}

الكتابة تحت النار: عن حرب الصورة ومعنويات المنكوبين

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 21 أكتوبر 2023
هنا/الآن الكتابة تحت النار: عن حرب الصورة ومعنويات المنكوبين
الكتابة تحت النار تعني أن تلقي بالًا لكلِّ حرفٍ
كيف لنا أن نختلف يا راسم المدهون وقد سبقتني، سبقتنا جميعًا بالعزف المنفرد على "... جحيم المحرقة... ليس كالموت سوى الموت"؟ ("ضفة ثالثة"، 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023). من أيّ مَدادٍ تنقش حروفك يا نبيل سليمان حول الجمعِ بين النصر وحزنِ الطريق إليه؟ ("رسالة في الثورة والطوفان"، "ضفة ثالثة"، 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023). (أعذروني حين لا أورد الألقاب، فقد انتزعها جميعها أبطال الأرض والرؤيا). كما لا يمكن الحديث عن حرب الصورة من دون التعريج على مقال سميرة مسالمة "عودة إلى "التغريبة الفلسطينية" وحرب الصورة" ("ضفة ثالثة"، 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، وفيه ترى أن التفاصيل اليومية للتغريبة الكبرى في عام 1948، وما تلاها حتى اليوم، لا اختلاف فيها "كأن الأمس هو اليوم، فيتحول المسلسل من ذاكرة التاريخ إلى مذكرات المستقبل، هذه فلسطين بكامل جغرافيتها، تكتب كل يوم ذاكرتها الأليمة، ويرتحل سكانها من تغريبة إلى تغريبة"، لتخلص إلى القول إننا "نحتاج فعليًا إلى تعميم الصورة الحقيقية للنكبة الفلسطينية الجديدة، بعيدًا عن كل تزوير، وبنقد سلبياتها بواقعية، والتعريف بأخطائها، ونقد المسؤولين عنها، ولاحقًا مساءلتهم، حيث الحقيقة تكشف حجم التزوير، فالصورة هي الرهان القادم، وهي السلاح الذي يطلقه إعلام الغرب في وجه القضية الفلسطينية، ولهذا كثر التزوير والتدليس، ما يتطلب صحوة إعلامية تواجه الصورة المفبركة بالصورة الحقيقية والشهادات الصادقة".
هذا غيض من فيض الكتابة تحت النار، حيث يحتاج مقال يُكتب خلال راهنية هذه النار التي تحرق الأخضر واليابس، ويتكوّن من 1000 كلمة على سبيل المثال، إلى 30 شهيدًا، ومئتيّ جريحٍ، وبرجيْن سكنييْن مهدوميْن، وعائلة مشطوبة من سجل الأحوال المدنية!
أن تكتب تحت النّار يعني أن تلقي بالًا لكلِّ حرفٍ وكلِّ نأمةٍ، وتضع في اعتبارات عينيّ قلبكَ رجفةَ طفلٍ، وحيرةَ صبيةٍ، وحرقةَ أُم. يعني أن تنزاح قليلًا نحو لغة الناس، وتنصهرَ كليًّا في آلامهم وأنّات يوميّاتهم. أن يجفّ حلقك حين يعطشون، ويزهد جسدك حين يجوعون، وتنسحق روحك كما تنسحق أجسادهم تحت ركام حجارة شيّدوها (كل شبر بنذر)، فها رجل من أبناء غزة يبكي حرقة على البيت الذي احتاج امتلاكه 40 عامًا من عمره الذي طال كي يراه بأمِّ قهره وهو يتحوّل إلى كومةٍ من أسى.
أن تكتب تحت النار يعني أن تضع النقاط على الحروف، وتحدّد أطراف الحكاية بوضوح: ذاك خائن، وذاك جبان، وأولئك مرجفون، وهذا يجترح أركان بطولة كدنا ننسى تجليّاتها، حتى بتنا لا نصدّق معجرة حدوثها.
ثم أنت وخلال إنجاز الطائرات غير المرئية لِمهامها (الاستراتيجية) باستهداف سيارة إسعاف، أو سوق لآخرِ أنفاس الحياة، أو مسجد لأدعية الفرج، أو شاحنة للهاربين من الشمال إلى الجنوب، أو من الشرق إلى الوسط، أو من الغرب إلى الكرب، تخشى أن تكتب عن رحلةٍ عائلية، أو شطحةٍ غرامية، أو عيد ميلاد حفيدة، أو حفيد، فتصبح في عِداد خائني هذه الملحمة المنسوجة بالدم المنثور في وجه الدنيا وما عليها، الممهورة بأشجان صمود مستحيل، المسطّرة بنبضٍ لا يريد أن يخبو، أو يموت.
تكتب حُزْنَ وجدانك مطاولًا أضعف الإيمان، متداركًا عجزك عن نصرة القابعين تحت القصف بفعلٍ على الأرض، أو بصيحات غضب في الساحات والمظاهرات.




الأسرع تفاعلًا من الشعراء والأدباء، تمكّنوا خلال الأسبوع الأول لِجريمة العقيدة الصهيونية فوق أرض فلسطين، من كتابة قصيدة، أو ما يقترب من نصٍّ ينتظر آفاق النهاية. بعضهم تذكّر قصيدة قديمة له، أو لغيره، تتقاطع مع مفردات شريط الأخبار الدامي، كما فعل الشاعر السوري عبد القادر الحصني، حين نشر على صفحته (الفيسبوكية) قصيدة قديمة له منشورة في ديوانه "الشجرة وعشق آخر" الصادر عام 1980:
"ومتَّحِدٌ مع الزّيتونِ
مُتَّحدٌ مع الزّيتِ/ النّزيفِ
أضيءُ في ليلِ الملاحمِ هضبةَ الجولانْ
دمي: كلُّ النّذورِ تمرُّ عبرَ دمي
وصدري عامرٌ بطفولةِ اللّيمونِ في (بيسانْ)
وعُمْري: عُمْرُ مجزرةٍ
هديلُ حمامةٍ في الغورِ
سوسنةٌ
وألفُ رصاصةٍ في الرّأسِ
طعنةُ خِنجرٍ في الظَّهرِ...
يا أهلي.
لكلِّ قصيدةٍ أمٌّ وأطفالٌ وفأسٌ تعزقُ الأعصابْ
لكلِّ قصيدةٍ وجعٌ يُشرِّشُ في ضلوعِ الصّخرِ
يَلبَسُ ثوبَ أغنيةٍ ووجهَ كتابْ
لكلِّ قصيدةٍ قلبٌ وشباكٌ على الأحبابْ
ومتَّحِدٌ مع الزّيتون".

معجزات المقاومة في عبقرية الصورة

كثيرون تذكّروا قصيدة "لا تصالح" للشاعر المصري الراحل أمل دنقل (1940 ـ 1983)، من مثل المقطع الذي يقول:
"لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلّت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك... المسوخ".
أو المقطع الذي يقول: "إنها الحربُ... قد تثقل القلبَ... لكنّ خلفَك عار العرب".
الشاعر العراقي المقيم في عمّان محمد نصيف نظم من وحي "طوفان الأقصى" قصيدة حملت عنوان "طوفان الأقصى في تشرين" يقول فيها:
"هذي فلسطينُ دربُ الحقِّ فانتسبوا
تاجًا من العزِّ تُهدي كلَّ منتسبِ
هذي فلسطينُ أرضُ الأكرمينَ حمًى
والمصلحينَ اعوجاجَ العالمِ الخَرِبِ
تبقى فلسطين للأحرارِ بوصلةً
وللعراق مسارَ النبضِ والعَصَبِ
يبقى العراقُ بكل الحادثات لهُ
رأس الطليعةِ إن دارتْ رحى النُّوَبِ
وجهُ العروبة بسامٌ إذ انقشعتْ
عن شمسهِ ما تغشاها من الحجبِ
قل للمطبعِ قد شاهتْ وجوهُكُمُ
رُدّتْ بضاعتُكُم في شرِّ منقلبِ
أخلاقُكُم جَرَبٌ يجتاحُ أمتَنا
طوفانُ غزةَ تطهيرٌ من الجربِ".
الشاعر الفلسطيني غسان زقطان أبدى، مبكرًا، تفاعلًا ناضجًا مع أسطورة البعث الجديد، فأكثر على صفحته (الفيسبوكية) من نصوص قديمة له، مثل "صلّي لنا" التي كتبها قبل أكثر من 33 عامًا، وغنّاها بحدود عام 1990، الفنان السوري المقيم في فرنسا سميح شقير:
"صَلّي لَنا حينَ نَنعسُ ـ يا أُمُّ
قدْ لا نَفيق
وَصَلّي لنا حينَ نَنهَضُ 
قَد لا نَنام
وَصَلّي لَنا حينَ نَرجعُ مِن وَحْشَةِ الحَربِ
في روحِنا عَتمةُ المَوتِ
عُشبُ القُبورِ
وَطينُ الأَبَدْ...".
كما بدأ زقطان بنشرِ مقالاته في "النهار العربي" على صفحته، منها مقال يقول فيه: "حكمة هذه الحرب وقسوتها أنها أخرجت الجميع إلى الشارع من دون أقنعة، بوجوه مكشوفة يقف الجميع في مواجهة بعضهم بعضًا، من دون بلاغة اللغة، أو آداب الجلوس، الفاشية الصهيونية، ونفاق دول الاستعمار الغربي، وهزالة النظام الرسمي العربي".
زقطان لم يكتف بنصوصه وكتاباته حول "جنرالات يبحثون عن أوسمتهم بين جثث الأطفال"، بل نشر للشاعر الغزّيّ ناصر رباح هذا المقتطع من نصٍّ له: "ولا ساتر لي سوى الخجل الغامض، أمام أولئك الذين يواصلون التحديق بي بحثًا عن ذكريات أولادهم".
ومن ديوانه "بطولة الأشياء" (1988)، نشر هذا المقطع:
"سنأتي على ذكرهم كلّهم
يومنا حافل والطريق الطريق
وما زال يأتي الأسى حين نأسى
أيّنا سوف ينعس والليل يلمع كالسيف
أيّنا سوف ينسى!
أسكتوا الطفل لا تتركوا الأرض تبكي
ولا تهِنوا
واحفظوا ظلّهم
سوف نذكرهم كلّهم
يومنا حافل والطريق الطريق
وما زال يأتي الأسى حين نأسى
أيّنا سوف ينعس والليل يلمع كالسيف
أيّنا سوف ينسى!".
ولأنها كتابة تحت النار، لا تحتاج إلى كثيرِ استعارات وبلاغة ومجاز وانزياح على لغة الشارع الآن، فقد كتب الشاعر السوري نوري الجراح على صفحته: "لا شيء مما يجري يجعلني أقبل بنفاق العالم وهو يحوّل صورة الجلاد إلى ضحية... وصورة الضحية الفلسطينية إلى إرهابي لا لخلط الصور وسرقة المعاني!". وكتب: "أمس كان يوم الغفران، أما اليوم فهو يوم الغضب. هكذا تكون المفاجآت التي تصنع المعنى!".
الشاعر الأردني هيثم النسور قرأ في الطوفان "بشائر" أملٍ فأنشد يقول:
"رَسَمْتُمْ بِـسِفْرِ الْقُدْسِ لِلْمَجْدِ لَوحَةً

                          يُـزَيِّـنُـهَــا بَـعْـدَ الْـهَــوَانِ إِبَــاءُ

فَهَٰذِي رِحَابُ الْأَرْضِ ضَاقَتْ بِمَكْرِهِمْ

                        وَمَـا عَـادَ لِلْـحِـصْـنِ الْـمَنِيعِ رَجَـاءُ

رَكِيكٍ كَـبَـيْـتِ الْعَنْكَبُوتِ يَشُقُّهُ

                         سِـلَاحٌ لَـهُ فِي الْـخَـافِـقَـيـنِ صَـدَاءُ".
الكاتب الفلسطيني د. أدهم الشرقاوي، حدّق في فوهة اللهب، تأمّلها وكتب: "إنها المعركة الأولى في التاريخ التي تسبق نتيجتُها نهايتَها، فهنيئًا لكم هذا النصر الذي لن يُغيّره توقيت نهاية المعركة. لقد أحدثتم في روح هذا الكيان شرخًا لن يُرمَّمَ أبدًا، ودققتُم في نعشه مسمارًا لن يستطيع نزعه، وأعدتم إلى الأمة كلها روحًا كانت قد فقدتها، فكأنها نفخة إسرافيل في الناس الميْتة أن قوموا... ثمة مشاعر عِزَّة زرعتموها فينا أنتم لا تعلمون شيئًا عنها، فالعصفور لا يعلم ما يُحدِثه صوتُه في قلوب سامعيه، والوردة لا تستطيع أن تشمَّ شذاها".

صورة تقول كل شيء


حرب الصورة
احتدمت، منذ لحظات "الطوفان" الأولى، حرب الصورة، وكما حققت كتائب القسّام النصر العسكريّ والأمنيّ والاستخباراتيّ والمعنويّ والوجوديّ في الميدان، حققت النصر الإعلاميّ على صعيد الصورة والحرب النفسية، وهي لا تبثّ إلا ما تراه مناسبًا، ولا تقول إلا ما تعزّزه بالصور والفيديوهات. وبعد أن كادت فريَة قطع الرؤوس تفعل فعلها بالمستعدين لتصديق تلك الرواية الركيكة المضحكة، وإذا بالحقائق على الأرض تكذبها بشكل فاضحٍ مزرٍ.




وكل ما قطفته تلك التلفيقة من ثمار كان قتل الطفل الفلسطيني وديع عدي الفيومي ابن الستة أعوام على يد مالك بيت أهله في ولاية شيكاغو، الذي طعنه 26 طعنة، وطعن أمّه 12 طعنة وتركها في حالة حرجة، في الوقت الذي كان الصبي يركض نحوه ليعانقه، فالقاتل كان حتى قبيل انزلاقه نحو الكراهية، يمنح وديع اهتمامًا خاصًا ويلاعبه، وبالتحقيق معه قال إن حديث رئيسه جو بايدن عن قطع رؤوس أطفال يهود هو ما أعمى بصائر إنسانيته، ودفعه إلى ارتكاب هذه الجريمة النكراء وهو في نهايات عقده السابع.
فيديوهات يوم تحييد فرقة غزّة عن بكرة أبيها بين قتيل وجريح وأسير، كانت تستعيد بعض كرامة شعوبنا من جهة، وتزيد، على المَقلب الآخر، نار حقدهم واندفاعيتهم الجُرمية وعدوانيّتهم الغرائزيّة.
أما الصورة الأيقونة التي انتزعت الدهشة من أعماق صبواتها، فتلك الخاصة بالطائرات الشراعية، يركبها المقاومون، ويحلّقون بها فوق أرض أجدادهم، وينزلون على الثكنات كما لو أنهم الطير الأبابيل، وكما لو أننا نشاهد فيلم خيال علمي.
والحقيقة أن الصورة، هذه المرّة، كانت أبلغ من كل قول، وأوجع من كل حرف، وأندى من كل ماء، وأقنع من كل برهان.

معنويات المنكوبين
في استكمال للوظائف التي تكفّلت بها الصورة خلال ما مضى من أيام الحرب على غزّة، فإن مشاهد ضحايا القصف من المدنيين تدمي القلب، خصوصًا وأن الأطفال والنساء يشكّلون ثلاثة أرباعهم، ولأن القصف المسعور لم يتوقّف، فإن الموت والدمار، بدورهما، لم يتوقّفا، وشكّلا الملاذ الآمن لكثير من القنوات العربية الرسمية، يفردون على مدار الساعة جزءًا من شاشاتهم للضحايا والصرخات والاستغاثات وفجائعية موت الطفولة، كما لو أن لسان حال بعضهم يريد أن يقول إن على أهل غزّة أن ينفضوا أيديهم من (الإرهابيين) المتّخذين من أجسادهم النحيلة دروعًا بشريّة!
لكن المتابع الذي لا يقبع أمام شاشة بعينها، سيرى ويسمع كثيرًا ممن ينزفون يصرخون بعالي الصوت أنهم لن يستسلموا، ولن يسمحوا لفصائل مقاومتهم أن تستلم، ويطالبون الأبطال أن يكملوا ما بدأوه. أنا شخصيًا سمعت نبرة هذه المعنويات العالية من فتيان ويافعين ورجال مسنّين ونساء من مختلف الأعمار. يبدو أنهم حفظوا جيدًا بلاغة بيت شعر كتبه يومًا ما واحد منهم: "فإما حياة تسرّ الصديق/ وإمّا ممات يغيظ العِدا"، أو لعلّ قفلة خطاب تشي غيفارا تحت قبّة الأمم المتحدة في 11 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1964، ما يزال صداها يرنّ في صدور الثوريين على امتداد جهات العالم: "الوطن أو الموت". أو لعلها صيحة الحسين عند أطراف وادي الطف في عام 61 هجريًّا: "الموت ولا المذلّة". يصمدون وهم ينشدون مع سميح شقير: "إن عشت فعشْ حُرًّا/ أو مُت كالأشجار وقوفًا... وقوفًا كالأشجار".
أهل غزّة يعلمون علم اليقين أن الطغيان الذي، على مدى التاريخ، يحاصر القلوب، ويحاصر الفكرة، ويحاصر المدن، سيندحر، طال الزمن أم قصر، "وأما المدن فلها نشيد الخلود، يغنيها البقاء فتبقى".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.