}

"سرديّة الجرح الفلسطينيّ": شهادة الطبيب الشاهد على حروب غزّة

أوس يعقوب 24 أبريل 2024
هنا/الآن "سرديّة الجرح الفلسطينيّ": شهادة الطبيب الشاهد على حروب غزّة
غسان أبو ستّة (Getty)



شهدت حرب الإبادة الجماعيّة الإسرائيليّة على غزّة، عقب عمليّة "طوفان الأقصى"، في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، إجرامًا غير مسبوق في التاريخ المعاصر، خلّفَ آلاف القصص والحكايات، وبرزت على مدار المائتي يوم من العدوان الإسرائيليّ الهمجيّ، أيقونات صارت تُعتبر من رموز النضال الفلسطينيّ.

الطبيب الفلسطينيّ - البريطانيّ غسّان أبو ستّة (1969)، المتخصّص في الجراحة التجميليّة والترميم في "المركز الطبّيّ للجامعة الأميركيّة" في بيروت، والمدير المشارك في "برنامج طبّ النزاعات" بالجامعة، والذي انتخب مساء يوم 26 آذار/ مارس الماضي رئيسًا لجامعة "غلاسكو" في اسكتلندا، لمدّة ثلاث سنوات قادمة، واحدٌ من الشخصيّات الوطنيّة الفلسطينيّة التي خاطرت بحياتها لأجل مساعدة ضحايا إرهاب دولة الاحتلال من المدنيّين في منطقة تُعدّ أكثر المناطق كثافة سكّانيّة في العالم، حيث يقطنه نحو مليونين ومئتي ألف فلسطينيّ.

شهادة تاريخيّة على جرائم الإبادة الإسرائيليّة

منذ العدوان الإسرائيليّ الأوّل على قطاع غزّة في 27 كانون الأوّل/ ديسمبر 2008، وحتّى العدوان الأخير المستمرّ، كان الطبيب غسّان أبو ستّة يصرّ على أن يكون هناك، ليعالج الجرحى ويسجّل ملاحظاته عن كيف يتقصّد جيش الاحتلال ليس قتل المدنيّين الفلسطينيّين العزل في غزّة فقط، بل إيذاء الأطفال والشبان من خلال استهداف أماكن في أجسادهم تحيلهم إلى معاقين مدى الحياة.

وصل أبو ستّة إلى قطاع غزّة في العاشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، قبيل ساعات من إحكام الحصار الإسرائيليّ حوله، ليكون حاضرًا في مستشفيات القطاع مع فريق من منظّمة "أطبّاء بلا حدود"، بعد أن قرّر الاحتلال فرض سلطة الموت على قاطني غزّة.

لمع نجم الطبيب غسّان أبو ستّة منذ الأيّام الأولى في "المستشفى الأهليّ العربيّ" (المعمداني)، الذي ارتكب فيه سلاح الجوّ الإسرائيليّ أوّل مجزرة طبّية، في السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ما أسفر عن سقوط أكثر من خمسمائة شهيد ومئات الجرحى من المرضى والنازحين.

تُمثّل تجربة أبو ستّة شهادة تاريخيّة على جرائم الإبادة الإسرائيليّة في غزّة، حيث وثّق، خلال تنقُّلاته بين مستشفيات القطاع، مشاهد النضال اليوميّ الذي تُقدِّمه الكوادر الطبّيّة في وجه آلة القتل الإسرائيليّة، منذ الأيّام الأولى للعدوان وحتّى مغادرته أرض غزّة في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

قبل مغادرته بيوم قال الطبيب الجرّاح لفريقه: "إنّ الوقت قد حان لمغادرة آخر مستشفى ما زال يعمل في مدينة غزّة"، حينها كانت جدران (المعمداني) تهتزّ من جرّاء قصف الدبابات الإسرائيليّة، ولم تعد تتوفّر فيها أيّ أدوية تخدير للعمليّات الجراحيّة.

وقبل أيّام منعت السلطات الألمانيّة غسّان أبو ستّة، المدعو للمشاركة في "مؤتمر فلسطين... سنحاكمكم"، الذي تُنظمه مجموعة من الناشطين والحركات السياسيّة في ألمانيا، من دخول برلين، بعد تحقيقات معه في المطار، دامت ثلاث ساعات ونصف الساعة.

تزامن ذلك مع منع شرطة برلين انعقاد المؤتمر، الذي كان مقرّرًا أن يُعقد من 12 إلى 14 نيسان/ أبريل الجاري، كونه داعمًا للقضيّة الفلسطينيّة.

يقول أبو ستّة عن حادثة منع دخوله برلين: "كاد المريب أن يقول خذوني، فمع القضيّة التي رفعتها نيكاراغوا، والتي تتّهم فيها ألمانيا بالتواطؤ في جريمة الإبادة، فإنّه من المعروف أنّ وظيفة المتواطئين في الجرائم هي إخفاء الأدلّة وإسكات الشهود، وهذا ما تفعله ألمانيا".

أسباب منع دخول أبو ستّة إلى برلين لم تتمكّن السلطات الألمانيّة من تبريرها بشكلٍ مقنع، حيث قالت: "مُنع من الدخول لأسباب تتعلّق بسلامة الحضور والنظام العامّ"! لكن يكفي أن نعلم أنّ الطبيب المتطوّع لمدّة 43 يومًا في "مجمّع الشفاء الطبّيّ" و"المستشفى الأهليّ العربيّ" (المعمداني)، من أبرز الشهود حاليًا في "محكمة الجنايات الدوليّة" وفي "المحكمة الجنائيّة الدوليّة".



43 يومًا تحت الحصار والنار

خلال 43 يومًا من الحرب الوحشيّة الإسرائيليّة عمل أبو ستّة ببراعة في ظلّ النقص الحادّ في المستلزمات الطبّيّة، والأعداد الهائلة وغير المتناسبة من المرضى مع إصابات خطيرة ومتعدّدة، وتحت حصارٍ إسرائيليّ قاسٍ منع كافّة مستلزمات الحياة الأساسيّة بما فيها المياه والغذاء والوقود.

ويومًا بعد يوم من حرب الإبادة الإسرائيليّة كانت تزداد مخاطر العدوان وتشح الإمكانات، وعندما انهار القطاع الصحّيّ في غزّة تمامًا، وجد أبو ستّة نفسه غير قادرٍ على أداء عمله، فقرّر مغادرة القطاع ليبدأ نوعًا جديدًا من النضال لأجل أبناء وطنه، فكان من أبرز الأصوات الفلسطينيّة التي تتحدّث للإعلام العربيّ والغربيّ عن حقيقة الوضع الصحّيّ في القطاع، وتسليط الأضواء على ما يرتكبه الاحتلال من "جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانيّة"، في ظلّ منع وصول المساعدات الإغاثيّة والأدوية والطعام، وقطع المياه الكهرباء والإنترنت، والأخطر من ذلك كلّه استهداف المستشفيات وتدميرها بقصد إخراجها عن الخدمة نهائيًّا.

كذلك يواصل أبو ستّة العمل على فضح الانتهاكات الإسرائيليّة بحقِّ القطاع الصحّيّ والكوادر الطبّيّة والمرضى، عبر وسائل الإعلام العربيّة والعالميّة بلغة يفهمها الغرب. وقد ساهمت مراكز ومؤسّسات بحثيّة ومنابر إعلاميّة فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة في نشر رسالة الطبيب الفلسطينيّ الإنسانيّة، لكشف حقائق ومخاطر ومدى وحشيّة العدوان الإسرائيليّ الأخير على قطاع غزّة.

غزّة المحيط الحيويّ الأكثر شمولًا للحرب

"هناك مفهوم اسمه المحيط الحيويّ للحرب، وهو مبنيٌ على فكرة أنّه من شدّة طول الحروب القاسية وإجرامها - وهذه الحرب التي تجري حاليًا في غزّة هي من أكثر الحروب التي شهدها العالم قسوةً، وأشدّ وطأة من الحرب العالميّة الثانية - فإنّها تشكّل محيطًا حيويًّا يقطن فيه سكّان المنطقة لعقود بعد الحرب، وهذا المحيط يصنع أدواتً وطرقًا لإعادة رسم صحّة السكّان، وإعادة أذيتهم بطرق متعدّدة. وكون هذه الحرب هي الأقسى منذ الحرب العالميّة الثانية، فقد تحوّل قطاع غزّة إلى المحيط الحيويّ الأكثر شمولًا للحرب، ويقارب ما وصفه المفكّر (الكاميرونيّ)، أشيل مبيمبي، بعالم الموت"- هذا ما جاء على لسان الطبيب غسّان أبو ستّة في مداخلة شفويّة قدّمها في الحادي عشر من شباط/ فبراير الماضي، ضمن ندوة عامّة بعنوان "تحدّيات إعادة الإعمار في غزّة بعد العدوان"، عُقدت ضمن فعاليّات "منتدى فلسطين السنويّ" في دورته الثانية في العاصمة القطريّة الدوحة، خلال الفترة بين 10 - 12 شباط/ فبراير، والذي ينظمه سنويًّا كلٍّ من "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" و "مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة".

يضيف أبو ستّة: "هناك حاجة ماسة إلى فهم ترابُط أجزاء المحيط الحيويّ للحرب؛ فإذا بدأنا من التدمير المنهجيّ لنظام الصرف الصحّيّ والمياه، فنحن نتحدّث عن تدمير خمسة مراكز لتكرير الصرف الصحّيّ، و65 محطّة ضخ للصرف الصحّيّ، و70% من السكن، فضلًا عن تدمير شامل للرعاية الصحّيّة للولادة، بالإضافة إلى سوء التغذيّة. كلّ هذه العوامل مشتركة تؤدّي إلى إبقاء ضحايا هذه الحرب والسكان في غزّة في حالة ضعف صحّيّ، أو أذى صحّيّ، حتى بعد انتهاء الحرب".

أضف إلى ذلك، والكلام هنا للطبيب الفلسطينيّ الجرّاح، أنّ "هناك 10 آلاف جثمان لشهيد تحت الردم، تتحلّل أجسادهم، ويصبحون جزءًا من أزمة التلوث البيئيّ، كما أن ّهناك 70 ألف جريح، إذا أُجريت لهم عمليّة واحدة - وقليل من الجرحى في إصابات الحروب يحتاجون إلى عمليّة واحدة - فإنّهم سيحتاجون إلى زيارة إلى عيادة لتضميد الجروح كلّ ثلاثة أيّام على مدى ستّة أسابيع، ولكم أن تتخيّلوا 70 ألف جريح، كحدٍّ أدنى؛ كم من العناية الطبّيّة سيحتاجون إليها؟".

يبيّن أبو ستّة في مداخلته أيضًا، أنّ المحيط الحيويّ للحرب يشمل كذلك "الأذى المستمرّ من القذائف غير المتفجرة، والتي تشكّل تقريبًا ثلث القذائف التي أُلقيت على المنطقة في أيّ حرب. كما يؤدّي التدمير الكامل للاقتصاد إلى الإفقار وسوء التغذيّة والصحّة على المدى البعيد، بالإضافة إلى الانهيار الكامل لمنظومة الطبابة للأمراض المزمنة غير المعديّة، كالسكري، وأمراض القلب، وأمراض الكلى. ولا ننسى النتيجة المترتبة للقتل المتعمّد لـ 340 طبيبًا وممرضًا، كالدكتور الشهيد همام اللوح رحمه الله، إذ استغرق تدريبه إلى مستوى استشاري 18 عامًا، فتخرّج كاستشاري في أمراض الكلى من إحدى جامعات الأردن، وعندما نتكلم عن 340 اختصاصيًّا واستشاريًّا يصلون إلى المستوى الذي كانوا فيه قبل استهدافهم في عدد السنوات، فإنّ النتيجة ستكون قاسية جدًا وطويلة".

وفي محاضرة سابقة استضافها أيضًا، "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" بالتعاون مع "مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة"، في الخامس من كانون الأوّل/ ديسمبر 2023، بعنوان "تدمير القطاع الصحّيّ في غزّة: مواجهة الكارثة والتهجير"، قال أبو ستّة: "إنّ استهداف القطاع الصحّيّ بدأ منذ اندلاع الحرب الإسرائيليّة على غزّة". ولفت إلى أنّ هذا الاستهداف، خلق كارثة عامّة ومُمنهجة بغية تفكيك كلّ مفاصل الحياة الفلسطينيّة، وجعل المكان غير قابل لأيّ شكل من أشكال البقاء.


سرديّة مغايرة للجرح الحربيّ الفلسطينيّ

عقب اندلاع الحرب الإسرائيليّة على القطاع المحاصر منذ سبعة عشر عامًا، أعادت دار "رياض الريس للكتب والنشر"، إصدار كتاب "سرديّة الجرح الفلسطينيّ: تحليل للسياسة الحيويّة الإسرائيليّة"، للطبيب غسّان أبو ستّة والباحث والصحافيّ اللبنانيّ ميشال نوفل، الذي صدرت طبعته الأولى في كانون الثاني/ يناير 2020، وأُعيد إطلاقُه في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، في "ملتقى السفير" في بيروت.

ولأنّ ما يحدث في قطاع غزّة منذ مائتي يوم ليس حربًا وإنّما مجازر إبادة مفتوحة على الجحيم، عدنا إلى هذا الكتاب الذي يطرح رؤية جديدة ونوعيّة من أجل فهم أعمق وأشمل لمنهجيّة الحروب الإسرائيليّة، متجاوزًا السرد الإعلاميّ التقليديّ الذي يحصرها بالنصر والهزيمة، وأعداد القتلى والجرحى والمشردين، ليخلق سرديّة جديدة هي "سرديّة جرح الحرب"، التي يحملها كلّ مصاب فيها طوال حياته. وهي سرديّة اجتماعيّة تحمل قيمة سياسيّة متغيّرة وفق حسابات النخب السياسيّة.

كما يلقي الكتاب الضوء على منافع دولة الاحتلال غير المرئيّة من حروبها، وهذا جانب هامّ لم يتناوله الباحثون الفلسطينيّون والعرب بالدراسة والبحث.

جاء الكتاب في 192 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من تمهيد ومقدّمة وخمسة فصول وخاتمة.

المقدّمة التي حرّرها ميشال نوفل، بعنوان: "الترابُط بين الطبّ والسياسة"، يُبرز فيها الصيغة الحواريّة التي بُني على أساسها الكتاب بينه وبين الطبيب غسّان أبو ستّة، والتي استندت في تفاصيلها إلى تجربة الأخير الميدانيّة والنظريّة والعِياديّة، وهو في شقٍّ منه تعريفيٌّ بجملة مفاهيم كـ "الأنثربولوجيا الطبّيّة"، و"طبّ النزاعات".

حمل الفصل الأوّل عنوان: "طبيب في حقل النزاعات"، وفيه إضاءة على سيرة الطبيب غسّان أبو ستّة، التي يتلازم فيها المنحى السياسيّ بالطبّيّ، في سلسلة من الحروب امتدّت بين العراق وسورية وجنوب لبنان وقطاع غزّة.

الفصل الثاني جاء بعنوان "حربٌ للإبادة السياسيّة أوّلًا"، وفيه ينطلق أبو ستّة من العدوان الإسرائيليّ على غزّة عام 2008، والذي ضربت فيه دولة الاحتلال القطاع، بأكثر من مليون ونصف المليون كغم من المتفجّرات، واستخدمت نوعًا جديدًا من الفوسفور الأبيض المحرّم دوليًّا.

فيما يناقش الفصل الثالث "القيمة السياسيّة لجروح الحرب"؛ هذه الجروح التي مكّنته من قراءة هذه الصراعات، وفَهْم المشاريع السياسيّة المتعلّقة بها.

الفصلان الأخيران: "النُّخب والسلطة والاحتلال"، و"النظام الصحّيّ والسياسة الحيويّة"، خصّصا للبحث بالتحليل النظام السياسيّ الفلسطينيّ، والنظام الصحّيّ عبر مفهوم "السياسة الحيويّة".

غسّان أبو ستّة خلال مؤتمر صحافي في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إثر مجزرة المستشفى المعمداني 


رائد مجال "طبّ النزاعات" عربيًّا

بالعودة إلى التمهيد والمقدّمة وما جاء في فصول الكتاب بالتفصيل، نتوقف أوّلًا عند بيان المؤلّفيْن سبب إصدارهما للكتاب: "محور المعركة الحقيقيّة في كلّ الحروب، هو جسد الجريح، وليس قطعة الأرض التي يصدف حدوث المعارك عليها. وإنّ الجرح الحربيّ منذ لحظة الإصابة، على امتداد حياة المصاب، هو تعبير حيويّ بيولوجيّ للحرب، كذلك فإنّه خزان سرديّتها وشاهدٌ أزليّ على معاناة الجرحى".

"في كلّ جرحٍ عالجته، كنتُ أرى الحرب تتجسّد أمامي، وكلّ تلك الجروح التي عاينتها في فلسطين والعراق وسورية واليمن، كانت النافذة التي أُطلّ منها على تلك الحروب. الجرحُ يُصبحُ أرشيفًا بيولوجيًا يُمكّنني من خلاله قراءة هذه الصراعات، وفَهْم المشاريع السياسيّة المتعلّقة بها"، يقول أبو ستّة.

يشرح الصحافي اللبنانيّ ميشال نوفل في المقدّمة، كيف ظهرت فكرة الكتاب بدايةً بنقاشات مع الطبيب غسّان أبو ستّة الذي قضى عمره في مجال "طبّ النزاعات".

يتحدّث الفصل الأوّل عن الأعمال الميدانيّة للطبيب الفلسطينيّ، مستقصيًّا الأثر الصحّيّ والاجتماعيّ للحروب في العديد من البلدان العربيّة، وخاصّة في قطاع غزّة، وأبحاثه النظريّة التي تجعل منه رائدًا في مجال "طبّ النزاعات".

نتعرّف في هذا الفصل كيف عمل أبو ستّة، في ضوء تجاربه الميدانيّة، على بناء إطار ناظم لها علميًّا وإكلينيكيًّا. واقتراحه على الجامعة الأميركيّة في بيروت استحداث مركز بحثيّ مهمته تأطير كلّ هذه التجارب في فلسطين والعراق وسورية.

وفي هذا السياق، أثمرت جهود أبو ستّة إنشاء "مركز الصحّة العالميّة"، الذي تولى فيه مع طبيب عراقيّ إدارة برنامج "طب النزاعات". وقد أفضت جهود هذا المركز عام 2016، إلى تنظيم أوّل مؤتمر دوليّ للتعريف بمفهوم "طبّ النزاعات"، الذي يقارب الصراع المسلّح بإعادة رسم كلّ البنية الصحّيّة، وليس فقط الإصابات الناتجة من الشظايا والانفجارات والرصاص.

في الفصل الثاني يرى أبو ستّة، أنّ "حرب الإبادة المستمرّة في قطاع غزّة، لكون محنة القطاع تندرج في سياقات النكبة". إذ يمكن القول في ضوء حالة قطاع غزّة بأنّه "أشبه بمخيّم كبير للاجئين".

ويعرض الفصل الثالث استنادًا إلى تجارب أبو ستّة، حالات مستقلّة من التجربة الفلسطينيّة خلال وجود منظّمة التحرير في لبنان، ثمّ الانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية. مُبرزًا في هذه الحالات التوتر في القيمة السياسيّة لإصابات الحرب التي تختارها النخب القياديّة في وقت معين، وقدرة المرضى على الحصول على الرعاية الطبّيّة من ناحية أخرى.

من أبرز ما كشف عنه الطبيب الفلسطينيّ، المتخصّص في التجميل والترميم، وأستاذ "طب النزاعات" في الجامعة الأميركيّة في بيروت، في هذا الكتاب، أنّ لحرب الإبادة الإسرائيليّة المستمرّة على القطاع ثلاثة أهداف: الأوّل عسكريّ – سياسيّ. والثاني تسويقيّ، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلّ حرب أنواعًا جديدة من السلاح الذي تريد تسويقه في سوق السلاح الدوليّة. أمّا الهدف الثالث، فهو المساهمة في عمليّة البحث والتطوير في مجال الصناعة الحربيّة.

يضرب أبو ستّة مثلًا على ذلك في سلاح "الدرونز" القاذف للصواريخ، الذي صار بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيليّة بعد حرب عام 2008، وسلاح "الدايم" (Dense Inerte Material Explosive) ، الذي يُحدث عمليّات بتر خطيرة في الأطراف. و"القذائف الفراغيّة" التي استخدمها جيش الاحتلال في حرب عام 2014، والتي تؤدّي إلى تدمير بناية بكاملها وقتل من فيها، بما يؤدّي إلى إبادة عائلات بأكملها ومحوها من السجل المدنيّ. بالإضافة إلى تطوير القنابل الفوسفوريّة، وغيرها.

في جانب آخر، يبيّن الكتاب كيف أنّ حكومات الاحتلال المتعاقبة استغلّت تسلّم حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) مقاليد حكم قطاع غزّة لتصنيفه "منطقة معاديّة" تنطبق عليها "قوانين الحرب" لا "قوانين الاحتلال"، حيث حرصت السياسة الحيويّة الإسرائيليّة على العمل الحثيث لتحويل "مسألة غزّة" إلى "مجرّد أزمة إنسانيّة" لا قضيّة سياسيّة.

إلى ذلك، يشرح أبو ستّة في الكتاب، كيف يستهدف جيش الاحتلال الإسرائيليّ تدمير كلّ شيء: المرافق الصحّيّة، والتعليميّة، والمهنيّة، ومئات المباني السكنيّة، والمرافق العامّة والخدمات والمنشآت الصناعيّة والزراعيّة والتجاريّة... تدمير "يهدف إلى تحويل الفلسطينيّين في غزّة إلى مجرّد أزمة إنسانيّة أو وجود ديموغرافيّ من دون حقوق سياسيّة واقتصاديّة".

"السياسة الحيويّة الإسرائيليّة"... إبادة السكّان الأصليّين

يوضح الكتاب كيف ظهرت نظريّة "السياسة الحيويّة" التي مهّدت لها نظريّات الفيلسوف الفرنسيّ ميشال فوكو، وتعنى هذه الفلسفة/ السياسة بإدخال الجسد البشريّ في السياسة. تأتي "السياسة الحيويّة" كفكرة ـــ بحسب فوكو ـــ تقضي بالاهتمام بصحّة الفرد وحياته نظرًا إلى مدى "تأثيرها" على السياسة العامّة للبلاد.

"السياسة الحيويّة" في نظر الفيلسوف الفرنسيّ، "العمل المتناسق للقوّة المشتركة لمجموعة الرعايا، باعتبارهم كائنات حيّة، على مستوى حياة السكّان بوصفها ثروة للقوّة المشتركة يتعيّن الاعتناء بها من أجل تكبيرها وزيادة حيويّتها".

عمل أبو ستّة ـــ ولا يزال ـــ في مجال الإغاثة الطبّيّة في قطاع غزّة إبان العدوان الإسرائيليّ المتكرّر على القطاع، ومرّة تلو الأخرى كان أكثر ما يلفت انتباهه من أيّ شيء آخر، هو "ماذا يقوله الجرح" الذي تتسبّب فيه الأسلحة الإسرائيليّة الفتاكة المحرّمة دوليًّا.

يقول الطبيب الفلسطينيّ: "كنتُ خلال الثلاثين سنةً الماضية شاهدًا على حروبٍ عدّة، وفي بعضها، كنت حاضرًا فيها شخصيًّا. كنت أرى الحروب في أجساد الجرحى الذين كنت أعالجهم، وها أنا اليوم أسجّل خلاصة هذه التجربة".  

يعرف الفلسطينيّون ويدركون أنّهم خطرٌ داهم؛ وأنّ مشكلة "الكتلة البشريّة" هي مشكلة "وجوديّة" لليمين واليسار في كيان الاحتلال؛ وأنّ جيش الاحتلال يطبّق "السياسة الحيويّة" بأفظع حالاتها في قطاع غزّة، "ولا سيما العمل الحثيث على إبقاء مجتمع غزّة على حافة الانهيار من دون دفعه تمامًا إلى الهاوية".

دراسة "السياسة الحيويّة" للاستعمار الإسرائيليّ في فلسطين الهدف منها، بحسب أبو ستّة، هو التمهيد لنشوء "أنثروبولوجيا طبّيّة عربيّة". وتشمل هذه الدراسة محاولة التعرّف الى دور الصحّة العامّة في شرعنة السلطة العربيّة، وتحوّلات الخريطة العلاجيّة تحت تأثير الحروب المستوطنة في المنطقة، وتفكّك الدولة الحديثة، وفهم آليّات التحكّم بالجسم الفلسطينيّ من طريق الإدارة الحيويّة للحياة والصحّة.

في السياق، يُبرز الكتاب أهمية تطوير الأبحاث في حقل "الأنثروبولوجيا الطبّيّة العربيّة"، وكيفية الوصول إلى فهم أفضل للتطبيقات الإسرائيليّة في مجال "السياسة الحيويّة"، والتحكّم بصحّة الفلسطينيّين وحياتهم.

غسّان أبو ستّة: طبيب فلسطينيّ – بريطانيّ، وأستاذ مشارك في علم الجراحة، وجرّاح تجميل وترميم. وهو عضو "مجلس أمناء مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة".

عام 1953 هاجرت أسرة أبو ستّة إلى الكويت وفيها ولد عام 1969. تخصّص في الجراحة التجميليّة والترميم، وتخرّج في جامعة "غلاسكو" عام 1994. مارس الطبّ التطوّعي، وعمل كجرّاح حرب في اليمن والعراق وسورية وجنوب لبنان، وفي الانتفاضتين الفلسطينيّتين، وخلال الحروب الأربع التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيليّ على قطاع غزّة. وكان أن انضمّ إلى "المركز الطبّيّ في الجامعة الأميركيّة" في بيروت عام 2011، وفي العام التالي أصبح رئيسًا لقسم الجراحة التجميليّة والترميميّة في المركز، ومسؤولًا طبّيًّا لـ"برنامج إصابات الحرب لدى الأطفال والعيادة المتعدّدة التخصّصات بإصابات الحرب".

شارك في عام 2015، في تأسيس "برنامج طبّ النزاعات" في "معهد الصحّة العالميّ" في الجامعة الأميركيّة في بيروت وأصبح مديرًا له. 

 

مصادر:

1)  غسّان أبو ستّة، وميشال نوفل: كتاب "سرديّة الجرح الفلسطينيّ: تحليل للسياسة الحيويّة الإسرائيليّة"، دار "رياض الريس للكتب والنشر" بيروت/ لندن، طبعة أولى، كانون الثاني/ يناير 2020.

2) ندوات ومحاضرات للطبيب غسّان أبو ستّة، نشرت في مواقع: "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات"، و"مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة". بالإضافة إلى مجموعة مقالات نشرت في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة الفلسطينيّة والعربيّة التالية: وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة "وفا"، "العربيّ الجديد"، "المجلّة"، "الجزيرة نت".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.