}

الفلسطيني الغائب عن ميزانية الإنتاج والمهرجانات

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 6 ديسمبر 2023
هنا/الآن الفلسطيني الغائب عن ميزانية الإنتاج والمهرجانات
(غزة، Getty)
منعتنا والدتي من الجلوس إلى طاولة الطعام، قالت إن أصوات القصف تهز الصحون، كنا ثلاثة عشر، جلسنا على الأرض، وقبل أن تسكب لكل منا حصته من "المجدرة"، طلبت مني أن أحضر صحنًا إضافيًا لتسكب فيه لجيراننا، قالت من "الصمدية"، وانتهى كل شيء، لم يعد هناك أي شيء سوى الركام. في الأخبار رأيتني أنا أخرج وحيدًا من بين الحجارة المشتعلة، محمولًا على أيدي بعض من شباب الحي، أحمل قطعة زجاج بيضاء عليها صورة "روميو وجولييت"، تمسكت بها لأنها كانت كل ما أملك من أهلي، كنت أصرخ "يما هذا الصحن"، "لمين السكبة يما" لم تعد أمي هناك، ولم يبق منهم أحد، صار الجميع خبرًا عاجلًا: "قصف إسرائيلي على بناء سكني راح ضحيته 112 شهيدًا وأمي"، دائمًا اذكروا أمي بخبر منفرد.

في الصمدية أطباق والدتي وأكوابها، اعتادت تلميعهم كل أسبوع وهي تستذكر حفل زفافها، تعدد على مسامعنا كل مرة أسماء من أهداها هذه الأطقم الفاخرة، وتعد بأنها ستوزعها على أخواتي الأربعة بالتساوي حين يتزوجن، وتفرض علينا نحن الصبية رد الهدايا، تقول هذا دين علينا، أمي غزاوية بالولادة، نزح أجدادها إلى هنا بعد حرب 1948، وقتلت في غزة بحرب 2023، هذه حكايتها ومثلها زوجة عمي وأطفالها، الذين لجأوا إلى دارنا هربًا من قصف إسرائيل لمناطقهم، وكان يفترض أن حيّنا حسب الإذاعة الإسرائيلية وجهة آمنة للنازحين من ديارهم.

لا أعرف إذا كانوا قد أكلوا قبل أن يقتلوا أم لا، قد لا تصدقوا أن رائحة البصل المقلي بزيت الزيتون لا تزال تطغى على رائحة الدم، يقول والدي الزيت ينبت في العروق إذا كان صافيًا وناعمًا فكيف هي الحال مع زيت قرية الرامة، الذي يجعل جسدك معطرًا بعشب الغابات، تفوح منه رائحة الهندباء، تضعه أمي باردًا على طبق المجدرة، ثم تتذوق بعضه بإصبعها، وهي مغمضة العينين، كأنها تستنشق رائحة أخي المعتقل...

هكذا ينسى الناس الموت في غزة، يستذكرون الحياة بكل تفاصيها، تمر قصص مآسيهم على ألسنتهم ليس للغوص في الألم، بل للخروج من أسواره، ليحرروا أرواحهم من اعتداءاته المتكررة عليهم، ليقاوموا الموت بالحياة واستمرار تفاصيلها، هذه الحكايات ستتحول إلى كتل من الجحيم في ذاكرة العالم كله، ومنهم العرب، توجع ضمائرهم الغافلة، وتقلب السحر على الساحر، وتفضح جرائم إسرائيل المستترة اليوم بغطاء القوة والهيمنة والتضليل الإعلامي، وقوانين المنع وقرارات التعتيم على واحدة من أكبر مجازر العصر. إنها حرب الإبادة التي تراها إسرائيل طريقها للبقاء، حيث ينتفي وجودها بوجود الآخر، الفلسطيني، شريعة نحن أو أنتم الهمجية، التي تأسست عليها دولة إسرائيل حسب مقولة أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض.

فكل حكاية يرويها فلسطيني انتصر على موته هي فعل مقاومة، من دمعة على فراق الأحبة إلى قصيدة شعر، أو صورة مسربة، من رسمة بقلم رصاص إلى لوحة زاهية بألوان الربيع الفلسطيني، إلى رواية وفيلم وأغنية، كلها أسلحة مقاومة تنفجر في كوابيس قادة حرب إسرائيل الدموية على غزة، التي يرون فيها نهاية حلم إسرائيل الكبرى، فيتوعدون أهلها بالقتل والدمار والتشريد.

لا يملك الفلسطينيون غير روايتهم الحقيقية، والوحيدة التي يعملون من أجلها، وهي أنهم شعب متأصل في هذه الأرض، وله الحق في استعادة حريته وإقامة دولته عليها، وهي السردية الوحيدة التي يحاول الإسرائيليون دحضها، وتضييع معالمها، عبر إمبراطورية إعلامية تمتد سطوتها على فضائيات عالمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، فتمنع وتغربل وتزور وتلفق الأحداث والتهم والجرائم، وتصدر ثقافة التفاهة وفنها (إذا جاز تسميتها فنًا وثقافة).

إسرائيل ارتكبت أكبر عدد من الاغتيالات بين دول الغرب بحسب الكاتب الإسرائيلي رونين برغمان في كتابه "انهض واقتل أولًا... التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية"


تدرك إسرائيل أن معركتها مع الفلسطينيين ليست بالسلاح فقط، فقتل الناس لا يلغي ذاكرة الأبناء، ولا يأسر دوافعهم إلى الحرية والتحرر، ما لم تؤسس لعالم جديد بلا ذاكرة تاريخية، وقضايا فكرية ومصيرية، ما استوجب محاربة الأدب والفن وملاحقة النخب والرموز وأسرهم أو اغتيالهم داخل فلسطين أو في بلاد المنافي. فإسرائيل ارتكبت أكبر عدد من الاغتيالات بين دول الغرب، بحسب الكاتب الإسرائيلي رونين برغمان في كتابه "انهض واقتل أولًا... التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية"، وكانت حصة القتل الكبيرة من نصيب أهم رواد الأدب والشعر والاعلام من قبل وعد بلفور أي منذ ولادتها كفكرة، حتى يومنا هذا.

قافلة كبيرة من رموز الأدب والفن والصحافة غيبتهم إسرائيل بعمليات الاغتيال، نذكر منهم على سبيل المثال فقط، من عبد الرحيم محمود إلى غسان كنفاني وكمال عدوان وكمال ناصر ووائل زعيتر ومحمود الهمشري إلى علي فودة وناجي العلي، وصولًا إلى شيرين أبو عاقلة التي تم اغتيالها على مسمع وتحت عين العالم، إلى أسماء كثيرة غيرهم، وعشرات الصحافيين الذين استهدفتهم خلال حربها الهمجية الحالية المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

وربما لا يكون من قبيل المصادفة بعد "ترند" التطبيع مع إسرائيل، انشغال كثير من الفضائيات العربية خلال العقد الأخير الحالي بالترفيه المحض، بعيدًا عن أي محتوى فكري أو تثقيفي، حيث يتم فيها تغييب قضايا مجتمعية تمس مفردات حياتنا العربية الشعبية، كما تغيب عن معظمها الشخصية الفلسطينية بمعاناتها مع اللجوء والنزوح وفقدان الجنسية، بل يتم تغييب القضية الفلسطينية برمتها من تفاصيل الحياة المجتمعية الحديثة.

وبينما تنتج الحركات الشبابية الفلسطينية أفلامها الجادة بمجهودات فردية، تتجه أولويات الإنتاج الضخمة إلى المسلسلات والأفلام المستنسخة عن بيئات غريبة، لا تقترب من واقعنا في كثير مما تعرضه، وكأنها تصنع لنا محتوى ذاكرة رقمية جديدة، بعد أن كانت القضية الفلسطينية حتى وقت قريب تمثل معظم المحتوى المعرفي للأدب والفن العربي بمختلف أنواعه، من المكتوب شعرًا ونثرًا، قصص وحكايات وسرديات شعبية، إلى المسموع والمرئي من الدراما التلفزيونية والسينما، وصولًا إلى أدب الأطفال والرسوم المتحركة.

ولم تكد تخلو مساحة تحتلها القوة الناعمة في الماضي، إلا وكانت توظف لمصلحة التعريف بمأساة الفلسطينيين ومعاناتهم وحقوقهم المهدورة، رغم إمكانياتها البسيطة نسبيًا بالمقارنة مع مقدرات العرب المالية الحالية، وضخامة حجم ميزانية مهرجاناتها الثقافية والغنائية والفنية والسينمائية وغيرها، ما يضعنا أمام حقائق أن الحرب على الأدب والفن والسردية الفلسطينية لتسفيههم، سبقت معركة الصواريخ وأهدافها الدموية القاتلة للبشر والحجر!


*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.