}

من أين يأتي تمويل "الانقلاب من أعلى" في إسرائيل؟

ضفة ثالثة- خاص 14 مارس 2023
هنا/الآن من أين يأتي تمويل "الانقلاب من أعلى" في إسرائيل؟
تصل نسبة معتمري القلنسوات بالجيش الإسرائيلي إلى 40% (Getty)
نقدّم هنا ترجمة كاملة لتقرير جديد ظهر في المجلة الاقتصادية الشهرية الإسرائيلية The Marker التابعة لمجموعة هآرتس (عدد آذار/ مارس 2023) بقلم رئيس تحريرها إيتان أفريئيل، بعنوان "الأشخاص الذين تحرّك أموالهم الانقلاب على الحكم" في إسرائيل. ومن الواضح أن الدافع لهذا المقال هو ما بات يعرف باسم خطة إضعاف المنظومة القضائية أو خطة الانقلاب القضائي والتي تدفع بها قدمًا الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو وهي حكومته السادسة.

ومنذ الإعلان عن هذه الخطة تؤكد غالبية القوى الإسرائيلية المناهضة لها وكذلك سيل لا ينقطع من التحليلات أنها ستلحق أضرارًا بالديمقراطية الإسرائيلية، وبحقوق الإنسان، وأنها ستحوّل إسرائيل من دولة ديمقراطية (كما يعتقدون ويدعون) إلى دولة أخرى... وهناك استخدامات وصفية عديدة لهذه الدولة المتحوّلة ومنها ديموكتاتورية؛ كلبتوقراطية (حكم الفاسدين)؛ كاكي- ستوقراطية (الحكم السيء) وغيرها. وبموجب ما يؤكد البعض، ما يحدث ليس إصلاحات بل انقلاب من الأعلى، والذي عادة يحصل حين تقرّر الحكومة التي وصلت إلى الحكم بطريقة قانونية أن تلغي جميع القيود التي يفرضها عليها القانون، وتُحاول الحصول على سلطة مُطلقة. وهذه لعبة قديمة؛ في البداية يستخدمون القانون بغية الوصول إلى القوّة، ومن ثم يستخدمون القوّة لتغيير القانون. ويقف على رأس هذا البعض المؤرخ يوفال نوح هراري الذي أشار إلى أن الإصلاحات هي حالة تقوم فيها الحكومة بتغييرات جديّة، ولكنها تحترم حدود قوّتها. وحتّى بعد القيام بالإصلاحات، لا تستطيع الحكومة القيام بكُل ما تُريده. أما الانقلاب فهو حالة تحاول الحكومة فيها الوصول إلى قوّة مُطلقة، وإن نجح الانقلاب، فهذا يعني أنه لم يعُد هناك أي قيود على الحكومة. وبرأيه، من الواضح أن ما يجري في إسرائيل هو انقلاب، وليس مُجرّد إصلاحات. ولكن الحكومة تحاول بلبلة الجمهور العريض عبر تركيز النقاش الإعلامي على أسئلة قانونيّة مركّبة مثل ذلك المتعلّق بتشكيلة لجنة تعيين القضاة، وبناء على ذلك لا يجوز الانجرار وراء هذا التضليل، وبدلًا من هذا ينبغي مرة تلو الأخرى العودة إلى سؤال: "ما الذي يُحدّد قوّة الحكومة في النظام الجديد؟".

يقول هراري بهذا الشأن: لنفترض أن أعضاء البرلمان الـ61 في الائتلاف الحاكم (الذين يشكلون أغلبية في حالة البرلمان الإسرائيلي- الكنيست- المؤلف من 120 نائبًا) يُقرّرون نزع حق التصويت عن المواطنين العرب، فهل يوجد أي شيء في النظام الجديد يمنعهم من ذلك؟ في ديمقراطيّات أخرى، توجد الكثير من الجهات التي يمكنها وقف قانون عنصري وغير ديمقراطي كهذا. أمّا في إسرائيل فتوجد، حتّى كتابة هذه السطور، فقط جهة واحدة: المحكمة العليا. فإذا ما صوّت 61 عضو كنيست لصالح نزع حق التصويت عن العرب، أو لصالح منع الحق في الإضراب، أو لصالح إغلاق جميع الصحف أو القنوات التلفزية المعارضة للحكومة، فإن المحكمة العليا هي الجهة الوحيدة المخوّلة بالتدخّل وإلغاء هذه القوانين. وما تحاول الحكومة الحالية القيام به هو تفكيك هذه الجهة الوحيدة القادرة على تقييدها.

ولا بدّ عند هذا الحدّ من التنويه بأنه إذا كان اليمين الحاكم في إسرائيل وغيره من الأطياف السياسية الأخرى، يعتقدون أن المحكمة العليا تعتدي على حقوق السلطتين التنفيذية والتشريعية المُنتخبتين، فهذا لا يعني بأي حال أنها كذلك في كل ما يتعلق بالقضايا التي تندرج تحت مُسمّى "الأمن" وكذلك بالقضايا المرتبطة بحقوق الفلسطينيين... وهذا موضوع آخر.

ويقدّم تقرير أفريئيل معلومات ومعطيات توضّح أن من يدعم هذا الانقلاب في إسرائيل ليس فقط المجموعة المعروفة باسم كوهيلت (وذلك تيمنًا باسم أحد أسفار العهد القديم وهو كوهيلت/ الجامعة ابن الملك داود، ويرد تعريف بها في سياق التقرير) والتي ساهمت آخر المستجدات بتصدّر اسمها واجهة الأحداث، بل ثمة أيضًا أجسام وأشخاص كثيرون من اليمين اليهودي الأميركي، يشاركون في جهود تغيير وجه الدولة وجعلها أكثر يمينيةً ومحافظةً وتدينًّا. وهم يعملون هنا منذ أعوام طويلة ويقومون بتمويل سمينارات، ووسائل إعلام، وهيئات، وأبحاث، ويرعون سياسيين، واليوم ينتظرون ثمار كل هذا الاستثمار.

[ترجمة وتقديم: أنطوان شلحت]


(*) سافرتُ في عام 2014 إلى نيويورك في مهمة استثنائية بعض الشيء، إذ أردت إجراء فحص من خلال التجربة لكيفية قيام اليمين الأميركي اليهودي المتطرف، وبأموال أصحاب مليارات، بتهيئة قلوب زعماء إسرائيليين شباب لصالح تنفيذ رؤية مستقبلية لاقتصاد محافظ، وسياسة قوموية يهودية، ودولة شريعة يهودية – أو كما وصفها الأميركيون "حياة عائلة/طائفة يهودية". حينذاك كانت مجموعة (طاقم) كوهيلت في بداية طريقها، أما مَن سيطر على هذا النشاط، الذي تواصله كوهيلت اليوم بطرق أخرى، فقد كان مؤسسة أخرى: "صندوق تيكفاه" (أمل). وقد انضممت وشاركت في سمينار لمدة أسبوعين عقده الصندوق المذكور في مكاتبه القائمة في وسط حي منهاتن.

أقيم "صندوق تيكفاه" قبل أكثر من 20 عامًا كتجسيد لرؤية زلمان برنشتاين، وهو ثري يهودي وصاحب بنك الاستثمارات سانفورد برنشتاين، والذي في ذروة عمله قام بتشغيل أكثر من ألف موظف في الولايات المتحدة. في عام 2000 بيع البنك إلى شركة "إليانس كابيتال"، وتحوّل الشركاء فيه، ومنهم الثري روجر هارتوغ، إلى مليونيريين كبار. أما برنشتاين نفسه فتديّن، وهاجر إلى إسرائيل وسكن في مستوطنة، حيث أقام هناك "صندوق آفي حاي" و"صندوق تيكفاه"، وكان ممولًا مركزيًا لـ "مركز شاليم" (للأبحاث). والمنظمتان الأخيرتان، أشبه بكوهيلت، تجمعان بين رؤية يهودية قومية- دينية وبين سياسة اقتصادية- اجتماعية يمينية ومحافظة جدًا.

يقدّم تقرير أفريئيل معلومات ومعطيات توضّح أن من يدعم هذا الانقلاب في إسرائيل ليس فقط المجموعة المعروفة باسم كوهيلت والتي ساهمت آخر المستجدات بتصدّر اسمها واجهة الأحداث، بل ثمة أيضًا أجسام وأشخاص كثيرون من اليمين اليهودي الأميركي، يشاركون في جهود تغيير وجه الدولة وجعلها أكثر يمينيةً ومحافظةً وتدينًّا

في عام 1999 مات برنشتاين، ومنذ ذلك الوقت فإن من واصل تطوير "صندوق تيكفاه" هما هارتوغ، الذي كان رئيسًا للصندوق حتى استقالته في العام الماضي (2022)، والمدير العام أريك كوهين. ومعًا حوّلا هذا الصندوق إلى مصدر أموال لأكبر مشاريع الصهيونية الدينية: مشروع السيطرة على الأجهزة التي تدير الدولة...

وماذا كان حجم الأموال؟ لقد تبرع برنشتاين إلى الصندوق بمعظم أمواله، أي أنه اليوم أيضًا، بعد مرور 20 عامًا من النشاط، ما زال لدى الصندوق نحو 100 مليون دولار، كما يقول هارتوغ نفسه. هذه ميزانية أكبر بعدة أضعاف من ميزانية كوهيلت السنوية، التي تعادل 30 مليون شيكل. وإذا كان منهج عمل كوهيلت، مثلما شرح مؤسسها ورئيسها موشيه كوبيل في ما لا يحصى من محاضرات، هو صوغ اقتراحات قوانين مفصلة وتسليمها إلى أعضاء كنيست، أحيانًا تحت غطاء من أبحاث موضوعية مفترضة تمت ملاءمتها للهدف، فإن طابع عمل "صندوق تيكفاه" مختلف ولكنه مكمّل. فالصندوق يعمل بالأساس من أجل العثور على قادة مستقبليين شباب وتأهيلهم للمهمة التي انتخبوا من أجلها. بكلمات أخرى، تحميلهم العقيدة الملائمة من أجل الدفع قدمًا برؤية الصندوق وأهدافه.

إيتان أفريئيل 


شارك في سيمنار التأهيل الذي كنت حاضرا فيه نحو 25 مشتركًا، معظمهم في أعمار 25-35 عامًا، جاؤوا من منظمات مختلفة قسم منها مرتبط بالصهيونية الدينية. كان هناك مرشدو دورات تحضيرية، مركزو نشاطات ثقافية، وصحافي واحد على الأقل، هو درور إيدار، والذي كان في ذلك الوقت مراسلًا لصحيفة "يسرائيل هيوم" وحتى الفترة الأخيرة سفيرًا لإسرائيل في إيطاليا بتعيين من حكومة نيامين نتنياهو. وفكرة "تيكفاه" هي أن يواصل خريجو هذه السمينارات تسلق أعلى سلم الخدمات العامة الإدارية للوصول حتى الذروة. وقد شرح هارتوغ، في لقاء وداعي عقده قبل نحو عام في مناسبة تركه منصب الرئيس بسبب تقدمه في السن، أسلوب العمل بكلماته... "في البداية لم نعرف ماذا نفعل، ولكن لاحقًا قررنا أن التربية هي الموضوع. فإذا كنت قادرًا على اختيار الطلاب الملائمين، وكنت قادرًا على اختيار مضامين التربية الملائمة والمعلمين الملائمين، عندها إذًا يمكنك أن تقوم بشيء جديّ".

"الشيء الجديّ" في الجانب الإسرائيلي هو أخذ الشباب الإسرائيليين، الذين لا يأتون عادة مع رؤية اقتصادية متبلورة فيما يتجاوز ما تعلموه في المدارس، والذين استقوا أفكارًا إلى حدّ ما من "الماضي الاشتراكي لإسرائيل"، وجعلهم محافظين اقتصاديًا. أمّا قائمة المضامين والمراجع التي تم توزيعها في السمينار الذي شاركت فيها فتضمنت مقالات لاقتصاديين من المدرسة النمساوية، مثل فريدريك هايك، ونصوصًا لفلاسفة محافظين مثل إيرفينغ كريستول، والتي كان يتوجب على المشتركين قراءتها مسبقًا كي يتسنى الخوض فيها ومناقشتها في غرفة الصف.

وطاقم معلمي "تيكفاه"، كما اتضح، ليس منقطعًا عن الواقع. بل يعي جيدًا حقيقة أن الحياة العصرية في نيويورك وتل أبيب تعرض على الشباب إغراءات فكرية كثيرة، ولذلك لم يحاول إقحام أفكاره بالقوة. فقد كان مسموحًا في النقاشات الحديث عن كل شيء، وطرح أي فلسفة أخرى واقتراح حلول بديلة للمشاكل الاجتماعية. لقد كان هذا بمصطلحات عالم التسويق Soft Sell، ولكن برنامج التعليم كان في نهاية الأمر تبشيريًا بشكل تام. فالنصوص المحافظة جرى تحليلها بتوجّه مُرحّب به؛ أما مقالات المفكرين الاشتراكيين فقد نوقشت بشكل نقديّ. وإذا كان السمينار قد تناول في نصفه الأول الاقتصاد والنهج المحافظ الأميركيين، فإن ربط الأمر بإسرائيل وباليهودية جاء في الأسبوع الثاني، عندها ربط المحاضرون وجهة النظر المحافِظة مع اليهودية، ومع "قيم العائلة"، ومع المهمة الكبرى للمنظمة والمتمثلة في: الحفاظ على الشعب اليهودي المقيم في صهيون، ودعمه وإنقاذه من مخاطر الأعداء، ومن العلمانية والأفكار الاقتصادية الليبرالية والاشتراكية.

وهكذا، بواسطة دمج البرامج التربوية لمئات كثيرة من القادة الشباب الإسرائيليين وكذلك الأميركيين، بالإضافة إلى نشاطات اجتماعية وثقافية، وتمويل دور نشر وصحف، ومساعدة في تمويل مؤتمرات وبميزانية وصلت إلى مئات ملايين الدولارات، عمل "صندوق تيكفاه" ويواصل العمل على دفع وإدخال معتمري القلنسوات المنسوجة [أتباع تيّار الصهيونية الدينية] والشباب المحافظين بعد تزويدهم بالتأهيل الملائم، إلى كل منظمة مهمة في إسرائيل تقريبًا. وهكذا بتنا نجدهم اليوم في قيادة الجيش وبين كبار ضباطه في أطر ما قبل التجنيد، وفي وزارة المال وفي وزارات الحكومة الأخرى، وفي السلطات المحلية، وفي السياسة، وكذلك في الإعلام. ومرة أخرى شرح هارتوغ السبب بقوله: "إن كل منظمة ناجحة تحتاج إلى قادة... وليست هناك حاجة إلى كثيرين منهم".

عمل "صندوق تيكفاه" ويواصل العمل على دفع وإدخال معتمري القلنسوات المنسوجة [أتباع تيّار الصهيونية الدينية] والشباب المحافظين بعد تزويدهم بالتأهيل الملائم، إلى كل منظمة مهمة في إسرائيل تقريبًا

صحيح أن نشاط "صندوق تيكفاه" الأساسي يجري في نيويورك، ولكن لديه نشاط في إسرائيل أيضًا بقيادة المدير العام، عميعاد كوهين، الذي يعمل أيضًا في وظيفة الناشر والمحرر المسؤول لمجلة "هشيلواح". وكوهين هو مثال نموذجي للأشخاص الذين نموا في "موديل تيكفاه": كان في وظيفته السابقة سكرتيرًا لمستوطنة عيلي في الضفة الغربية، وكان رئيس قسم التجديد الاقتصادي في شركة تطوير بنيامين، وفقًا لموقع الصندوق، وهدفه مكتوب بحروف كبيرة وبارزة: "نعمل على الدفع قدمًا بدولة يهودية، قوية ومزدهرة"؛ ويتضح أنه من أجل تحقيق هذا الغرض تمت استضافة كوهين مؤخرًا في مكتب الزعيم الأوتوقراطي الهنغاري فيكتور أوربان لمحادثة حول أشكال التعاون. وأوربان نفسه كتب تغريدة حول اللقاء جاء فيها: "إن بناء مجتمع محافظ هو عمل صعب. ولكن هناك نتائج عظيمة لدى إسرائيل وهنغاريا أيضًا. لقد سنحت لي اليوم فرصة لمقارنة الملاحظات حول هذه المهمة النبيلة مع عميعاد كوهين".

بعد خروج هارتوغ منه، يواصل "صندوق تيكفاه" العمل بنشاط عالٍ تحت سلطة رئيس جديد هو إليوت أبرامز، المستشار السابق لشؤون الشرق الأوسط لدى الرئيس جورج بوش الابن، والذي صار لاحقًا موظفًا كبيرًا في وزارة الخارجية خلال ولاية دونالد ترامب. وبمصطلحات مالية، وفقًا للتقييمات في عالم القطاع الثالث، فإن "تيكفاه" يضخ 10 – 15 مليون دولار سنويًا من أجل تصميم إسرائيل بموجب رؤية مؤسسي الصندوق ومديريه.

ترفض مجموعة كوهيلت بشدة كشف قائمة المتبرعين الذين يضخون لها 20-30 مليون دولار سنويًا، لكن صحيفتي هآرتس وThe Marker كشفتا النقاب عن اثنين منهم: المليارديريان اليهوديان جيفري ياس وأرتور دنتشيك


العلاقة مع مجموعة كوهيلت

لو ألقينا نظرة إضافية على أعضاء مجلس إدارة "صندوق تيكفاه" ستتضح لنا على الفور العلاقة بمجموعة كوهيلت، التي تقف اليوم في مركز الجدل الجماهيري حول التشريعات لتغيير نظام الحكم في إسرائيل. فموشيه كوبيل، مؤسس ورئيس كوهيلت، هو عضو في مجلس الإدارة، وجاء في الفقرة التي تصف نشاطه أن "عددًا من القوانين التي صاغها الدكتور كوبيل تمت المصادقة عليها من طرف الكنيست". وإذا كانت خطة الإصلاح التي يقودها وزير العدل الإسرائيلي الحالي ياريف ليفين ستدخل في نهاية المطاف إلى كتاب قوانين دولة إسرائيل، فيمكن لـ"صندوق تيكفاه" تحديث ما كتبه عن كوبيل في سيرته الذاتية وكتابة العبارة التالية: "كتب قوانين غيّرت نظام الحكم في إسرائيل".

من جهتها، ترفض مجموعة كوهيلت بشدة كشف قائمة المتبرعين الذين يضخون لها 20-30 مليون دولار سنويًا، لكن صحيفتي هآرتس وThe Marker كشفتا النقاب عن اثنين منهم: المليارديريان اليهوديان جيفري ياس وأرتور دنتشيك. وكلاهما، بالإضافة إلى صديقهما جويل غرينبرغ – الذي من غير المعروف ما إذا كان يتبرع هو الآخر لكوهيلت –أقاموا معا شركة الاستثمارات والاتجار بالسندات المالية "سسكوانا"، التي تقع مكاتبها في ولاية بنسلفانيا، وقد حققوا نجاحًا في عملهم.

القيمة المقدرة لـ "سسكوانا"، وفقا للصحافة الاقتصادية الأميركية، توفر لياس رأسمالًا شخصيًا قيمته 34 مليار دولار، وهو مبلغ يضعه في المكان 37 من بين أغنى أغنياء الولايات المتحدة، بينما يقدر الرأسمال الشخصي لدنتشيك بسبعة مليارات دولار. وكلاهما كالمتوقع ليبرتاريان متطرفان مؤيدان لخفض الضرائب على أصحاب الثروات - ويجريان فعليًا تخطيطات ضريبية مشبوهة من أجل تقليص عبء الضريبة عنهما، مثلما كشف تحقيق منظمة "بروبابليكا" – ولكن ينشطان أيضًا في خصخصة كل خدمة عامة أميركية ممكنة تقريبًا. وياس ناشط في الولايات المتحدة في مجال التعليم الخاص، ويدعم سياسيين محافظين بشكل مباشر. وقد كُشف أن ياس ودنتشيك مؤيدان لمنظمة Club For Growth التي حولت في عام 2020 أموالًا إلى السياسيين الذين ينكرون خسارة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. وفي هذه الأيام تبرع ياس إلى سياسيين محليين في دولة بنسلفانيا، وأحيانا كمتبرع وحيد، بمبالغ تصل إلى عشرات ملايين الدولارات. ليس معروفًا متى بدأ كلاهما بتمويل نشاطات مجموعة كوهيلت، التي تشغّل نحو مئة موظف، ولكن إذا كانا هما المسؤولان عن معظم ميزانية المنظمة في العقد الأخير، فالمبالغ تصل إلى عشرات كثيرة من ملايين الدولارات وربما أكثر.

بالنسبة إلى ياس ودنتشيك و"سسكوانا"، لا تشكل التبرعات لمجموعة كوهيلت الرابط الوحيد مع إسرائيل. فذراع الهايتك التابعة للمجموعة تستثمر بشكل مباشر في سلسلة طويلة من شركات الستارت أب الإسرائيلية، وحتى أنها تشغل طاقمًا من المحللين ومديري استثمارات رأس المال المجازف الذين يعيشون في إسرائيل. هذه الاستثمارات تخلق أحيانًا احتمالًا لوجود تضارب في المصالح، مثلا حول شركة الاتجار بالسندات المالية وعملات الكريبتو (العملات الرقمية) eToro، التي يسيطر عليها المدير العام يوني آسيا، وتستثمر فيها "سسكوانا"، ولكن أيضًا صندوق رأس المال المجازف BRM، وأحد أصحابه وزير الاقتصاد الإسرائيلي الحالي، نير بركات. بالمناسبة، ليس هذا هو الرابط الوحيد بين بركات وياس ودنتشيك؛ فأمير غولدمان الذي أقام، وفقا لموقع "سسكوانا"، ذراع الأموال للشركة، عمل في السابق في صندوق BRM بينما كان بركات نفسه، وفقًا لتحقيق أوري بلاو من منظمة الصحافيين الاستقصائيين "هشومريم" (الحراس)، قد عمل في السابق مع كوهيلت على طلب أبحاث اقتصادية، ولا يتردد في كيل المدائح للمنظمة في كل فرصة متاحة له. في هذه الأيام بالذات، حين تفكر شركات ستارت أب كثيرة في نقل أموالها أو مقراتها من إسرائيل إلى الخارج بسبب الخوف من الانقلاب في الحكم، سيكون من اللافت والمثير اكتشاف ما إذا كان ياس ودنتشيك سيطالبان هما أيضًا شركاته الإسرائيلية بتقليل حدّة البلاغات عن المخاطر، بطريقة مشابهة.

نجح هؤلاء الأميركيون أصحاب المليارات بوضع أساس لأفكارهم هنا في إسرائيل، على وجه الخصوص في صفوف الصهيونية الدينية ولكن أيضًا في صفوف علمانيين كثر

هذه هي الفرصة!

ولكن هارتوغ، وتِركة برنشتاين، وياس ودنتشيك، ليسوا الوحيدين الذين ضخوا ويضخون أموالًا هائلة إلى آلة الاستيطان، ودورات التأهيل، وصياغة القوانين – وعمليًا إلى مشروع سيطرة الصهيونية الدينية على قيادة دولة إسرائيل. فعلى امتداد الأعوام العشرين الأخيرة نشرت هآرتس وصحف أخرى في العالم، بعضها في الولايات المتحدة، معلومات كثيرة عن نقل أموال يهود أميركيين إلى سكان المستوطنات، لغرض اقتناء عقارات وبيوت من عرب في الأراضي الفلسطينية، ومن أجل دورات تأهيل وكتابة قوانين والدفع بها قدمًا بين أعضاء كنيست إسرائيليين، ولكن ظلت الأسماء والأرقام غالبًا مخفية. مثلًا تعمل في أميركا منظمة اسمها Central Fund of Israel ("الصندوق المركزي لإسرائيل")، ويمكن بواسطته لمتبرعين أميركيين تمويه استخدام الأموال التي يوزعونها. فهم يتبرعون للصندوق، ويتلقون عادة إعفاء ضريبيًا بسبب الإجراء التبرعي، بينما يقسم الصندوق نفسه هذه الأموال إلى عشرات الأهداف. لا يحتوي موقع الصندوق على تفاصيل حول المتبرعين وأهداف التبرعات. وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز الصندوق على أنه "مقاصة مركزية" تستخدم كقناة أموال إلى عشرات المنظمات في الضفة الغربية. وفي مقال نشره عام 2019 رامي هود ويونتان ليفي، وكلاهما من صندوق بيرل كتسنلسون، وصفا كيف أن خطة الانفصال وتفكيك المستوطنات في قطاع غزة عام 2005 كانا الحدث الصادم الذي حرّك الصهيونية الدينية إلى اختيار طريق "السيطرة على الديمقراطية الإسرائيلية من الداخل"، مثلما كتب الحاخام يسرائيل روزين في ذلك العام، وشرح بأن ذلك سوف يتم بواسطة "إرسال المزيد والمزيد من الأشخاص اللائقين إلى الإعلام، وإلى عالم القضاء، وإلى السياسة وحتى إلى الفن"، وهو إجراء تم تأطيره من طرف الصهيونية تحت عنوان "استيطان القلوب". وإلى جانب التمويل الأميركي، فإن هذا ما يحدث بالضبط، على الرغم من أن مجموعة المستوطنين تشكل نسبة ضئيلة من سكان إسرائيل. في عام 1987 دعا الوزير الإسرائيلي الراحل أوري اورباخ معتمري القلنسوات المنسوجة إلى الذهاب للإعلام من أجل التأثير على الدولة، وفي أعقاب دعوته هناك اليوم متدينون كثيرون في الإعلام الإلكتروني والمكتوب، وفي سلسلة طويلة من وسائل الإعلام والمواقع الممولة على نحو مباشر أو غير مباشر من مليونيريين أميركيين، بينها مثلا صحيفة "مكور ريشون" التي تمولها مريام إدلسون أرملة شلدون إدلسون، وموقع "ميدا"، ومجلة "هشيلواح".

أقيم "صندوق تيكفاه" قبل أكثر من 20 عامًا كتجسيد لرؤية زلمان برنشتاين، وهو ثري يهودي وصاحب بنك الاستثمارات سانفورد برنشتاين في الولايات المتحدة


وفقًا لتقديرات الدكتور هيلل بن ساسون، من "معهد فان لير" للأبحاث، تصل نسبة معتمري القلنسوات المنسوجة في الجيش إلى أربعين بالمئة من مجمل الضباط في الجيش النظامي. وفي نهاية المطاف، بطبيعة الحال، فإن الأفكار الاقتصادية- الاجتماعية للمحافظين الأميركيين قد وجدت طريقها إلى قلوب سياسيين مثل نفتالي بينت وأييلت شاكيد (اقترحا في الماضي تغييرًا في الحكم مشابهًا لذلك الذي يحركه وزير العدل ليفين اليوم) وجدعون ساعر، وزئيف إلكين، ومتان كهانا، واليوم بتسلئيل سموتريتش وليفين وسيمحا روتمان.

ولدى الباحث رامي هود إجابة مفصّلة عن السؤال: من يموّل الصعود السياسي للصهيونية الدينية؟ فهو يقول: "إن المصدر الأول هو الدولة: التعليم الرسمي- الديني يتلقى أموالًا للطالب الواحد أكثر من أي قطاع آخر في إسرائيل، ولا يمكن لوزارة التربية والتعليم أن تتدخل في برنامج التعليم في هذا القطاع، وقد نشأ فيه DNA لنخبة سياسية تعمل من أجل تحقيق هدف معلن؛ القبض على مواقع السلطة الإسرائيلية، بما في ذلك المجتمع المدني، الجيش، عالم القضاء، مؤسسات الحكم والإعلام. أما المصدر الثاني فهو متبرعون أميركيون جمهوريون، مثلما في حالة مجموعة كوهيلت و’صندوق تيكفاه’. وقد بدأ هؤلاء بالظهور بعد الاحتجاج الاجتماعي عام 2011، الذي حرك الجدل العام صوب اليسار، وهنا أظهر الأميركيون اهتمامًا بإيجاد منظمات مجتمع مدني يمينية. والنتيجة هي أن اليمين الديني هو المجموعة ذات الامتيازات الأكبر في إسرائيل".

(*) سؤال: هذا يظل غريبًا بعض الشيء. يمكن فهم الهدف القوموي والديني، ولكن ما الذي جذب المستوطنين إلى الفلسفة المحافظة الأميركية؟

ر. هود: توفر الرؤية النيو ليبرالية للمتدينين شرعية أخلاقية. فهم يتربون كنخبة، لا ينكشفون على الأقليات والتمييز وانعدام المساواة البنيوي، وهم يتلقون أموالًا من الدولة ومن الولايات المتحدة. ولذلك من المريح لهم أن يرووا لأنفسهم أنهم ينجحون ليس بفضل جميع الأموال الحكومية هذه وإنما لأنهم موهوبون. مثلما لدى الليبرتاريين، فقد تبنوا كل ما هو مناقض لليسار؛ إذا كان هذا اليسار يؤيد اتفاق أوسلو فإنهم يؤيدون الضم، وإذا كان اشتراكيًا فهم محافظون نيو ليبراليون.

 (*) سؤال: من الجهة الثانية لنفس العملة، لماذا يقوم أصحاب مليارات أميركيون قسم منهم علمانيون بتوزيع مئات ملايين الشواكل على معتمري القلنسوات المنسوجة تحديدًا؟

ر. هود: يشعر هؤلاء الجمهوريون، بعد أن دفعوا قدمًا بالنهج المحافظ في أميركا، أن هناك صراعًا فكريًا عالميًا ولذلك فإن جعل إسرائيل محافظة يعتبر إنجازًا بالنسبة لهم. صحيح أنها دولة صغيرة، ولكنها ذات سمعة وتأثير وقدرة على نشر الأفكار. وهناك لكثيرين منهم بالطبع مصالح اقتصادية في إسرائيل ومن الملائم لهم أن يكون في الحكم أشخاص مدينون لهم.

*****

هناك رجال أعمال أميركيون محافظون آخرون يعملون على محور الولايات المتحدة والمنظمات الإسرائيلية المحافظة، وبهذه الطريقة أو تلك، فهم مرتبطون أيضًا بكوهيلت أو بـ "صندوق تيكفاه". وأحد هؤلاء هو ديفيد فريدمان، الذي كان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل خلال فترة حكم دونالد ترامب. وفريدمان، محام بوظيفته، خرج إلى عالم الأعمال الخاصة بعد أن خسر ترامب في الانتخابات، وأقام صندوق استثمارات لرأس المال المجازف بمليارات الدولارات، وقام بتجنيد أمواله بالأساس من جهات حكومية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، بعد التقارب بينهما وبين إسرائيل استمرارًا لتوقيع "اتفاقيات أبراهام"، والتي يعتبرها فريدمان ثمرة لنشاطه.

فجأة هناك أفكار أميركية مثل حرية حيازة السلاح، بدأت تُدفع من طرف سياسيين مثل الكهانيّ إيتمار بن غفير، وأمير أوحانا من الليكود، وكذلك إضعاف النقابات العمالية والعمل المنظم، ومعارضة رفع الحد الأدنى للأجور والقضاء على شبكة الضمان الاجتماعي، وخصخصة جهاز التعليم، وفوق كل ذلك الانقلاب في الحكم وإضعاف قوة وصلاحيات المحكمة العليا

ويستثمر "صندوق فريدمان"، مع أموال دول الخليج، في شركات ستارت أب إسرائيلية وخصوصًا في المجال السيبراني والأمن. ولكن فريدمان نشيط أيضًا في حركات محافظة إسرائيلية مثل نشاط "مؤتمر المحافظة" حيث أن "الشركاء" فيه وفقًا لموقع المنظمة يضمون أيضًا الذراع الإسرائيلية في "صندوق تيكفاه" وصحيفة "هشيلواح" وموقع "ميدا"، ودار نشر المركز الأكاديمي شاليم، ومعهد أرغمان، والفوروم الإسرائيلي للقضاء والحرية، ومنظمة "الجيل القادم – أهال من أجل الاختيار في التربية". وجميع هذه الأجسام تدفع إلى الأمام بسياسة وأفكار محافظة أو ليبرتريانية وجميعها ممولة من متبرعين أميركيين.

هناك محافظ أميركي إضافي يستثمر في الهايتك الإسرائيلي هو تشيس كوخ، ابن ثري الصناعات الكبير تشارلز كوخ، من كبار الصناعيين وأحد أغنى الأشخاص في أميركا والعالم، ولديه ثاني أكبر شركة خاصة في الولايات المتحدة. في عام 2019 قرر كوخ الابن استئجار خدمات إيلي جرونر، وهو معتمر قلنسوة منسوجة وكان مديرًا عامًا لمكتب رئيس الحكومة نتنياهو في نهاية العقد الماضي، ومنذ أن أنهى وظيفته يدير أعمال العائلة في إسرائيل. صحيح أن أبناء عائلة كوخ ليسوا يهودًا، ولكن ليس هناك أكثر محافظة منهم؛ في الأعوام الأخيرة ضخوا مئات ملايين الدولارات لدعم سياسيين جمهوريين في الولايات المتحدة، ولدعم أفكار محافظة وليبرتريانية مختلفة، بدءًا من خفض الضرائب وحتى رفض تنظيم عالم الأعمال والتجارة، مثلا بواسطة دعمهم المركزي لـ "معهد كاتو" – المعهد الليبرترياني البارز في الولايات المتحدة والذي يعمل بنموذج شبيه لمجموعة كوهيلت.

بعد أكثر من 20 عامًا من النشاط في دفع هذه الأفكار، والتعديلات والقوانين المحافظة، وفي معظم الوقت تحت رادار الجمهور الإسرائيلي، نجح هؤلاء الأميركيون أصحاب المليارات بوضع أساس لأفكارهم هنا في إسرائيل، على وجه الخصوص في صفوف الصهيونية الدينية ولكن أيضًا في صفوف علمانيين كثر مثل أييلت شاكيد وعضو الكنيست السابق أبير كارا، اللذين لم ينتخبا للكنيست في الانتخابات الاخيرة. وفجأة هناك أفكار أميركية مثل حرية حيازة السلاح، بدأت تُدفع من طرف سياسيين مثل الكهانيّ إيتمار بن غفير، وأمير أوحانا من الليكود، وكذلك إضعاف النقابات العمالية والعمل المنظم، ومعارضة رفع الحد الأدنى للأجور والقضاء على شبكة الضمان الاجتماعي، وخصخصة جهاز التعليم، وفوق كل ذلك الانقلاب في الحكم وإضعاف قوة وصلاحيات المحكمة العليا. وجميع هذه الأمور تحولت إلى مطالب شرعية.

ويمكن القول إنه بعد الانتخابات الأخيرة (جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) والأغلبية القوية التي فاز بها نتنياهو والأحزاب الدينية، نشأت بالنسبة لأصحاب المليارات ومن يتلقون دعمهم هنا محليًا نافذة فرص نادرة لتطبيق كل الأحلام السياسية مرة واحدة. لقد كان الأمر شبه حتميّ: إذا كان أصحاب مليارات محافظون ومراكز تابعة لهم قد عرفوا كيف يسيطرون على الولايات المتحدة خلال فترة طويلة، بما في ذلك خلال رئاسة رونالد ريغان وبوش الأب والابن ومؤخرًا ترامب أيضًا، فلن يكون هناك سبب في أن لا ينجحوا في السيطرة على إسرائيل أيضًا من خلال الارتباط بالمشاعر القوموية والدينية للصهيونية الدينية.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.