}

الصورة بين التوثيق وارتكاب الخطيئة

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 أبريل 2024
يوميات الصورة بين التوثيق وارتكاب الخطيئة
لوحة من على جدران الأونروا في غزة
أيهما أكثر إيلامًا؟ كان ذلك هو السؤال الذي يسكننا عن فاعلية الصور التي تبثها وسائل الإعلام، العربية منها والغربية، من وقائع المجزرة المستمرة التي ترتكبها إسرائيل منذ أكثر من مئتي يوم متواصلة في أرض قطاع غزة، وتتناوب بين صور الدمار التي تغطيها أجساد الضحايا، وصور الباحثين عن لقمة تسد الرمق، بين الأيدي التي تناجي من ينتشلها من تحت الركام، أو إلى تحت التراب، لتوارى الثرى، وبين أيد تحمل أطباقًا مفتوحة الأفواه، تلهث وراء ما ينجيها من ذلك الموت على وقع قرقرة أمعاء حامليهم الخاوية، كلها مشاهد تستفز وجعنا، وتحاول أن تقفز إلى صوت ضميرنا، إحداها تأخذنا معها إلى قاع الهزيمة، والأخرى تواجه عجزنا، وتحملنا عار صمتنا، وتخاذلنا.
كأن البشرية تعيد استنهاض ذاكرتها عن مجازر الإبادة التي رافقت الحروب العالمية، وتضعها أمام الأجيال الحالية بالصوت والصورة، لا تتعبوا خيالاتكم وأنتم تستحضرون معنى الإبادة الجماعية، تلك هي الضحايا، وهذه هي الأرقام، الماضي يعود بثوب الحاضر، بقعة صغيرة تختصر حربًا عالمية شملت أوروبا، والمحيطين الأطلسي والهادي، وجنوب شرق آسيا، واليابان، والصين، والبحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط، وأفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية، هي غزة (365 كم) تحاكي بمساحتها الصغيرة ذلك العالم الممتد على كل الجبهات، وتختصر أحد المحورين لتصبح طرفًا تحت وابل النار من كل العالم، تارة بسلاحه الذي تستعين به إسرائيل في قتلها الموجه ضد الفلسطينيين، وتارة ثانية بصمته وتسويفه وكذب أخباره وتزوير صوره.
ويومًا بعد يوم مع استمرار الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، وانكشاف خبايا ما تتركه قواتها العسكرية من مقابر جماعية قد تفصح عن مصير نحو 7000 مفقود، حسب التقرير الذي نشره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية التي تستمر منذ 200 يوم ولا تزال، تتعاظم المأساة، وترتفع أرقام الحصاد الوحشي للآلة العسكرية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، من قتل لنحو 34183 ألفا (وهذا قابل للزيادة وفقًا لاستمرار الكشف عن ضحايا جدد)، بينهم ما يقرب من 15 ألف طفل، و9752 امرأة، ونحو 140 صحافيًا، وأيضا نحو 77143 مصابًا، إنه مشهد الدمار الشامل الذي لا يستثني من وحشيته أحدًا، أحياء وأموات ومشاف ومدارس ومكاتب أممية، ومدن وقرى وبلدات.




يقول الكاتب والناشط الأميركي اليهودي البرفيسور إيلي فيزل (1928 ــ 2016)، وهو أحد الناجين من الهولوكوست، في خطاب قبول جائزة نوبل (10 كانون الأول/ ديسمبر 1986) عن رواية "ليل"، التي يسرد فيها شهادته عن تلك المأساة خلال الحرب العالمية الثانية: "لم أقسم أبدًا أن أكون صامتًا كلما، وأينما، كان البشر يعانون من المعاناة والإهانة. يجب علينا أن ننحاز دائمًا. الحياد يساعد الظالم، لا الضحية. الصمت يشجع المعذب وليس المعذب". وكأنه بهذه العبارة المأخوذة من روايته، يوجه أصابع الاتهام إلى مجموع الصامتين اليوم من دول العالم التي قد يصعب أن نستثني منها إلا القليل القليل، فهم جميعًا، يشجعون القاتل على القتيل، ليس بحيادهم وحسب، بل بملايين قطع السلاح والذخيرة العابرة للبحار والصحاري، لتكون في خدمة سلاح الاحتلال ضد شعب فلسطين، ومن أجل قتله وتشريده وتجويعه ونسيان قضيته.
ليس غريبًا على المجتمع الدولي أن يقف متفرجًا على المجازر التي ترتكب بحق الشعوب، فقد خبره السوريون وهو يعدد ضحاياهم على مدار 13 عامًا من الصراع في سورية، وتوالت الأرقام حتى لم يعد يريد أن يزيد عليها، فأوقف عداده، تاركًا لبقية الأجساد أن تموت من دون إحصاء، وقد بلغت ما يفوق 600 ألف ضحية، وما يزيد عن 5,5 مليون لاجئ، ونحو 13 مليون سوري ويزيد تحت خط الفقر، ولهذا لا غرابة أن يبقى ذات المجتمع الدولي غارقًا في عجزه عن نجدة أكثر من مليون فلسطيني من خطر المجاعة، التي أودت بحياة ثلاثين طفلًا، وهي تفتح فمها لابتلاع مزيد من الضحايا، في ظل قطع  إسرائيل إمدادات الخدمات الرئيسية، من المياه والكهرباء والوقود والدواء والغذاء، وعرقلة وصول المساعدات.
المشهد مفتوح أمام الكاميرات، جثث مترامية فوق الأرض وتحت الأنقاض، ودمار يلف المكان، أطفال جياع، وأمهات مروعة، ورجال تقطعت بهم سبل الحياة، وملامح القهر التي لا تستثني أحدًا، طالب الطعام والباحث عنه ومقدمه، كلهم في الصورة متشابهون، ضحايا بأدوار مختلفة، هي اللقطة التي تبحث عنها كاميرات المصورين الباحثين عن صورة تتحدى إنسانيتنا، تزيد من حسرتنا، وتصرخ في وجه الشعوب والحكام ومدعي الدفاع عن حقوق الإنسان.
هذه هي الصور، بعضها ضرورة لتوثيق الجريمة، وبعضها هي "الجريمة"، أو أنها انزلاق إلى الخطيئة، عندما تهتك ستر انكسار الإنسان، وبعضها سكاكين تنغرز عميقًا في كرامتنا، وتكاد تنافس في ألمها صور الأجساد المبعثرة تحت ركام الأبنية المهدمة على رؤوس أصحابها، أو التائهة في مقابر جماعية كشف سرها، أو لا تزال قيد البحث عنها.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.