}

سياسة الصور أكثر ضراوة من سياسة الكلمات

فريد الزاهي 5 نوفمبر 2023
هنا/الآن سياسة الصور أكثر ضراوة من سياسة الكلمات
الصورة الفائزة بجائزة الصحافة العربية في دبي عام 2007
لا أدري لماذا نتعامل مع الصور بهذا القدر البالغ من المفارقة، فننعتها تارة بالكذب والزيف، ونتعامل معها تارة أخرى بكثير من الحسية والعاطفية، حتى إنها لتبكينا أو تضحكنا. فرغم كوننا عايشنا الصور التقنية والتكنولوجية منها بالأخص، وعشنا فورتها مع العولمة، منذ أن صارت غذاء الناس اليومي، إلا أن ثمة شيئًا ما زال ينفلت منها من بين أيدي أفهامنا. الصور أضحت من التنوع والقوة بحيث أنها تبدو وكأنها جاوزت كثيرًا وظائف اللغة والكلام والتواصل؛ وكأنها أضحت مجاورة لنا في حياتنا، تلفنا بسطوتها، وتتكلم عوضًا عنا، حتى إنها لتكاد تخرسنا. إنها صارت عيننا وبصيرتنا التي بها نرى وقائع العالم، إلى درجة أننا أحيانًا لم نعد نميز في فيضها الخاسر من الرابح والمعتدي من الضحية...

الصور الصادقة والصورة الكاذبة
للأسف، بعد هذه العقود الطويلة لمعاشرتنا للصور، ما زلنا نعاملها بمنطق اللغة والكلام. إننا إما نحبها حدّ العشق في اللوحات التشكيلية والسينما والفوتوغرافيا والصور الاستطلاعية، أو نذمها حدّ القرف حين يتعلق الأمر بالحرب أو الأحداث السياسية، وغيرها. ولأننا نستعملها على هوانا، ونسجل بها ما نبتغي وتؤرخ لإيقاع حياتنا اليومية، فإننا "نتلفظ" بها بطريقة صارت عفوية، من غير أن ننتبه للدلالات والمعاني التي يمكنها أن تولدها لنا وللآخرين، في الوقت الذي ننتبه كثيرًا لما نتفوه به من كلام، ولما نسمعه ونؤوله ونسعى إلى إدراك مقاصده.
هذا لا يعني أن الصور دومًا صادقة، أو دومًا كاذبة. فهي قد تكون هذا، وقد تكون ذاك. ثمة دومًا كثير من الذاتية والطابع الشخصي والخيال في الصور. فالتأطير ووجهة النظر ونوعية التعامل مع النور كافية لوحدها لكي تمنحنا صورًا مشوبة بمقاصد صاحبها. أما إعادة استعمال الصور ونشرها فيخضع أيضًا لتدخلات قد تبعدها عن معانيها الأولى. الصور تكون كاذبة حين نريد لها ذلك. وكذب الصور كان أولًا، وقبل كل شيء، لأغراض سياسية واستراتيجية، كما للدعاية، قبل العصر الرقمي بكثير. الصورة لا تكون كاذبة لأنها تنزاح عن مرجعها، إذ أن هذا الانزياح قد يكون بلاغيًا أو فنيًا. والصورة لا تكون كذلك حين تؤوّل المرئي، أو الحدث، لأنها تغدو صورة سياسية بهذا المعنى أو ذاك.




وحين نستعيد صورة ما في سياق آخر نغير من معانيها ودلالتها، بحيث إنها قد تغدو كاذبة. كم من صورة تنتمي لمكان وزمن آخرين ووظفت وكأنها معاصرة لنا وتعبر عن حدث قريب منا. وكم من صورة أعيد استعمالها بطريقة مغايرة فصارت مغتربة عن معانيها المرجعية الأصل.
التلاعب بالصور قد يكون لهدف شخصي، بغرض تجميل الملامح وتعديلها، تبعًا لما توفره تطبيقات خاصة بذلك (الفوتوشوب وغيره). إنها تخلق نوعًا من الانفصام لدى الشخص بين ما هو عليه وبين ما يرغب في أن يكون عليه. وهو أمر يخلق مفارقة بين الشخص "البصري" والشخص الواقعي الذي نلاقيه. والحال أن هذا التلاعب قد يمحو عناصر شخصية من الملاحة، كلون الشخص، أو شكله وتداويره وملامحه، ويسطحها لتتطابق مع الأنموذج السائد المطلوب. وقد يكون لهدف سياسي عام، للتدخل في مجريات الأمور وتحويل الأنظار عنها، أو منحها طابعًا مرغوبًا فيه. الصور هنا تخضع لمقاصد مستعمليها، وتخلق شرخًا كبيرًا في العلاقة بين الوجود وبين الممكن الذي يتحول إلى موجود بفعل هذا التدخل.
بيد أن الصورة لا تكون كاذبة تمامًا، لأن أصلها غير كاذب. فكما يقول جاك دريدا في "تاريخ الكذب"، من الصعب البرهنة على أن صورة ما كاذبة، لكننا يمكننا البرهنة على أنها لم تقل الحقيقة. وقد قال دي مونتيني بذكائه الباهر في المقالات (من ترجمتنا، 2021): "ولو أن الكذب كان كالحقيقة، ليس له غيرُ وجهٍ واحد، لهان الأمر، ولكفانا ساعتها أن نرى الحقيقة نقيضَ ما ينطق به الكاذب. لكن نقيض الحقيقة له ألف وجه ووجْه، وأمامه مجالٌ للفعل لا نهاية ولا حدود له".

الفنان الألماني الفرنسي بول كلي (Getty) 

الكذب مرتبط بالقصدية. وكان ألكسندر كويري قد حلل علاقة الأنظمة التوليتارية بالكذب، ومن ثم بالدعاية. بيد أن الديمقراطيات الحديثة لم تألُ هي نفسها جهدًا في ذلك، لأنها تصنع صورتها لا من خلال الأقوال ولكن ـ اليوم بالأخص ـ من خلال صناعة الصور، ومعها صناعة الكذب. إنه كذب لا يمكن للسياسة الداخلية ولا الخارجية لهذه الدول أن تتأسس من دونه. وكما تقول حنة أرندت: "إن الصور، على عكس البورتريهات المرسومة على الطريقة القديمة، لا يُطلب منها أن تحاكي الواقع، ولكن أن تحل محله كليًا. ونظرًا إلى التقنيات العصرية ووسائل الإعلام، يصبح من الطبيعي أن يتمتع هذا البديل بأهمية أكبر من تلك التي يحظى بها الأصل". هكذا حين تغطي الصور على الواقع، تصبح هي الواقع، تصنع الحدث أو تمحوه، وتحوّل الأنظار عن الأساسي لتوجهه نحو مواطن أخرى. وتلك هي سياسة الصور التي أضحت تصنع الواقع السياسي.

الصورة العدوانية والصورة المقاومة
لماذا تختلف صور الكوارث الطبيعية عن صور العدوان والحرب؟ لسبب بسيط هو أن ليس ثمة من تعارض وتناقض في صور الكارثة، سوى بين حتمية الطبيعية ومقاومة بني البشر. إنها صور الصمود والدمار والخراب الطبيعي الأهوج. والصدمة غالبًا ما لا تترك الوقت للتلاعب بالصور. في المقابل، لا يبدأ ذلك التوجيه القصدي للصورة، ولا تترجْرج قيمة الصور إلا في التضخيم من التضامن، أو حين تدخل اللعبة السياسية المحلية، أو الدولية، في التفاعل مع الكارثة. وتتزايد لعبة الصور حين يدخلها أناس بهدف استغلالها. المؤثرون واليوتوبيون أضحوا وسيطًا فعالًا ينقض على الأحداث ليؤولها لصالحه، ويمنحها المسار الذي يبتغيه.

في الحرب العدوانية، صارت الصور اليوم تأخذ مكانة التصريحات المتبادلة، وتكذبها وتفندها، أو تؤكدها. ثمة في الحروب العدوانية وجهتا نظر تتبادلان التهم والحرب بالتصريحات والصور. بيد أن سياسة الصور لم تعد اليوم بيد القوي المعتدي فقط، ففي ما يحدث في غزة، اليوم، ثمة صور إسرائيل، وصور حماس، أي الصور التي تتبادل في ما بينها حربًا هوجاء، وثمة الصور من الداخل التي يُشهرها الشاهدون. إنها صور المقاومة اليومية والشهادة الآنية على ما يقع من بشاعة تفوق التصوّر.
يقول بول كلي بأن التجريدية في الفن تنشط في واقع الحروب المرعب؛ لا لسبب سوى لأن الحرب تشوه معالم الطبيعة والعالم، فيغدو المرئي غريبًا لا يحيل إلى ما كان عليه. وكثير من الصور التي تصلنا عن الخراب في غزة أشبه بلوحات تجريدية لا معالم فيها للواقع، من بنايات وشوارع وأشجار. إنه خراب يشبه القيامة، ونهاية العالم، كما صوّرها عدد من أفلام الخيال العلمي. صور الحرب بخرابها ومشاهدها المأساوية صادمة، لكن الصور الأكثر إثارة، والأكثر تأثيرًا، هي تلك التي تنبني على المفارقات: بيوت محطمة وفي وسطها طفل أو طفلة أو امرأة مسنة أو مجموعة أطفال يعلنون بقايا الحياة وسط الدمار. إنها أيضًا صور الحرائق تشتعل وترتفع في السماء...




الصور الحية التي تعلن عن بقايا الحياة في الدمار هذه هي التي تغدو صورًا أيقونية، وتعلن عن مقاومة الحياة للموت، وعن الاستمرار رغم أهوال العنف التي يواجهها شعب أعزل معزول عن العالم وعن ضروريات الحياة. لهذا تظل الصور الفوتوغرافية هي التاريخ البصري للمقاومة: مقاومة الموت ومقاومة المحتل الغاشم. وإذا كانت صور الفيديو التسجيلية تمنحنا الواقع في وحشيته الحية فإن ذاكرتنا لا تختزن منها إلا صورًا ولقطات.
في 2007، كنت رئيسًا للجنة الصورة في جائزة دبي للصحافة، وقد منحت لجنتنا الجائزة الأولى لصورة التقطها مصور فلسطيني تمثل طفلًا فلسطينيًا يرشق دبّابة هائلة بحجر في زمن انتفاضة الحجارة. ونشرت جريدة إيطالية في بدايات العدوان على غزة الصورة نفسها، وصورة مقاتلين يهاجمون دبابة، معلّقة من باب المقارنة: "لقد كبر هؤلاء الأطفال"... إن هذه الصور التي تغدو أيقونية تصبح علامة رمزية على فترة تاريخية، وتتجاوز زمنها لتكتسب راهنية دائمة. إنها الصور التي تصبح تاريخًا بصريًا لا ينمحي حتى حين تعود الأمور إلى مجاريها، لأنها أشبه بالندوب التي تظل موشومة على الجسد.



تُنسى التصريحات الحربية، ويطويها الزمن، ولا تخلدها الذاكرة لأنها تتشابه، سواء في صيغها، أو في مضامينها، ولا تتغير منها الأسماء والأماكن. أما الصور، بالرغم من وفرتها في عصر العولمة الرقمية، فإن بعضًا منها يظل حاضرًا في أرشيف الذاكرة. وصور الخراب والأطفال الشهداء تحت الأنقاض، أو وراءها، محمولين على سواعد آبائهم وأمهاتهم، ستظل ماثلة أمام أعيننا مهما أنستها إيانا عوادي الزمن، لتذكرنا أن اغتصاب الأرض والوطن، لا يمكن أن يولّد إلا هذا العدوان ببشاعته التي يعجز عنها الوصف وتعز في ذكرها الكلمات...
وحدها كلمات محمود درويش تمسكها في عبثيتها الوجودية في قصيدته المالارمية: "أنا لاعب النرد":
لأن ألوفًا من الجند ماتت هناك
من الجانبين، دفاعًا عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان: هيّا. وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين...
يموت الجنود مرارًا ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصرا!
ومصادفةً، عاش بعض الرواة وقالوا:
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أخرى....

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.