}

كيف صارت "نهاية العالم" واقعًا في غزة؟

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 6 نوفمبر 2023
هنا/الآن كيف صارت "نهاية العالم" واقعًا في غزة؟
طفل فوق مبنى دمرته إسرائيل/خان يونس جنوب قطاع غزة(5/11/2023/Getty)

بعد رواج تحويل روايات الرعب إلى أفلام سينمائية، قدم كثير من الكتاب تخيلات مرعبة عن نهاية العالم، أو مصيره، في ظل الكوارث الطبيعية المتلاحقة حينًا، أو الحروب الهمجية حينًا آخر، حيث يحل الدمار بكل مكان، لاجئون يهيمون على وجوهم، وفرق مرتزقة فاسدة ومتوحشة تعلن انتصارها على مدنيين أبرياء، وساحات مزدحمة بالخراب يتجول فيها ملك الموت، أوبئة تنتشر، مياه آسنة تحاصر المكان، وجوع ينهش أجساد المتمسكين بالحياة، لا قانون يحكم القتلة، ولا فرصة للنجاة، هذا هو الواقع بين دفتي كتاب، والذي كثيرًا ما انتزعنا من الواقع المؤلم، إلى مستقبل مشؤوم، تفوح منه رائحة الدم، ويحكمه قانون الغاب.
لا يبتعد الكاتب البريطاني آدم نيفيل في روايته "الفتاة الضائعة/ lost Girl"، التي صدرت عام 2016 في وصف العالم الفاسد، عن حقيقة ما هو واقع اليوم، وما نراه بالصوت والصورة، وفي بث مباشر لكل أنواع العنف المتخيل، وهو في استشرافه لمستقبل ليس ببعيد، إنه العام 2053، كما يحدد تاريخ أحداث روايته، ينقلنا من دون أن يقصد إلى ما يحدث اليوم في غزة، فربما لم يكن يعلم أن هناك من هو أسرع في صناعة تلك المدينة الفاسدة بثلاثين عامًا.
غزة مدينة صغيرة، تختصر عالم الإثارة والخوف، تمامًا كذلك العالم الذي سعى الكاتب إلى تحذيرنا من هوله، خلال رحلته الأليمة في البحث عن طفلته ذات الأربع سنوات المخطوفة من حديقة منزله، والأحداث التي يمر بها خلال رحلة تحوله من أب إلى ناقم، لتعميق شعورنا بالرعب، والخوف، مما ينتظرنا في مستقبل قريب، في واقع يغوص بالخراب والموت، ويصل بنا إلى ذلك الوصف المريع لحياة إنسان مهزوم، وغاضب ومشتعل بالرغبة بالانتقام.
الطفلة المختطفة في رواية رحلة الانتقام والدم، التي بحث عنها الكاتب في عالم مستباح من غضب الطبيعة، وتمرد القتلة، وغياب القانون، هي الآن هنا، في غزة 2023، ليست في إحدى مدن بريطانيا، بل هنا تنام جثة هامدة بين ركام بيتها، وتحت أسقف مشافيها، هي تلك التي تبكي عطشًا وجوعًا، وتبحث بين الأشلاء عن يد أمها، أو وجه أبيها، وهي الطفل الذي غفل عنه والده، وهو يسعف من الآلاف من الأطفال غيره، ليجد ابنه مقتولًا تحت خيمة، وهي تلك التي يحملها والدها، أو جدها قطعة من دم، وهي أيضًا ابنة كل فلسطيني الذي لم تهزمه الفيضانات والعواصف والسيول، بل هزمته الإنسانية والإنسان ودعاة حقوقهما.




لا يحتاج أدب "الرعب" في عالمنا الحالي سوى لمقدرة لغوية تنقل صورة الواقع إلى كلمات تكتب، أو تنقل تلك الكلمات إلى صورة ناطقة، فحين تقرأ وصف (Adam Nevill) عن ما حل بعالمه، بعد أن صار مفجوعا بابنته يمكنك أن تتصور أنه يتحدث عن سورية، عن مدنها المدمرة، عن وحشية العصابة التي تعيث فسادًا فيها، عن تجارة الألم، والقتل تحت التعذيب، يمكنك أن تقول وأنت تشاهد شاشة فضائية تنقل الحرب على الهواء: "إنها غزة"، وقد خرج عالم الهول من صفحات الكتاب، وتحول إلى واقع يحيط به الدمار، صنعه محتل بآلته الحربية، وتشاهد بالصوت والصورة رجالًا يبحثون عن أولادهم، وآبائهم، عن أم لم يبق منها إلا ثوبها المضرج بالدماء، ويد طفل مكتوب عليها اسمه بأحمر شفاه، أو قلم تلوين كان يرسم فيه شجرة وعصفورًا يطير فوقها، ونهرًا على حافته كوخ صغير.
في عالم يرعى الطفولة لضمان مستقبل أكثر أمنًا، كالغرب مثلًا، حيث تتعمق الدراسات، وتتكاثر مراكز البحث السلوكي، كثيرًا ما حال الآباء دون وصول أطفالهم إلى روايات الرعب، خشية أن يتملكهم الخوف، أو تنحو بهم إلى العدائية في سلوكهم، وهذا الغرب، اليوم، هو ذاته الذي لا يرى ضغينة أن يعيش أطفال غزة، كما عاش سابقًا أطفال سورية، حالة الرعب، وأن يتملكهم الخوف، أن يكونوا هم الضحايا، أن يكونوا الدم الحقيقي الذي يتغذى عليه مصاصو الدماء، أن يكونوا الجثث المتناثرة التي يخافون على أطفالهم من رؤيتها في الأفلام، أو يقرأون عنها في قصص الخيال والرعب، التي يصنعها كتّاب من خلف الشاشات، والكاميرات، على الرغم من أن الدم الذي يسيل في تلك الروايات والأفلام هو مجرد حبر يراق على الورق، أو محلول يصنع من لون وماء.
تثير ما تخلفه هذه الحرب الهمجية أسئلة كثيرة لحاملي الأقلام المبدعة، منها ما الذي تركته غزة لخيال كتّاب روايات الرعب؟ ماذا سيصنع المخرجون ليثيروا رعبًا أكبر من رعبنا الحالي؟ أي أفكار أكثر جهنمية من تلك التي تصنع هذا الدمار والموت في غزة؟ أي سيناريو سيكون مأساويًا يتفوق على الواقع؟ وأين يمكن أن يجدوا "لوكيشن" لتصوير الخراب والفوضى، أكثر من هذا المكان الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية في غزة؟ وهل سيتقن الممثلون نظرات الخوف التي تعتلي وجوه أمهات وآباء يبحثون عن أطفال تحت ركام منازلهم، يصرخون خوفًا من الظلمة، ويبحثون عن يد تنتشلهم من بين جثث متناثرة؟
حين احتاج الممثل الصيني جاكي شان لفيلم الإثارة الذي ينتجه لمشاهد الدمار والخراب والفوضى التي تخلفها الحروب الوحشية في المدن، اختار سورية ومناطقها المدمرة، لتكون مكانًا لبعض مشاهد فيلمه، وتحديدًا "الحجر الأسود" بدمشق، التي كان كثير من سكانه أيضًا، وللمصادفة، من الفلسطينيين، الذين عاشوا اللجوء لمرتين، وانتزاع ملكيتهم لمرتين، أي أنه حوّل مكان مأساة السوريين والفلسطينيين إلى "استديو" رخيص التكلفة، ولا يحتاج إلى أي جهد في ابتكار الفكرة والديكور والإخراج، واليوم يمكن لكل الكتاب الذين تحدثوا عن نهاية العالم أن يروا كيف هي غزة تجسد تلك النهاية، وتمنحهم الصورة والمضمون عن معنى موت الإنسانية، وتشييع جثمان قوانينها، فهل نقول بعدها وداعًا لكتاب الخيال والرعب، لأنهم لن يستطيعوا أن يبحروا أبعد من واقع غزة ومأساتها ومآلاتها؟


*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.