}

الكوفية الفلسطينية: في حمولاتها الثقافية والحضاريّة

أوس يعقوب 3 ديسمبر 2023
هنا/الآن الكوفية الفلسطينية: في حمولاتها الثقافية والحضاريّة
رمزية كوفية ياسر عرفات على شكل خريطة فلسطين

تعدّ الكوفية الفلسطينية بلونها الأبيض ونقوشها السوداء، ورسومها التي ترمز إلى البحر وطائر فلسطين، ويتم ارتداؤها عادة حول الرقبة، أو فوق الرأس، شكلًا من أشكال الحفاظ على الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، وهي لا تزال حاضرةً منذ نحو قرنٍ من الزمن كشاهدةٍ على تجذّر الشعب في أرضه، واحتفاظه بعاداته وتقاليده التي حاول وما زال الاحتلال طمسها ومحوها بكل السبل المتاحة في سبيل إنكار حق أصحاب البلاد الأصليين. وهي لا تعترف بالحدود التي قسم بها المحتل أرض فلسطين، فيرتديها الفلسطيني في الضفة والقطاع والقدس ويافا وعكا وأراضي 48، ويرتديها الفلسطينيون في الشتات والمنافي البعيدة، كما ارتداها مناصرو القضية الفلسطينية في أنحاء العالم كافة.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عقب عملية "طوفان الأقصى"، ارتدى الكوفية نشطاء حقوق الإنسان والمتظاهرون المناهضون للعدوان الإسرائيلي في مدن وعواصم العالم، ومشاهير كثر للتعبير عن موقفهم المناصر للفلسطينيين، أمثال نجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو، والمغني البريطاني روجر ووترز، والممثل الأميركي كيفين ج. أوكونور، والممثلة البريطانية تيلدا سوينتون، ومغني الراب الأميركي كانييه ويست، وغيرهم كثير.

رمز لأحرار العالم

الناشطة الأميركية راشيل كوري التي قتلها الجيش الإسرائيلي وهي تحاول منع جرافات الاحتلال من هدم منازل الفلسطينيين في رفح


في ثلاثينيات القرن العشرين، باتت الكوفية رمزًا وطنيًا ونضاليًا فلسطينيًا، بعد أن تلثم بها الثوار خلال الثورة التي قادها الشيخ عز الدين القسام لمقاومة القوات البريطانية والعصابات الصهيونية، كي لا تظهر ملامحهم.
وعندما حظرت سلطات الاحتلال البريطاني الكوفية، بدأ جميع الفلسطينيين في ارتدائها لجعل التعرّف على الثوار أكثر صعوبة، فباتت رمزًا نضاليًا جامعًا لكل أبناء الشعب على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، وفي هذا دلالة على منح الشعب الفلسطيني شرعيته المطلقة للعمل النضالي، فرديًا كان أم جماعيًا.
وكان القائد الفلسطيني الشهيد عبد القادر الحسيني، وهو أحد رموز الحركة الوطنية الفلسطينية التي جابهت الجيش البريطاني والعصابات الصهيونية، (استشهد في 8 أبريل/ نيسان 1948)، ممن ارتدوا الكوفية منذ بدء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939)، التي كان أول من بدأها، حيث أطلق النيران على ثكنة عسكرية بريطانية في قرية "بيت سوريك" في محافظة القدس، ما أدى إلى تحرك خلايا الثورة الفلسطينية في كل مكان، وانضم إليها الثوار في ذلك الوقت من كل حدب وصوب.
ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، شكّلت كوفية الرئيس الراحل ياسر عرفات رمزًا للمناضلين الفلسطينيين وأحرار العالم، ومنذ خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1974، اكتسبت الكوفية شهرة واسعة النطاق، فأينما وُجدت الكوفية وُجدت فلسطين. وقد كانت الطريقة الهندسية لارتداء الكوفية عند عرفات ترمز لخارطة فلسطين التاريخية. هكذا أدّى ظهور عرفات إلى تعزيز مكانة الكوفية السياسية، وفي كل هبّة وانتفاضة شعبية في فلسطين المحتلة منذ النكبة عام 1948، يقوم المنتفضون بارتداء الكوفية أثناء مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي.
كما كان للمناضلة الفلسطينية، والعضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليلى خالد، دور بارز في جعل الكوفية رمزًا للنضال الفلسطيني، ففي عام 1969، قامت ليلى باختطاف طائرة TWA، وتحويل مسارها إلى دمشق، بغية إطلاق سراح المعتقلين في فلسطين.




وانتشرت صورتها آنذاك وهي ترتدي الكوفية وفي يدها الكلاشينكوف. وهذه الصورة نفسها تم استخدامها في عام 2012 في لوحة جدارية على الجدار العنصري الفاصل الذي بناه الاحتلال بين "إسرائيل" والضفة الغربية، بالقرب من بوابة بيت لحم، مع شعار "لا تنسوا الكفاح" (Don’t forget the struggle).
وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت عام 1987، عمد الشباب المقاوم إلى ارتداء اللثام على الوجه، من أجل مراوغة جنود الاحتلال، وإخفاء تفاصيل وجوههم، لتجنب الإيذاء والاعتقال، وإرهاب جنود الاحتلال الإسرائيلي خلال تجولهم في شوارع القرى والمدن المنتفضة، وقد لاقت هذه الطريقة رواجًا بين الشباب المنتفض والمطاردين من قبل الاحتلال، فتلثموا بالكوفية بشكل يبرز عيونهم لا غير.

الحمولات الثقافية والحضارية للكوفية الفلسطينية

جدارية لليلى خالد في بيت لحم 


تعرف الكوفية لدى الفلسطينيين بأسماء عدة، منها "الحَطة"، و"الشماغ"، و"غطاء الرأس"، و"الوشاح"، وحجمها المتعارف عليه هو (125 سم في 125 سم)، ويعد الفلاح الفلسطيني هو أكثر من لبس الكوفية قبل ثورة 1936، أي قبل شيوع ارتدائها بين الفلسطينيين كافة.
الشاعرة والكاتبة الفلسطينية، منى المصدر، ترى أن التأويلات لأنماط الكوفية بحمولاتها الثقافية والحضارية تعددت، بدءًا من مزجها بين الألوان الحيادية ـ الأبيض والأسود ـ ورؤية ذلك على أنه تناغم بين الليل، والنهار، والأرض، والطبيعة. كما تذهب بعض التأويلات إلى أن الخط العريض في الكوفية يدل على البحر، في حين يدل الخطان الرفيعان على الأنهار في فلسطين. ومن الممكن أن يتلاقى هذا مع تفسير الخطوط في منتصف الكوفية على أنها شباك صيد، حيث تنتهي هذه الخيوط المتشابكة مثل الشبكة على الخط الرفيع الأول ـ النهر ـ ومن ثم الخط العريض ـ البحر ـ أي كما لو أن هذه الخطوط تشكل طول ساحل المتوسط، والأنهار الداخلية في فلسطين. ومن ثم تتوسطها كروم الزيتون الممتدة ـ التي ترمز إليها الأشكال المتراصة، كورقة الزيتون بين الخطوط العريضة والرفيعة ـ في أراضي فلسطين التاريخيّة، سواء بالقرب من البحر، أو في الجبل، حيث توجد الوديان، أو في الأنهار؛ ففعل التفلسف في هذه الجغرافيا المكانية الطبيعية، وتضمينها في شكل بصري ـ ألا وهو الكوفية ـ يفتح مساحات واسعة لكلمة الكوفية نفسها، وعبورها حتى مكانيًا، وحمولتها الثقافية والجغرافية.
والمتتبع لتاريخ الكوفية الفلسطينية يرصد كيف نالت مكانة الأيقونة في ذاكرة الشعب الفلسطيني، كنوع من تكريس فكرة الثورة ضد المحتل، وضمان توارثها من جيل إلى جيل، وهو ما سبب الأرق والفزع للكيان الإسرائيلي ومناصريه، بمجرد رؤيتها.
ومما زاد من مخاوف الاحتلال الإسرائيلي أن فلسطينيي الشتات والمنافي البعيدة اعتمدوها بمثابة هويتهم أمام الآخر، وطريقة رمزية لربطهم بوطنهم الذي لا يستطيعون العودة إليه، فكانت تحمل فكرة "القداسة" في كثير من الأحيان، أكثر من كونها قطعة قماش فحسب.




في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، يحيي الشعب الفلسطيني ومؤسساته التربوية في الوطن والشتات، "يوم الكوفية الفلسطيني"؛ وذلك بناء على قرار اتخذته وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في رام الله عام 2015، باعتبار هذا اليوم يومًا وطنيًا يتوشح فيه الطلبة كافة، ومديرو المدارس والمعلمون والموظفون، بالكوفية، ويرفعون الأعلام الفلسطينية، وينشدون الأغاني الوطنية والشعبية؛ وتنظم فيه أنشطة كشفية ورياضية؛ كي تبقى الأجيال الناشئة أينما وُجدت متصلة برموز الهوية الوطنية الفلسطينية؛ ليكون يومًا للشعور بالحرية، ولربط الطلبة بالماضي والحاضر والمستقبل، ولتعزيز وعيهم الوطني الأصيل.

رمز عالمي عابر للحدود تحاول إسرائيل سرقته

شبان غزيون يرتدون أقنعة الهاكرز والكوفية 


منذ ثمانينيات القرن العشرين، لم تعد الكوفية الفلسطينية رمزًا للفلسطينيين فحسب، بل باتت رمزًا عالميًا عابرًا للحدود، ورمزًا لرفض الاستعمار، ورفض الاحتلال ومقاومته في أنحاء العالم كافة، حيث تمّ تبني الكوفية من قبل عدد من مناضلي الأناركية ـ فلسفة سياسية وحركة تشكك في السلطة وتعارض حكم السلطات والأنظمة البيروقراطية ـ، وأصبحت "إكسسوارًا" ملحقًا بكثير من الحركات الاحتجاجية، وغالبًا ما تلاحظ في المسيرات المناهضة للعولمة والمؤيدة للسلام، وأيضًا ضمن المسيرات المدافعة عن حقوق النساء والأقليات الجنسية والعرقية، وتبناها عدد من الشخصيات السياسية المرموقة من غير العرب، كالزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، كما أنها دخلت في اعتبارات الموضة البحتة من دون أي أثر رمزي أو سياسي لارتدائها، وانتشرت بسرعة بين الأجيال الشابة، خصوصًا مع ظهور عدد من مشاهير الفن والرياضة بها.

"إسرائيل" التي لم تكتف بسرقة الأرض، وتهجير الشعب قسرًا من القرى والمدن الفلسطينية منذ نكبة عام 1948، وصل بها الأمر إلى أن تنهب كل ما هو فلسطيني من تاريخ وحضارة وتراث وثقافة، وتنسبه إليها لتقدمه للعالم على أنه جزء من "الهوية الإسرائيلية".
في عام 2006، نشرت صحيفة "جويش كرونيكل" اليهودية الصادرة في لندن صورة لفتاة إسرائيلية ترتدي كوفية للمصمم الإسرائيلي، موشيه هاريل، الذي قام بتقليد الكوفية الفلسطينية بعدما غير لونها للأزرق والأبيض، وصمم تطريزها على شكل نجمة داود، في محاولة جديدة لنهب التراث الفلسطيني.
وفي عام 2015، أقيم عرض أزياء في "تل أبيب" لمصمم الأزياء الإسرائيلي، يارون مينكوفسكي، خلال ما أطلق عليه تسمية "أسبوع تل أبيب للموضة"، حيث ظهرت العارضات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض، والأحمر والأبيض.
وقال مينكوفسكي: إنه أحضر الكوفيات من مدينة الخليل، جنوبي الضفة الغربية، بغرض تصميم أوشحة وفساتين لاستخدامها ضمن مجموعة من تصاميم صيف عام 2016، زاعمًا أن الهدف من ذلك هو "خلق رمز للتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين"... غير أن هذه الخطوة أثارت غضبًا شعبيًا عارمًا، بحيث رآها بعض الفلسطينيين فصلًا جديدًا من فصول النهب الإسرائيلي الذي لا ينتهي، خاصة أن المصمم الإسرائيلي وضع "نجمة داود" على الكوفية.
وإثر ذلك، قامت مغنية الراب الفلسطينية البريطانية، شادية منصور، بتأليف أغنية للتشديد على أن الكوفية هي جزء من الهوية العربية، جاء فيها: "نرفع الكوفية، الكوفية العربية، الكوفية عربية، وبتضلها عربية".
بعد يارون مينكوفسكي، قامت أيضًا مصممة الأزياء الإسرائيلية، دودو بار أور، بعرض فساتين مستوحاة في معظمها من الكوفية الفلسطينية، الأمر الذي أثار ردود أفعال ساخطة في أوساط الفلسطينيين، على اعتبار أنها إهانة لرمز التراث الفلسطيني، خاصة أن بعض الصور التي انتشرت على الموقع الإلكتروني للمصممة أظهرت عارضات أزياء يرتدين التصاميم الجديدة من الكوفية في أوضاع جنسية مثيرة.
ولا ننسى في سياق عمليات النهب والسطو للتراث الفلسطيني ظهور وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغف، خلال مشاركتها في افتتاح "مهرجان كان السينمائي" عام 2017 بفستان يحمل صورة للمسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وحائط البراق، الأمر الذي رأى فيه الفلسطينيون استيلاءً ثقافيًا وتزييفًا وقحًا للتراث وسرقة له.
ورغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة لنهب الكوفية، وكل ما هو تراث وموروث فلسطيني، والتزين به، وتجييره لمصالحها الاقتصادية والثقافية، وتسويقه عالميًا على أنه "إسرائيلي"، رغم كل ذلك إلا أن المشهد العالمي الحاصل أخيرًا منذ عملية "طوفان الأقصى" يؤكد أن ممارساتها في السطو على الملكية التراثية لفلسطين على مدار 75 عامًا باءت بالفشل، فها هم المتضامنون مع أهالي قطاع غزة والقضية الفلسطينية يتخذون من ارتداء الكوفية، خلال الاحتجاجات في أنحاء العالم كافة، رمزًا للتضامن مع الغزيين، الذين يواجهون ويلات استمرار الهجوم الإسرائيلي الهمجي على القطاع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.