق الصهيونية كأيديولوجية لا يرتبط بالانتماء الديني بالضرورة، فبحسب دراسات وإحصائيات نشرت مؤخرًا، مقابل كل يهودي صهيوني هناك 30 صهيونيًا من المسيحيين المحافظين. بايدن ليس يهوديًا. وصهاينة العرب ليسوا يهودًا. دعم إسرائيل يرتبط بمنظومة اقتصادية عسكرية متعددة الجنسيات عقيدتها رأسمالية واستعمارية بمعناها الأشمل. لذلك فإن مطالب مخيمات التضامن مع غزة، بالإضافة إلى وقف إطلاق النار، هي فك ارتباط الجامعات بهذه المنظومة والكشف عن الاستثمارات في شركات الأسلحة والشركات الإسرائيلية، ومقاطعة إسرائيل. قد تطول المعركة لكن هذه أساليب نجحت في الضغط على نظام جنوب أفريقيا العنصري وأسقطته بدعم عالمي.

من مزايا النظام الأكاديمي الحصانة التي يتمتع بها الأستاذ الذي يثبّت في موقعه بعد ست سنوات يكون قد نشر خلالها كتابًا أكاديميًا ومجموعة من المقالات في مجلات محكمة. طبعًا هناك استثناءات وهناك أساتذة فصلوا لأسباب سياسية في السنين الماضية. واليمين في الولايات المتحدة يحاول منذ عقود الضغط لإلغاء نظام التثبيت والاستعانة بالأساتذة الذين يعملون بعقود سنوية بلا ضمانات وبلا مزايا أصلًا وهم في ازدياد لأسباب اقتصادية أيضًا.

استمر الطلاب حتى بعد الاعتقال بالتظاهر والضغط  على رئاسة الجامعة وكنا نساندهم كأساتذة. وكل هذا الضغط أجبر الجامعة على إسقاط التهم الموجهة ضدنا. وما زلنا نحاول الضغط لإعادة بعض الزملاء، غير المثبتين، والطلاب الذين فصلوا. والمعركة مستمرة. 

(*) برأيك، القمع الذي تتعرّضون له هل يخدش "الديمقراطية الليبرالية" و"الحرية" اللتين تدّعيهما أميركا؟ وهل من صوت آخر داخل الإعلام الأميركي؟

منذ سنوات طويلة ومباشرة بعد وصولي إلى هذه البلاد، أذكّر نفسي دائمًا: ماذا كان أحد السكان الأصليين سيقول؟ وكيف ينظر الأميركي الأسود للموضوع؟ ويقودنا هذا لسؤال مهم: ديمقراطية لمن؟ وحرية لمن؟ هناك تراتبية تحدد كل شيء عمليًا. وهناك أعراق وطبقات وشرائح لم تعن لها الديمقراطية الكثير فعليًا. ولم تنل قسطًا من الحرية إلا بعد نضال طويل وتضحيات هائلة. لا أقلل هنا من مزايا الديمقراطية والحرية الفردية التي تضمنها هذه المجتمعات، لكن علينا دائمًا أن نفكك الأساطير المؤسسة لأي مجتمع وأي نظام وأن نشكك بها وأن ننظر إلى التطبيق العملي والحقائق المادية، لا إلى المقولات النظرية.

هناك إعلام بديل بالطبع لكنه في منافسة غير شريفة مع مؤسسات ضخمة تمتلكها شركات كبرى. الذي صنع الفارق في هذه الحرب هو وسائل التواصل الاجتماعي التي نقلت للمواطنين الأميركان، خصوصًا الشباب، حقيقة الإبادة ووحشية إسرائيل. الديمقراطيات الليبرالية تشهد بمعظمها عودة للفاشية واليمين المتطرّف. 

(*) المشهد الأميركي ما زال قاسيًا بحق فلسطين... هل صحيح أن البلاد سوف تتجّه بعد عشر سنوات لاحقة نحو لوبي مضادّ للّوبي الصهيوني المتحكّم في إدارات الجامعات والبلاد، كما عبّر أحد المحلّلين الأميركيين؟ كيف ترى أميركا بعد عشر أو عشرين عامًا؟

لا أعتقد أن الحلول هي في اللوبيات وفي تشكيل لوبي مضاد. اللوبي هو شبكة مصالح وشركات عالمية متعددة الجنسيات ومصانع أسلحة وبلايين الدولارات وعقيدة تقدس الربح والتراكم. الاختلاف الآن هو أن الخطاب المساند لإسرائيل والخطاب الصهيوني يواجه معارضة ونقدًا شرسًا بدأت قاعدته تتسع منذ سنوات لأسباب عديدة، ولكن بشكل حادّ بعد الإبادة المستمرة. 

(*) أرغب في أن أعود إليك... تركت العراق في الثالثة والعشرين من عمرك، ومنذ ذلك اليوم لا حدود بينك وبين العراق، رواياتك كلها مثل أفلام توثيقية عن خطوط الوجع العراقي، تحرّكنا ونحن نقرأ داخل شوارع العراق، هل هي آلة الانفصال عن الوطن التي تحرّكك لتكتب؟

بدأت الكتابة عندما كنت في العراق وكانت الكتابة هاجسًا ورغبة مبكرة. لا شك في أن الابتعاد عن المكان الأول يؤثر على الكتابة، لكن هذا التأثير قد يكون إيجابيًا وقد يغني التجربة. والأمر يعتمد على التكوين الفكري والجمالي وطبيعة العلاقة مع المكان الأول وأحداثه وتاريخه بعد الخروج. خرجت من العراق بحقيبة واحدة. لكن الذاكرة حقيبة هائلة الأبعاد. هي التي تحملني وتعيدني إلى الأمكنة والأزمنة وإلى أكثر من عراق!
 


(*) أبطال رواياتك يتعذبون، "ثمة دفقة من الحزن تنتقل إليّ، وربما تجعلني أشعر كم أن هذا العالم لا يترك لنا مكانًا إلا لنحزن"، متى انوجد هذا الرابط فيك؟

سأستعين بودود من رواية "فهرس" الذي أعرفه جيدًا كما يعرفني هو. يقول ودود عن نوبات بكاء يعاني منها: "إنها دورة الحزن في الطبيعة. ألا تذكر كيف كنا ندرس عن دورة حياة الأوكسجين والنيتروجين و و؟ هذا جزء من دورة الحزن في الطبيعة. أزعم أن الحزن مركب طبيعي موجود في أجسامنا وفي الهواء الذي تستنشقه. وأحيانًا تزداد مناسيبه بحسب الحال والمآل".  

(*) الأكاديميا أخذتك كثيرًا من الكتابة، نرى أنك كتبتَ ثم انقطعتَ سنوات عديدة ثم أصدرتَ رواياتك بتواريخ متلاحقة، ما هي تأثيرات دراستك الأكاديمية واشتغالك الأكاديمي على كتاباتك وعلى أسلوبك، هل تتأثر كتابة الرواية والشعر بالاشتغال الأكاديمي في الأدب؟

لست متفرغًا للإبداع لأن العمل الأكاديمي يستهلك جهدًا ووقتًا، لا في التدريس فحسب، بل في أمور بيروقراطية مملة. لكن الانشغال بالأدب دراسة وبحثًا وتدريسًا أمدنّي بخزين إضافي أغنى تجربتي الأدبية وإن كان قد أخرّها بعض الشيء. لكن، كما أقول لزملائي حين نشكو من الحقل الأكاديمي: كان يمكن أن تكون الأمور أسوأ بكثير! 

(*) تقول في نهاية رواية "وحدها شجرة الرمان": "كنتُ أظن أن الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة، لكني الآن أعرف أنهما متلاحمان، ينحتان بعضهما بعضًا، الواحد يسقط الآخر كأسه... أما قلبي فقد صار رمانة يابسة، تنبض بالموت، وتسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار"، سنان أنطون في الواقع، كيف يرى حقيقة الموت، هل نحن أموات أيضًا دون أن ندري؟

في الوقت الذي استغرقته في الإجابة على هذه الأسئلة نقلت وحشية إسرائيل أكثر من عشرة فلسطينيين من عالم الأحياء إلى عالم الأموات. نحن ما زلنا أحياء. لكن الموت حقيقة ثابتة لا مفر منها. لكننا لسنا سواسية لا في الحياة ولا في الموت. المقطع في سؤالك هو حين يكتشف جواد في الرواية أن الحياة مرتبطة بالموت. وما دمنا في هذا السياق، فسأقول إن المعضلة هي في أن طبيعة الحياة التي يريدها البعض ويتشبث بها ثمنها موت الآخرين.

(*) يقول تشارلز سيميك: "إن شعر النثر هو الطفل الوحش لنزعتين متناقضتين؛ الأولى ترغب في قَص حكاية، فيما ترغب الأخرى، وبقوة متكافئة، في أن تجمّد اللغة قليلا، من أجل أن نتأمل ونمعن النظر"... هل تقرّر أن تكتب الشعر عندما يوجعك الحكي في الرواية، هل هو نوع آخر من الصمت؟

ليس نوعًا آخر من الصمت بالتأكيد. سئلت عن هذا في الماضي، ولم أعثر على الجواب المثالي أو الشافي. ليس هناك قرار في كتابة نص ينتمي إلى هذا الجنس أو ذاك. هناك لحظة، أو صورة، تكتمل وأنسج حولها. وهناك مزاج جمالي قد يتحكم فيه إلى حد ما اللاوعي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.