موقع أوكرانيا في الأدب الروسي ليس تفصيلًا، وإن كان الأدب ينتمي إلى الخيال في النهاية أكثر من انتمائه إلى التاريخ. والتاريخ الذي نتحدث عنه هنا هو تاريخ الحقيقة حصرًا، لأن الخيال جزء من التاريخ أيضًا، مثل الأدب تمامًا. وفي الخيال الأدبي الروسي، لطالما حضرت أوكرانيا بقوة، أي أن السرد سبق محاولات الحقيقة ومحاولات الخيال مجتمِعَين، بوقتٍ لا يمكننا تحديده، لكننا نعرف أنه، كأدب لا كتاريخ، طويل نسبيًا. ونعرف أيضًا أن الذين كتبوا هذه القصص، كتبوها كحقائق، وأن الذين قرأوها، صدقوها كسرديات. على الأرجح، لا توجد أي فائدة من محاولات "تنقية" الأدب الروسي من أوكرانيا، أو فرز الأدب الأوكراني خارج تاريخه السلافي، المشتَرك في جزء كبير منه مع روسيا.
وكان يشار في الخرائط القديمة إلى أوكرانيا على أنها "الحقول البرية". وهذا منطقي بالنظر إلى مساحتها الشاسعة، وإلى أنها تضم سهوبًا شاسعة على حدود البحر الأسود، وفي منتصفها وصولًا إلى حدودها مع بولندا. لكن المفارقة، أن المعنى السلافي لكلمة أوكرانيا (أوكراينا باللاتينية) يمنح المكان بعدًا أكثر دقة من الناحية الجغرافية، وربما من الناحية الأدبية أيضًا، إذ تعني الكلمة: "على الحدود". هذه الرقعة الكبيرة من العالم، والتي تعد ثاني أكبر بلدان أوروبا بعد روسيا، كانت بأسرها تحمل في طياتها صفة "الحدود". الحدود بين روسيا وأوروبا، فيما يشي أن روسيا نفسها هي بوابة أوروبا وليست أوكرانيا، وبين أوروبا وروسيا مع بعضهما من جهة، وبين آسيا. بالمعنى الثقافي للكلمة، سنجد في الأدب الأوكراني تلاقٍ بين مجموعة ثقافات، قد لا نجده بذات الدرجة في روسيا، بالنظر إلى أن أوكرانيا تبدو أقرب إلى منطقة ريفية، وظيفتها التواصل في قراءة إيجابية، أو الصدام في قراءة سلبية، أو ما يحدث بين هذا وذاك بصورة متواترة ولكن دائمة.
وإذا كانت أوكرانيا قد تعني "على الحدود"، فإن "القوزاق" يرجح أن يكون مصطلحًا مشتقًا من التركية، ويعني "الرجل الحرّ"، أو "مطلق النار الحر". وهذا لن يكون سوى تأكيد لغوي آخر، على ثقل العلاقات الثقافية في السهوب الواسعة. في السياسة، ما يسمّيه الأدب "حقول ثقافية"، تسمّيه روسيا اليوم "مجالات التأثير". لكن المفارقة أن المقصود هو نفسه، بين مجموعات بشرية متعددة توزعت تاريخيًا بين روسيا القيصرية التي تملك الحصة الأكبر من التداخل الثقافي والجيوسياسي مع أوكرانيا، الإمبراطورية العثمانية التي تطل على المنفذ الآخر البحر الأسود والتي عاشت حروبًا طويلة ضدّ روسيا القيصرية على الأراضي الأوكرانية اليوم، وما يمكن أن نسميه بالكومنولث الكاثوليكي المتاخم لأوكرانيا، أي بولندا وليتوانيا التي يتحدر منها دوستويفسكي. سنجد أثرًا عميقًا للهوية الأرثوذكسية الأوكرانية وأصدائها في روسيا عندما يناشد تاراس بولبا في رواية غوغول أبناء شعبه للقتال مع "إخوانهم الروس" ضدّ النبلاء البولنديين. وقد نجد نزعة في المقلب الروسي، عند تولستوي، المعروف بنزعته السببية لا الوجودية، أكثر تهيبًا وتفهمًا للمسلمين في "الحاج مراد" – (خادجي مورات بالروسية صادرة عن دار التنوير/ ترجة هفال يوسف)، على الجبهة القوقازية ضدّ الداغستانيين.
لا يمكن الحديث عن شخصية "أدبية مشتركة" بين الروس والأوكرانيين، من دون التنقيب في "القوزاق" لليو تولستوي |
الأدب الرهيب
هناك أمثلة كثيرة للعلاقات الأوكرانية – الروسية في الأدب. المثل الأول الذي يخطر في البال، ربما، هو تاراس بولبا نفسه. وإن كان الاتفاق على أن ملامح تلك الشخصية ممكنة، في مكانها التاريخي وضمن حدود جغرافية تبدو غير قابلة للتحديد من الناحية الثقافية، فإن الصراع على الكاتب نفسه، أي غوغول، ما زال حاميًا. يشبه غوغول جزيرة القرم، ويشبه دونباس. يشبه الأراضي المتنازع عليها، والتاريخ المتنازع عليه. الفارق هو أن غوغول يتحدث، وإن كانت إمكانية التلاعب بالأدب وتحريف تفسيره قائمة، إلا أن صوت تاراس بولبا الزاجر الراغب في قتال النبلاء البولنديين إلى جانب "إخوته الروس" يبقى قويًا. الموقف بحد ذاته ليس مهمًا، فهذه المفارقات التاريخية ليست مفارقات في الحقيقة، منذ سبعين عامًا كانت ألمانيا وفرنسا أكثر عداوة من روسيا وأوكرانيا اليوم. المفارقة هي استمرار الصراع على غوغول، وعدم القدرة على ترك الأدب يتحدث عنه نفسه، ما يعكس واقعًا يكاد أن يكون لا نهائيًا في الخيال الأدبي الروسي – الأوكراني المشترك، الذي قد يموت في نهاية الأمر مثل تاراس بولبا، الأوكراني، الشهيد لأجل روسيا، مصلوبًا على شجرة، من أجل انتزاع النهر من البولنديين.
في حالة ليرمنتوف، تبدو الأمور أكثر سهولة، لحظة انتحال شخصية القيصر بيتر الثالث، أو لحظة الثورة على كاترين العظيمة. ولا يمكن الحديث عن شخصية "أدبية مشتركة" بين الروس والأوكرانيين، من دون التنقيب في "القوزاق" لليو تولستوي. وربما يكن السؤال عالقًا بلا اجابة حتى اليوم: هل كان أولينين موسكوفيًا مدينيًا أم أنه أكثر من ذلك؟ أين هي حدود العلائق بين القوازق وأريافهم وبين المدن الروسية؟
الأدب الروسي في النهاية هو أدب مرتبط بالإمبراطورية، ومعظم الكتاب الروس المعروفين هم كتاب بعد كاترينا العظيمة وبعد ايفان الرهيب، وفي حقبة حكم آل رومانوف. التوجه الليبرالي في النظريات الأدبية عمومًا، والذي قد يجانب الصواب أحيانًا، يرّجح أن يكون العصر الذهبي للأدب الروسي هو العصر الذي سبق الاتحاد السوفياتي، تحديدًا في منتصف القرن التاسع عشر وصعودًا. ولا تحتاج الأسماء الكبيرة في الأدب الروسي إلى عرض. لكن، من وجهة نظر أدبية صرفة أيضًا، فإن أبطال ذلك العصر تفوقوا على الأبطال السابقين في الأدب، بقدرتهم على التراجع عن الطابع الملحمي. كانوا أبطالًا أكثر نضوجًا، وقدرة على التوفيق بين خيارين أو خيارات متعددة، كما هي الحال مع قوزاق شولوخوف، أو مع العلاقة بين موسكو وأوكرانيا كما يتخيّلها بولغاكوف. ما يميّز ذلك الأدب، بشكل عام، قدرته الواضحة على توليد حالة سياسية واضحة، في مساحة يهمين فيها الواقع على الخيال، ويهيمن فيها الخيال على السرد. وبشكل عام، المجتمع المعقّد ينتج أدبًا معقدًا. وإذا كان التنوع واضحًا بوجوده في حد ذاته، إلا أن الخطوط التي تجمع بين المتنوعين وتفرّقهم هي خطوط غير نهائية، وأحيانًا بالكاد تكون مرئية. وهذا لا يتوقف على ورثة التاريخ السلافي، بل ينسحب على مجموعة كبيرة من الدول الحديثة، من تلك التي تعرضت لأحوال مشابهة لما تعرضت له أوكرانيا تاريخيًا، من كونها أرض نزاعات، ونقطة انطلاق أولى أو نهائية للغزوات.
منعت السلطات الأوكرانية روايتين هما "عربة الماس" و"مسبحة الزمرد"، للكاتب الروسي المولود في جورجيا، بوريس أكونين |
وإذا استبعدنا النشاط الإمبريالي التقليدي، فلا يمكننا استبعاد مزيج الحقائق التاريخية التي شكّلت الجغرافيا الأوكرانية، في كون هذه المنطقة وقعت في أوقات سابقة تحت هيمنة بولندية ونمساوية – مجرية، وهناك جزء من أراضيها عرف حضورًا عثمانيًا/ تركيًا، إضافة إلى أنها تعرضت مثل كثير من الدول الأوروبية للاحتلال النازي. رغم ذلك بقي الأثير الروسي على أوكرانيا هائلًا، وكانت معظم أراضي أوكرانيا الحالية تقع تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. وهي فترة صعود اللغة المشتركة، أو طغيان الروسية، وهي فترة صعود الرواية والأدب الروسي تحديدًا. وهذه ليست حقيقة هينة يمكن القفز عنها ببساطة. وعندما أصبحت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفياتي، تشاركت ما تشاركته مع الأدب السوفياتي، ولعب الأوكرانيون في منتخب الاتحاد السوفياتي لكرة القدم، وطغى التصور الأيديولوجي على العمل السينمائي والتشكيلي الأوكراني. ورغم الحديث عن "تسامح تاريخي" من السوفيات تجاه ثقافة أوكرانية مستقلة شرط أن تجد هذه الثقافة جذورها في تاريخ "سلافي" مشترك دائمًا، فإن القوميين الأوكرانيين يتحدثون اليوم عن قمع ممنهج للغة الأوكرانية، وعن تشويه متعمد لمصادر هذه الثقافة. وإن كان العمل التقني أو الفني مشروطًا بحضور الأيديولوجيا في داخله، إذا أمكننا الاستشهاد بمفكّر ليبرالي معاصر، هو يورغن هابرماس، فلن نجد صعوبة كبيرة في الاستنتاج بأن الثقافة السوفياتية لم تستهدف ثقافة أوكرانية بحد ذاتها، بقدر استهداف أي أيديولوجيا يمكن أن تكون معادية، وأن محاولة التقدم العلمي بالنسبة للسوفيات كان في معناه الأيديولوجي موازيًا لوظيفة الأدب في هذا النطاق، على عكس التصور القيصري القديم، للثقافة وللتوسع.
التصور القومي للرواية
الحرب الثقافية سبقت الحرب العسكرية. قبل 5 أعوام، وفي سياق عملية ممنهجة، منعت السلطات الأوكرانية روايتين هما "عربة الماس" و"مسبحة الزمرد"، للكاتب الروسي المولود في جورجيا، بوريس أكونين. ورغم أن أكونين كان معارضًا صريحًا لضم القرم إلى روسيا، إلا أن روايتيه مُنِعتا في أوكرانيا فقط لأن أحداثهما تدور في روسيا القيصرية. كما يتوجب على كتاب العالم النيوليبرالي اليوم مسابقة الخوارزميات لكتابة روايات تستحق الأهلية للترويج حسب الشروط النيوليبرالية للأدب بوصفه سلعة، فإن النزعة القومية الأوكرانية توجب على الكتاب اليوم أن يذهبوا بخيالهم غربًا، وأن ينزعوا كل علاقة بالتاريخ. ولكن ما هو الأدب سوى اللعِب مع الزمن وحوله. من المفيد التذكير دائمًا، بأن الغرب ديمقراطي، ولكن ما يحصل من حرب على الأدب الروسي أو على موقع روسيا في الأدب العالمي لا علاقة له بالديمقراطية. شيء يشبه ما يسمّيه الغرب نفسه "الاستخدام المفرط للقوة"، عندما تتمثل هذه القوة بإفلات وحش الطائرات الإسرائيلية فوق رؤوس الفلسطينيين. يملك الغرب الديمقراطي قوةً أساسية وهي الديمقراطية، وبالتالي لا يجب الاعتقاد بأنه متحمس لمشاركة هذا السلاح مع الآخرين وتصديره لهم، بتلك السهولة التي يتخيّلها البعض. يمكن أن تحدث هذه العملية عندما يكون ذلك مفيدًا. لكن المحاولة الأوكرانية لقطع العلاقة الأدبية مع روسيا معلنة وبدأت قبل ذلك بكثير، وإحدى أدوات هذه القطيعة لم تكن مديح الشكل الديمقراطي النقيض لروسيا والموجود في الغرب، بل كانت القمع نفسه.
مهما كان النقاش السياسي عن السيادة الأوكرانية محقًا لجهة العلاقات الدولية، فإن الجوانب الأدبية تبقى خارج السيطرة، لأنها ببساطة، داخل التاريخ، وليست خارجه، وإخضاعه لعملية فانتازية ليس مسألة قابلة للتحقيق على الأقل في مدى منظور. ما نقصده هنا، هو القمع المتواصل للأدب المتصل بتاريخ أوكراني – روسي مشترك، حتى في لحظة قيامه على الخيال، من قبل السلطات الأوكرانية. وقد لاحظ نقاد كثيرون الهوس بالهوية الثقافية في الأدب الأوكراني الجديد، مع ظهور نزعات عدائية واضحة ضدّ الأجانب وتفشي خطاب كراهية ظاهر، في مقابل منع روايات عدة، كما بيّن النقاد، تتعلق مواضيع متعددة، مثل روايات خيالية عن روسيا القديمة، قصص للأطفال أبطالها فرسان، إضافة إلى روايات تاريخية، وأعمال فلاديمير فيسوتسكي مثلًا، إلى جانب روايتي أكونين. وقد لا يكون أفراد كتيبة "أزوف" المحبين الوحيدين لهذا النوع من الأدب. المفارقة أن الرئيس زيلينسكي نفسه، بالنسبة لنقاد كثيرين، هو أكثر من مهرّج بكثير، ولكنه أقل من أن يكون سياسيًا أيضًا. أحد هؤلاء عرض اقتراحًا طريفًا: الرئيس الأوكراني الحالي مؤهل بشدة لأن يكون البطل الرئيسي في عرض من عروضات السينما الشعبية خلال الحقبة السوفياتية، من إخراج ريازانوف تحديدًا، بحيث يؤدي زيلينسكي دورًا رومانسيًا. لكن ذلك لا يعني أن الروس والأوكرانيين شعب واحد فعلًا، وأن النزعة القومية المتسربة إلى الأدب هي نزعة لا تاريخية بالضرورة. فالعلاقة بين الأدب والجغرافيا قابلة للتمزق والأحكام وفق شروط واعتبارات محددة.
ثمة فارق، لا يمكن تجاهله، بين أوكرانيا، وبين النزاع المشترك على "أوكراينا". في العلاقات الدولية، يمكن أن يكون الأمر أقل صعوبة مما عليه في الأدب، أو في تاريخ الأدب. وربما، قبل كل شيء، علينا البحث عن النزعة القومية الأوكرانية في أعمال تاراس شفتشنكو قبل أي مكان آخر. لكن، أصداء المحاولات الروسية لتأكيد روسية أوكرانيا، ضدّ الخطر البولندي الكاثوليكي، ستجد مكانها في بدايات علاقات البلاط الروسي بشفتشنكو نفسه. رغم الفوارق الكبيرة، يشبه اختيار شفتشنكو الأوكرانية لغة لكتابة تاريخ شعري – ملحمي، في زمنه، ما فعله دانتي قبله بقرون مع الإيطالية، ضدّ هيمنة اللاتينية. وفي الحالتين، لعبت اللغة دورًا أساسيًا في بناء أسس قومية، أو أسس لتصلح لتأسيس أمة، بحيث توفر اللغة شروطًا للبحث في تواريخ مشتركة، عندما تدعو الحاجة لذلك. ذلك أن دانتي كان بعيدًا عن غاريبالدي في الزمن، وكذلك كان شفتشنكو، بعيدًا عن أوكرانيا القومية الحالية، وكان طموحه يقتصر على الزج بالمزيد من الخيال الأوكراني في المشهد السلافي الكبير، من روسيا إلى بولندا، مرورًا بأوكرانيا نفسها. ومن يراجع أعماله، الشِعرية، سيجد "السهول البرية" المشار إليها في الخرائط القديمة، تنمو بوداعة حول المدن الروسية الكبيرة، التي شكلت البوابة الحقيقية لأوروبا، وليس أوكرانيا، كما تعتقد القومية الأوكرانية المعاصرة عن نفسها وعن جغرافيتها اليوم. سيجدها، كما هي، على الحدود الطويلة، بين روسيا، بوابة أوروبا إلى آسيا، وبين أوروبا نفسها.