}

المأساة التي غابت عن الدراما التلفزيونية

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 أبريل 2024
آراء المأساة التي غابت عن الدراما التلفزيونية
(غزة،Getty)
كرّست الدراما العربية مواضيعها للقضايا الداخلية في مختلف البلدان، من فقر وجهل وبغاء وفساد بشقيه الأهلي والحكومي، وخلافات أسرية مالية واجتماعية، ودخلت إلى الأحياء الشعبية وفتشت بين حاراتها، استعادت مهن الأولين، وتاجرت في الحلال والحرام، ومنحت الزعامة لأتقياء وأنقياء وسارقين ومجرمين ومسؤولين مرتشين، إنه المجتمع العربي الذي لا تنجو منه شائبة، وتقع بين براثنه كل موبقات الدهر، وبالتأكيد لم تخل بعض الأعمال من التأكيد على مسؤولية ثورات الربيع العربي عن كل ذلك الواقع الأليم الذي تعيشه شعوب منطقتنا، دون أن تلحق أي مسؤولية عن ذلك بالمعنيين الأساسيين عن تلك الأوضاع من حكام وسياسيين وأحزاب حاكمة.

لقد صارت هذه القضايا المعيشية "الجذابة" والتي تستدرج مشاعر المشاهدين وتستحوذ عليها، هي الشغل الشاغل بين طرفي المعادلة الدرامية (صانع الدراما والمتلقي)، بحيث طغت تفاصيلها وتصاعدت مآسيها على غيرها من انشغالات المواطن العربي، ولم تعد القضية الأساسية في نضالاته حاضرة، فغابت القضية الفلسطينية والأراضي السورية المحتلة عن المواضيع المطروحة، وكأنها في لغة اليوم مجرد "ترند" انتهت مفاعيل تأثيره، ولم يعد حضوره مغريًا أو مربحًا في سوق الدراما التي تحكمها مقاييس الربح والخسارة، ومعيارهما هو الأعلى مشاهدة، أي الأكثر إيرادات إعلانية، والأهم من هذا وذاك الأكثر قبولًا من الأنظمة الحاكمة التي تعاير الفن بمصالحها.

كانت مصلحة الأنظمة أن تتمحور حياة المواطنين بعيدًا عن مطالب التغيير التي رافقت تحول العالم إلى قرية صغيرة بفعل العولمة، وتعويم أفكار الحرية والديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان، ما جعل الحكومات تتسور خلف القضية الفلسطينية، والاستعداد للمواجهة "المنتظرة" مع العدو الإسرائيلي، وتم تقييد الموازنات المالية لمصلحة ما سمي "التوازن الاستراتيجي"، وكان الفن كما الإعلام بيد مؤسسات الدولة في خدمة التوجهات السياسية، لهذا قد لا تخلو نشرة أخبار أو مقالة رأي أو مسلسل تلفزيوني من التأكيد على مسؤولية الهم العربي الكبير في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي تحمله الأنظمة الحاكمة، والذي أعاق مسيرة التطوير والتحديث وتنمية الاقتصاد ونشر الديمقراطية.  

ومن المفارقات الطريفة أن الغرب وإسرائيل يفهمان سياسة الأنظمة العربية ويحتويانها باعتبارها سياسة تنفيسية، تستهدف تطويق أسباب التمرد الداخلي عليها، من خلال وضعها في مواجهة قضية كبرى لا تستطيع تجاهلها لأنها تهدد وجودها ودينها. يقول طوني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة، في مذكراته التي نشرها عام 2011 في معرض اعترافاته عن فترة حكومته وسياساته وأخطائه: "إذا ألقينا نظرة سريعة على الصحافة العربية المحلية فإننا سنلاحظ أن إسرائيل مكروهة، على صعيد الشارع، بين المعلقين الصحافيين. أصبحت كراهية إسرائيل وسيلة لتجنب سماع مطالب التغيير في الداخل، وذلك عن طريق تركيز الجهود، وتعليقات السياسيين على قضية خارجية، وعلى الظلم الحاصل، ليس على الفلسطينيين فقط، ولكن على المسلمين في كل مكان في العالم أيضًا، وهو ما يشكل دليلًا قاطعًا ومستمرًا على أن الغرب يعادي المصالح الإسلامية، والإسلام ذاته".

وعلى عكس سياسات الماضي للأنظمة الحاكمة التي كانت ترى في القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل منفذًا لتفريغ الغضب الشعبي، وإبعاد المواطنين عن النظر إلى مشكلاتهم المعاشية والاجتماعية والحقوقية والسياسية، فقد سخّرت الجهات المسؤولة لإنتاج وتسويق الفن البحث عن القضايا الداخلية، على اختلافها وتنوعاتها، من البغاء المستفحل في المجتمعات بسبب الفقر الذي استجرته الحرب الداخلية، التي يخوضها النظام الحاكم على معارضته التي ألبسها ثوب الإرهاب، والذي حملت عليه الحكومات مسؤولية الفوضى، إلى النهب والسلب والخيانات والاتاوات، وبالمختصر لفت النظر إلى مجتمعات آيلة للسقوط في مستنقع الواقع المرير، هذا إن لم تكن سقطت فعليًا.

إن غياب الحرب الإسرائيلية الظالمة على الفلسطينيين عمومًا، وعلى غزة تحديدًا، في معظم الأعمال الدرامية الكثيفة التي تتداولها الأقنية العربية، وتتسابق على بثها والإعلاء من شأنها ومكانتها، رغم متاهة الأهداف التي يسعى إليها الأبطال (إلا بعضها القليل)، يؤكد حجم التلاعب السياسي في ملعب الفن وخاصة الجماهيري منه، أي الدراما التلفزيونية، التي تدخل كل بيت، وتسهم في تعزيز وتوجيه الرأي العام.

ففي الوقت الذي يقدم فيه الشعب الفلسطيني في كامل الأراضي الفلسطينية، وفي قطاع غزة تحديدًا، ما يفوق الخيال من صور الصمود على أرضه، ومعاندة الموت الذي يستفحل تحت أسقف وبين جدران البيوت، وخلف أقمشة خيام لا تقي من برد ولا تحمي من حر، وبعيدًا عن الشعارات، وابتزاز المشاعر، وافتعال المواقف، ويدفعون أثمانًا باهظة من أولادهم ومدنهم وبيوتهم، يغيب الفن عن أداء مهمته في نقل هذا الواقع، وتعزيز موقع أبطاله الحقيقيين، الذين يكتبون قصص ما بعد الحاضر، قصص المستقبل بمرّه وحلوه وضياع معالمه.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.