}

غابريال غارسيا ماركيز: عن الحب والشيخوخة والموت

ضفة ثالثة- خاص 12 أبريل 2024
استعادات غابريال غارسيا ماركيز: عن الحب والشيخوخة والموت
ماركيز (1991، Getty)



ترجمة حسونة المصباحي


أجري هذا الحوار مع غابريال غارسيا ماركيز (1927- 2014) في مكسيكو سيتي عندما كان مُنشغلًا بكتابة روايته "الحب في زمن الكوليرا". وكان آنذاك في السابعة والخمسين من عمره. وقد نشر الحوار في "نيويورك تايمز ريفيو"، ثم في "المجلة الأدبية الفرنسية" في عددها رقم 220، الصادر في شهر حزيران/ يونيو 1985.

(*) أنت تقول بأنك بصدد كتابة قصة حبّ سعيدة. وهي قصة عن رجل وامرأة في سن الشيخوخة...

إنها قصة حب تبدأ حين يكون الشاب والفتاة في سن المراهقة. ثم تنقطع تلك القصة لتظل مُلْتهبة في قلب كل واحد منهما. وحين يلتقيان من جديد، يكون كل واحد منهما قد بلغ سن الثمانين.  في البداية كانت لديّ فكرة، وصورة. ولم يكن لديّ لا مفهومًا ولا حبكة. والصورة الأولى التي تبادرت إلى ذهني لهذه الرواية هي صورة امرأة ورجل يفرّان في سفينة. والرجل والمرأة أدركا سن الشيخوخة، إلاّ أنهما سعيدان، ويرقصان على جسر السفينة. غير أني لا أرغب في الحديث عن الكتاب لأن هذا مؤشر سيء...

(*) لقد قلت دائمًا إن الكاتب يقضي وقته في الكتابة عن سنوات شبابه. وها أنك تبتكر زمنًا لم تعشه بعد...

نعم... أنا هنا أستبقُ الزمن... لكني قمت بهذا من قبل بطريقة ما. اثنان من كتبي يهتمان بحياة أناس في طور الشيخوخة. ففي روايتي "أوراق في العاصفة"، يجد رجل نفسه عاجزًا عن القيام بأيّ شيء فينتحر. وفي روايتي "لا أحد يُكاتبُ الكولونيل"، هناك عسكري قديم ينتظر رسالة لا تأتي أبدًا. وإذا ما نحن تمعنّا في شخصيّات "مائة عام من العزلة"، فإننا نعاين أني اهتممت بمن يكبرونني سنًا. وأنا لم أكتب أبدًا للأطفال.

(*) ربما لأنك طفل، عشت سنوات طويلة مع جديك...

نعم... هذا صحيح... وكان ذلك مُهمًّا للغاية... وإجمالًا يمكن أن أقول بأن جديّ كانا نموذجين لشخصيات عديدة في رواياتي لأنني كنت أعرف كيف يتكلمان، كيف يسلكان في الحياة. ولكي  أتأكد من أن شخصياتي قريبة من الواقع، كنت أعود إلى جديّ دائمًا ليكون بمثابة مرجعية بالنسبة لي. غير أنني كنت أقتصر على وصف سلوك هؤلاء المُسنين من دون أن أهتم بعالمهم الداخلي. أما الآن فقد بدأت أعي بالشيخوخة. والرواية التي أنا بصدد كتابتها تفرض عليّ أن أفكر ست ساعات في اليوم في أشياء لم أكن قد بحثت فيها من قبل، مثل الشيخوخة، والحب، والموت. وقد وجدت نفسي مُنشغلًا بهذا شديد الانشغال. في كل كتاب، يترك المؤلف أشياء كثيرة من نفسه. وأنا لم أفكر أبدًا بجديّة في فكرة الموت قبل أن أحاول أن أفهم كيف أن الموت يؤثر في المُسنين. شخصياتي لا تموت، بل هي تعيش وكأنها أبديّة. 

(*) باستثناء من هم يُشنَقُون، أو يقتلون رميًا بالرصاص، أو يُغتالون...

نعم، شخصياتي تموت بطريقة عنيفة. وهي لا تعرف الشيخوخة. والآن وأنا أشيخ، أريد أن أعرف كيف يؤثر كلّ هذا في العواطف... وهذا هو أهمّ شيء بالنسبة لي. وبخصوص الجنس، أنا لا أملك الكثير من المعلومات حول ذلك، إلاّ أنني أشعر أن الرغبة الجنسية لا تموت إلاّ عندما تكون هناك نيّة في إنهائها. وكلما ظل شخص ما راغبًا في الجنس، فإن الجنس لا يتخلى عنه أبدًا. وبطبيعة الحال، لا يجب التوقف عن الجنس لفترة طويلة لأن استعادة الرغبة فيه ستكون صعبة. علينا أن نترك المُحرّك يشتغل دومًا. وهذا ما أنا أحاول مُعالجته في روايتي الجديدة. ليس مهمًا عمر الشخصيات ما دامت لها حياة جنسية. ولست أدري إن كان هذا تصوري الشخصي، غير أن ما أعلمه هو أن جدي الذي كان قد تجاوز سن الثمانين ظل نشطًا جنسيًا حتى النهاية. 

(*) هل بحثت في مشاكل الشيخوخة، أو قرأت عنها عند كتّاب آخرين؟

لا... أنا لا أعمل بهذه الطريقة... قرأت فقط كتاب سيمون دو بوفوار "الشيخوخة". أنا أسْعى دائمًا إلى ترك الخيال والابتكار يُمْليان عليّ أسرار العمر. وأنا أتصور كيف سيتقبل المُختصون والمسنّون أفكاري، وكيف سيحكمون عليها إن كانت صحيحة أم خاطئة. وقد تكون الشيخوخة في روايتي غير تلك التي في الواقع. ومؤخرًا بلغني أن أحدهم في كولومبيا أصدر بحثًا عن الشيخوخة في "مائة عام من العزلة". أنا لم أقرأ هذا الكتاب. إلاّ أني أعتقد أن الأمر يتعلق بباحث متخصص في الشيخوخة، وجد أنني طرحت الموضوع بشكل لائق. أما بالنسبة لي فإن الأمر كان من ابتكار الخيال والحَدَس. فعندما كتبت "مائة عام من العزلة"، كنت بين الثلاثين والأربعين. أنا لا أعدّ نفسي مطلقًا لأيّ موضوع من المواضيع. يمكنني فقط أن أطلب معلومات بخصوص نقاط محددة. في "مائة عام من العزلة"، أنا لم أدرس لا الأوضاع الاجتماعية ولا الأوضاع الاقتصادية في كولومبيا. وكان من الممكن أن أقوم بتحقيقات جدية عن الأحداث المأساوية التي حدثت في مزارع الموز التي كانت تستغلها شركات أجنبية، إلاّ أنني اكتفيت بطرح بعض الأسئلة عنها. وقد اقتصرت على معرفة عدد القتلى في إضراب مزارعي الموز في عام 1929، وكانوا 17. بالنسبة لي كان هذا العدد مضحكًا إذ أنني كنت أريد أن يكون العدد هائلًا بحيث توضع الجثث على العربات عوض الموز، وتكون كافية لملء قطار. التاريخ بسبعة عشر قتيلًا يكون ضدي على طول الخط حتى ولو كان عددهم كافيًا لملء عربة قطار.  وقبل وقت ليس ببعيد، تحدث أحدهم خلال حفل أقيم للاحتفال بتلك الذكرى، عن ثلاثة آلاف قتيل. ما أريد قوله هو أنني لا أرغب في القيام بدراسات. وأنا لا أميل إلى النظريات. ولا أرغب في أن أحول أيّ تجربة من تجاربي إلى نظرية. لذلك أنا أقرأ قليلًا من الكتب النظرية حول الأدب. لكن يحدث لي أن أكتب قصة معتمدًا فيها على بعض الإحصائيات، والتحقيقات.

 


(*) ماذا تعلمت من كتاب سيمون دو بوفوار؟

لقد أعجبني. وهو دراسة، وكتاب يحتوي على أفكار، وعلى إحصائيات.  مع ذلك، هناك واحد من الجوانب يهمني كثيرًا رغم أنه لم يطرحها للبحث. وهذا الجانب هو الحياة الجنسية للمسنين. ونحن نجد له آثارًا باهتة في كتاب سيمون دو بوفوار. وما يهمني في النهاية هو ما يلي: لماذا ننظر بشيء من النفور والاشمئزاز للحياة الجنسية للمسنين؟ وأنا لا أفهم ذلك مطلقًا. وهذه هي النقطة الأساسية التي أطرحها في روايتي. وبطريقة ما أنا أستعمل والديّ كنموذجين لبطليْن بروايتي. ليس كنموذجين تمامًا، وإنما لأن الكثير من تجارب بطليْ روايتي تتماثل مع تجاربهما. وقد دام زواج والديّ ستين عامًا أنجبا خلالها ستة عشر ابنًا؛ واحدٌ منهم أنجبته والدتي بعد أن تجاوزت سن الأربعين. وكنت دائمًا أحب أن أعرف ماذا كان يحدث بينهما بعد أن بلغا سن السبعين. وقد توفي والدي في سن الرابعة والثمانين. وأنا تحدثت معه حول ذلك بشكل عام ففي أميركا اللاتينية لا يمكن طرح مثل هذه المسائل أمام الآباء، ولا أمام آخرين... وعلى أية حال، أنا على يقين بأن المسنين يلجؤون إلى العادة السرية حين يفتقرون إلى علاقات جنسية عادية. 

(*) كنت قد عبّرت عن سعادتك بزيارة والديك عندما تكون في كولومبيا. ومؤخرًا توفي والدك. هل رحيله عن الدنيا غيّر شيئًا ما في حياتك؟

لقد انقطعتُ عن العيش مع والديّ بين سن الثالثة عشرة، والرابعة عشرة. لذلك، كنت أشعر دائمًا أنني مجرد زائر عندما أكون في البيت العائلي. وإخوتي وأخواتي الذين كانوا يقيمون دومًا مع والدي يشعرون الآن بالحيرة إذ لا أحد توفي من عائلتنا. إلا أن وفاة الأب تمنحنا اليقين بأن موتنا وشيك. وهو يكون سببًا في نوع من الاستعجال، وهذا الاستعجال لا يأتي فقط مع موت الأب، بل أيضًا مع التقدم في العمر. وكلما مرّ الوقت، ويزداد شعورنا بأننا نعمل بسرعة أكثر، لذا يتحتم علينا بالخصوص أن نُعدّ أنفسنا لشيخوخة مفيدة.

(*) كيف ذلك؟

يكفي أن أظل قادرًا على الكتابة. لذا يمكن أن أكون مفيدًا حتى بلوغي سن المائة إذا ما حافظت على قدرتي على مواصلة الكتابة. قضيتي هي الحياة. وكلما عشت أكثر ازدادت الحياة اتساعًا. 

(*) هل تفكر كثيرًا في الشيخوخة؟

نعم... لقد بدأت أفكر في ذلك... وخوفي الأساسي هو ألاّ يُسْعفني الجسد. هناك فترة زمنيّة لا يكون فيها نظام الأكل والتمارين كافية لإبعاد خطر العجز والمرض، فيفقد الجسد القدرة على المقاومة. وأعتقد أنني بلغت تلك الفترة من العمر التي نقول فيها: آ... أبدًا لم يحدث لي هذا من قبل... وهذا الألم لم أعرف له مثيلًا من قبل أبدًا... وهذا الإحساس أيضًا... وأنا لم أكنْ أتردد على بيت الراحة مرات عديدة في الليل مثلما هي حالي راهنًا... كما أني أصبحت أستيقظ مبكرًا جدًا لأواجه قلق السهاد... غير أن أهم شيء هو ما يحس يه كل شخص وهو يستمع إلى نبضات قلبه. هذا يظل لغزًا. وأنا أكتب روايتي هذه، لا أدري كيف سيكون شعور شخصياتي وهي تستمع إلى نبضات قلبها في زمن الشيخوخة. إنه تحقيق بالمعنى الدقيق للكلمة. لذا يمكنني أن أقول بإنني أواصل الكتابة لكي أعرف ماذا سيحدث، وأكون قادرًا على قراءته. 

(*) هل تكتب بطريقة مختلفة عن تلك التي كنت تكتب بها في شبابك؟

طريقة الكتابة مختلفة للغاية. في فترة الشباب نحن نكتب- على الأقل في ما يخصّني لأن الأمر يختلف من كاتب إلى آخر- وكأننا نكتب قصيدة. نحن نكتب بوحي من المشاعر، ولنا قوة إلهام خارقة حتى أننا لا نُعير اهتماما للتقنية. ونحن نكتفي بما يردُ على أذهاننا، من دون أن نهتم بالكيفية وبالطريقة التي ستعبّر بها عن ذلك. لكن فيما بعد، نحن نعرف ماذا يتوجب علينا قوله، وكيفية التعبير عنه. وحتى وإن أمضينا العمر كله في الكتابة عن طفولتنا، فإننا نجد أنفسنا قادرين على التعبير عنها بطرق وبأساليب مختلفة. لكن عندما نشيخ، تنضب طاقة الوحي، وتصبح التقنية أمرًا ضروريًا ومُلحًّا. وإذا ما افتقد الكاتب للتقنية، فإن كل شيء ينهار. بالتأكيد نحن نكتب بأقلّ سرعة. وبأكثر عناية، وربما بإلهام أقل. وهنا يكمنُ المشكل الحقيقي للكاتب المحترف. في سن العشرين، كنت أكتب قصة كل يوم لجريدة، وأحيانًا افتتاحيّات عدة، في نفس اليوم. ثم في الليل، حين تفرغ قاعة التحرير، كنت أظل هناك لأكمل قصة أو رواية. وهناك قصة عنوانها: "ليلة كورلي"، وهي من أوائل القصص التي كتبتها. وكان ذلك في فترة أطلقنا فيها مجلة أدبية أسبوعية. وذات يوم، وجد رئيس التحرير صفحتين فارغتين. وفي الليل، جلست أمام الطاولة وكتبت قصة لكي أملأهما. لم يعد باستطاعتي الآن أن أفعل ذلك. وتلك القصة تتطلب مني ثلاثة أسابيع لكي أنهيها. وأفظع من ذلك... قبل وقت ليس ببعيد، كتبت قصة بـ15 صفحة. وقد اقتنيت من أجل ذلك 500 ورقة بيضاء. ولما انتهيت من كتابة القصة، كانت كل تلك الأوراق قد انتهت. ثم أني تعودت على الكتابة في الليل، وأدخّن كثيرًا أثناء ذلك. ما هو سيء في فترة الشباب هو أنك تجد نفسك مُجبرًا على الكتابة حتى وأنت مُتعب. وأنت لا تجلس إلاّ عندما تكون قد أنهيت كلّ ما يؤمّنُ لك العيش. لكن مع مرور الوقت، أنت تصبح أكثر حرفيّة، وتحرص على تنظيم حياتك. وعندما انقطعت عن الكتابة في الصحف لأنشغل بكتابة رواياتي، كنت أجد صعوبة كبيرة في الجلوس أمام الطاولة صباحًا لأشرع في الكتابة طوال اليوم. ومع تقدمي في السن، انقطعت عن التدخين. وقبل ذلك لم أكن أكتب كلمة واحدة من دون أن أدخن. وكنت أمام خيار وهو أن أعوّد نفسي شيئا فشيئًا على عدم التدخين، أو أن أعوّدَ نفسي على الكتابة فورًا من دون اللجوء إلى السيجارة. وقد جرّبت الاختيار الثاني، وكان الأمر صعبًا للغاية. وهذا سمح لي بأن أكتشف أني انقطعت مرارًا كثيرة عن الكتابة ليس بسبب التعب، وإنما بسبب الافراط في التدخين. والآن أنا أقترب من الشيخوخة إلاّ أنني أستيقظ بأكثر حيوية ونشاطًا. الفرق الثاني بشأن موضوع السن هو الذاكرة. في فترة الشباب، لم أكن أسجل الأفكار التي تراودني أثناء الكتابة. وكنت أظن أني إذا ما أنا نسيتها فلأنها ليست مُهمّة جدًا. وكنت أتذكر تلك التي لها أهمية بالنسبة لي. أما الآن فإنني أقوم بتسجيلها. وما يحزّ في نفسي هو نسيان فكرةٍ راودتني، أو شيءٍ ما كنت أرغب في قوله، أو كنت قد قرأته، أو موسيقى تبخّرت من ذاكرتي. وفي سنّ معيّنة، نحن ننسى الأسماء، والأشياء. وهذا أمر مقلق للغاية وعلينا أن ندرّب أنفسنا لتجاوزه. غير أن ذلك ليس سهلًا. والجزء الكبير من العمل يخصّ تصميم الشكل، وتفصيل ضئيل يمكن أن يقود إلى اليأس. لذا أنا أحرص الآن على تسجيل ملاحظاتي، وأفكاري. وقد أكتب كلمة أو جملة يمكن أن تساعدني مستقبلًا. وإذًا يمكن القول إن هناك إيجابيات وسلبيات في زمن الشيخوخة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.