}

الفن التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي

أوس يعقوب 2 مارس 2023
هنا/الآن الفن التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي
وثائق عثمانية تاريخية مدمجة من خلال خورازميات (Getty)
يشير مصطلح "الذكاء الاصطناعي" إلى قدرة الحاسوب الرقمي، أو الروبوت، الذي يتحكّم فيه الحاسوب، على أداء المهام العامّة المرتبطة بالكائنات الذكية.
الذكاء الاصطناعي فرع من علوم الحاسوب تُعرِّفه كثير من المؤلّفات على أنه دراسة وتصميم العملاء الأذكياء، والعميل الذكي هو نظام يستوعب بيئته، ويتّخذ المواقف التي تزيد من فرصته في النجاح في تحقيق مهمّته، أو مهمّة فريقه.
ويعرّف الفيلسوف الفرنسي جون بودريار الذكاء الاصطناعي بأنه "الروبوت مصنوع على هيئة الإنسان، مع استئصال أكثر جوانب الإنسان خطورةً، أي جنسانيته". والـ"روبوت"، كما تشير المصادر العلمية، هو مفردة مشتقة من كلمة robotta  التشيكية، والتي ترمز إلى العمل الإجباري/ المجاني، أو السُّخرة... بمعنى آخر: العبودية.
ظهر الذكاء الاصطناعي المولّد للصور مع بداية الألفية. ولكن أوّل أشكاله تطوّرًا ظهر في عام 2015، مع مشروع شركة "غوغل" الذي سمي بـ "الحلم العميق". ويُعَدّ خادم الذكاء الاصطناعي "ميد جيرني" واحدًا من أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي، من نوعية ما يسمى بصورة نصّية يحركها الذكاء الاصطناعي، وقد تطوّر بشكل كبير في الشهور الأخيرة، لتملأ الرسوم التي يصنعها "ميد جيرني" صفحات الفنّ العربية والعالمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتثير دهشة الفنّانين والمبرمجين. ومع مرور الأيّام أصبحت للذكاء الاصطناعي قدرة عالية على رسم الوجوه. وظهر موقع اسمه "هذا الشخص ليس له وجود"، يمكنك من خلاله خلق صور لأشخاص ليس لهم وجود في الحياة. كما تتيح خوارزميات متطوّرة للفنّانة الأرجنتينية صوفيا كريسبو اختراع حشرات، في حين يستطيع الأميركي روبي بارات أن يعدّل شخصيات لوحات الفنّ الكلاسيكي، وهما نموذجان عن الثورة التي يمكن أن يُحدثها الرسم بمساعدة الذكاء الاصطناعي في الأعمال الفنّيّة البصريّة، بحسب دعاة الاستعانة به. كما أنّ خوارزميات جديدة تتميّز ببساطة أكبر في الاستخدام تسمى "المحوّلات" تكفل تحقيق تطوّر كبير في هذا الكون الناشئ.
العام 2022 شهد تطوّرا تكنولوجيًا في مجال الذكاء الاصطناعي يفوق التوقّعات، ففي الوقت الحالي تظهر ثلاثة أنُظمة للذكاء الاصطناعي المولّد للصور فائقة القدرة. "ميد جيرني" الذي طوّره المبرمج ديفيد هولز، و"دال ـ إي 2" (Dall-E 2) التابع لشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح التي أسّسها إيلون ماسك. ومشروع "إيماجن"(Imagen) المنافِس من "غول ريسيرتش". لم يتمّ إتاحة أي من هذه البرمجيات للاستخدام العامّ حتّى الآن. غير أنّ هنالك مواقع متاحة تعطي للمستخدمين فرصة استخدام الأنُظمة الأقدم.
ويؤشر التقدّم المذهل للذكاء الاصطناعي إلى عالم يمكن للكمبيوتر فيه التعلّم والإبداع، مثل البشر. وفي ظلّ تزايد المخاوف، في الآونة الأخيرة، من دخول الذكاء الاصطناعي عالم الفنّ التشكيلي بصورة قوية، وفي الوقت الذي باتت فيه لوحات ترسم بالكامل من نصوص كتابية بصورة لم توجد من قبل، بعد أن كثر عدد الفنّانين الرقميين حول العالم، الذين يستخدمون أجهزة كمبيوتر عملاقة، وبرامج تُعرف باسم "شبكات الخصومة التوليدية"، تصبح التساؤلات مشروعة عن مستقبل الفنّ التشكيلي، الذي ظلّ حتّى الأمس القريب حصنًا لإبداعات عقل الإنسان دون غيره، حسبما اعتقد ويعتقد كثيرون، في زمن الذكاء الاصطناعي...
للحديث عن الفنّ التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي، توجهت "ضفة ثالثة" إلى عدد من الفنّانين والفنّانات التشكيلين العرب سائلة إياهم بداية إن كانت لديهم تجارب سابقة في استخدام نُظم الذكاء الاصطناعي في إنتاجهم الفنّي الإبداعي؟ وفي حال لم يسبق أن استخدموا هذه التقنيات، ماذا عن إمكانية استخدامهم لها في أعمالهم مستقبلًا؟ ثمّ؛ هل اللوحات التي تنتجها نُظم الذكاء الاصطناعي تُعَدّ ـ من منظورهم ـ فنًّا حقيقيًا؟ وهل يُعامل هذا الفنّ مثل الفنّ الحقيقي والواقعي الذي اعتدنا عليه؟
ومن بعد، هل استخدام الذكاء الاصطناعي في الفنّ لا يُلغي الفنّان ولا يقلّل من مكانته؟ وهل يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تحلّ محلّ وجدان وعبقرية الفنّان، وما يُعرف في فلسفة الفنّ بـ"الانفعال الجمالي"؟
إلى ذلك، كيف ينظر الفنّانون والفنّانات العرب إلى حال الفنّ ومستقبله في مواجهة زحف الذكاء الاصطناعي صوبه؟ وماذا عن شكل العلاقة المستقبلية بين الفنّ والذكاء الاصطناعي؟ وهل تراه (الذكاء الاصطناعي) سيفتح آفاقًا كثيرة وكبيرة أمام الفنّان والفنّ التشكيلي؟ فكان هذا الملف الذي قسمناه على جزأين.
هنا الجزء الأوّل:

التشكيلي التونسي رؤوف الكراي:
من الصعب على الآلة أن تحلّ محلّ وجدان وعبقريّة الفنّان

معذرة إن قلت: لَا تجربة سابقة لي في استخدام نُظم الذكاء الاصطناعي في إنتاجي الفني. إلى حدّ الآن لم أحاول، في عملي التشكيلي، الالتجاء إلى نُظم الذكاء الاصطناعي، أو الرقمي كذلك... في الواقع، من طبيعتي أنني أعشق المغامرة وحبّ الاطّلاع والاستكشاف، لذا ربّما في يوم من الأيّام تُغريني هذه النُظم وأقوم ببعض التجارب. لكن وعلى مستوى آخر، وإلى جانب ممارستي للفنّ التشكيلي، أنا مصمّم غرافيكي أتعامل في إنجاز مشاريعي الغرافيكيّة مع نُظم وبرمجيّات وُضِعت خِصّيصًا لمُصمّمي الغرافيك. والجدير بالملاحظة أنه من يوم لآخر تتطوّر هذه البرمجيات لنَجدَها تـغازل الذكاء الاصطناعي، عِلمًا أنني درست وتكونت في زمن لم يكن فيه الحاسوب، ولا وسائل العمل الرقميّة، موجودة، أو متاحة... لكن اليوم، وبطريقة تلقائيّة وطبـيعية جدًا، تغيّرت أدواتي في العـمل، وتغـيّـرت نظرتي لـ"النِتاج الفنّي" الذي ينتجه الفنّان الشّاب، وينتجه طلّابي في الجامعة، أو الذي اُنتِجُه أنا شخصيًا، خاصّة في السنوات الأخيرة. وكما نعرف، فإنّ عالم التصميم (الديزاين Design) بصفة عامّة استفاد كثيرًا من التطوّر العميق والسريع للتكنولوجيات الحديثة.
لكن، وفي بعض الأحيان، وكرَدّةِ فعلٍ مِنّي على كلّ ما يحصل حولنا، تجدني أحنّ إلى أدواتي البسيطة، وإلى ألواني الطبيعـية، لأشتغل باليد التي تتحسّس وتتلطّخ بالألوان التي أستخرجها بنفسي من أعشاب مختلفة، ومن عناصر نباتية طبيعية (كالحِنّاء، وقشور الرمّان، ولحاء الأشجار...). وباليد كذلك أصنع ورقي الذي أشتغل عليه من الألياف الطبيعية، ومن رسكلة الأوراق (إعادة تدوير)، والأقمشة القطنـية المستعملة، لأتحصل على ورق ذي ملمس خاصّ جدًا ومتنوّع يأخذ الألباب، وخامات تسحر الأنظار، والأجمل في ذلك عندما تتسرب الألوان وتتدرّج في أحشاء الورقة وبين خلاياها وكأنّه الماء يرويها... أجد متعة لا تضاهيها "متعة انبهاري" أمام نِتاج الذكاء الاصطناعي.
جوابًا على سؤالكم: "هل أنّ اللوحات التي تنتجها نُظم الذكاء الاصطناعي تُعَدّ فنًّا حقيقيًا؟ وهل يُعامل هذا الفنّ مثل الفنّ الحقيقي والواقعي الذي اعتدنا عليه؟".
أقول: لمَ لا؟... أحببنا أم كرهنا فإنّ مثل هذه الإشكاليّات تدخل ضمن الحركِـيّة الطبيعية للحياة، وفي سياق التطوّر التدريجي لطبيعة الإنسان، فمثلًا، هل الأعمال الفنّيّة الإبداعية (رسم، موسيقى، أدب، شعر...) التي أبدعها الإنسان على مرّ العصور، وفي فترات زمنيّة مختلفة، جاءت على الشاكِلة نفسها؟ وهل وقع في ذلك استعمال الأدوات نفسها، والمواد والخامات والأساليب نفسها؟ أكيد، لا. ورغم ذلك، وفي كلّ مرّة، تتغيّر وتتطوّر أدوات التعبير والإنتاج. كان الإنسان يتقبل بصورة أو بأخرى تلك الأعمال ويتفاعل معها... هكذا ستكون الحال بالنسبة للأعمال التي اعْـتـمد في إنجازها الفنّان على الذكاء الاصطناعي.
لاَ أعتقد أنّ الذكاء الاصطناعي في الفنّ سيلغي الفنّان ويقلّل من مكانته. طبعًا، إذا كان الفنّان (وليس المُتطفل على الفنّ) الذي يعتمد على هذه الأنُظمة عندما يشتغل ويبدع على أتمّ الإدراك والوعي بأنّ الذكاء الاصطناعي هو فقط الوسيلة والأداة التي تساعده على التعبير عن أفكاره وأحاسيسه، وهي التي تحمل مضامين "رسائله" للإبلاغ وللتواصل مع المتلقّي... هنا يبقى الفنّان هو سيّد المواقف، وهو الأوّل والأخير المعنِي بالأمر... فلا خوف عليه... في المقابل، خوفنا سيكون من "مافيا الفنّ" و"أصحاب الأموال الطّائلة"، الذين ينتهزون الفرص لاصطياد أشباه الفنّانين الذين يستسهلون العمل بالذكاء الاصطناعي لـتـَبَنـّيهم ولفرضهم على السّاحة الفنّيّة وللتجارة بأعمالهم، همّهم الوحيد في ذلك هو كسب المال وليس النشوء والارتقاء  في مجالات الفنون المختلفة.



هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبدو لي من الصعب على الآلة بكامل برامجها وأنظمتها الذكية أن تحلّ محلّ وجدان وعبقريّة الفنّان، أو تصل إلى امتلاك القدرة الإبداعية والابتكارية التي تتوفر في الفنّان الإنسان ذي الأحاسيس والمشاعر... لكن من يدري!؟ خاصّة بعدما أتى به مهندس البرمجيات لدى شركة "غوغل" بلايك ليموين من نظريّات حول هذا الموضوع، والذي زعم بأنّ روبوت الدردشة الآلي للذكاء الاصطناعي الخاصّ بغوغل "لامدا" يمتلك هو كذلك الأحاسيس والمشاعر، ويمكنه أن يكون على درجة كبيرة من الوعي تتوجّب احترامه.
أخيرًا، نظرتي اليوم إلى حال الفنّ ومستقبله في مواجهة زحف الذكاء الاصطناعي صوبه؟ بكلّ الأحوال هي بخير، وإن شاء شباب المستقبل الذين بذكائهم الطبيعي مع شيء من الذكاء الاصطناعي، وباجتهادهم المتواصل في التجريب، أعتقد أنهم سيخرجون إلى العالم بنتائج واعِـدة تـُثـْري لغة الفنّ بمصطلحات وأساليب جديدة تساعد فنّان المستقبل على استثمار ما لديه من قدرات وإمكانيات إبداعية للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره بأدوات جديدة ومبتكرة لإنتاج أعمال فنّيّة تواكب عصره. وهذا ما بدأنا نراه اليوم في جميع أنواع الفنون.

  

التشكيليّة السورية دارين أحمد:
اللوحة التي أرسمها تبدأ بوجودٍ مادي

منذ حوالي عقد تقريبًا، وعندما تُطلب مني المشاركة في موضوع ما، فإني أكتب تنظيرًا أبتعد فيه عن تجربتي الشخصية المنفعلة بالعالم والفاعلة فيه، ومردّ ذلك هو كثرة التركيز على الانفعال الشخصي في حقل الإبداع، وتسطيح هذا الانفعال على شكل كتابة تسويقية تلتهم الفكر والانفعال الإبداعيين المتجذّرين في التمرّد على المنجز السائد، والذي تحاول الكتابة السائدة تأبيده وتكراره بهذا الشكل أو ذاك. لكنّي، في ما يخصّ موضوع هذه المادة، سأكتب بشكل شخصي، لأنّ العلامة الفارقة في النهاية بين الإنسان كمنتِج للفنّ، والذكاء الاصطناعي كمنتج للفنّ، هي هذه النقطة، أي الشخص ورؤيته للعالم من خلال حضوره فيه بكلّ ما يحمله من نقصان وخذلان وشجاعة... إلخ.
أوّل مرّة تعرّفت فيها على العلاقة بين التقنية والفنّ كانت من خلال صديقة فنّانة تحدّثت عن إحدى نقاط ضعفها كفنّانة، وهي جهلها باستخدام الفوتوشوب. دار هذا الحديث في مطلع القرن، وكنتُ مستخدمة مثالية لبرامج الكمبيوتر، بما فيها الفوتوشوب، بمعنى أني أستخدمها بجهل تامّ لكلّ ما هو خارج النافذة المفتوحة أمامي، أستخدمها بما يحقّق الغرض المطلوب في حدّه الأدنى، من دون أي إبداع فيه، فالإبداع يتطلّب معارف تفوق معارف المستخدم العادية. لم أتمكّن في حينه من رؤية أية علاقة بين الإبداع التشكيلي والفوتوشوب.




لاحقًا، في عام 2015، بدأت بتعلّم أساسيّات الرسم من خلال قناة يوتيوب "Proko" لمؤسّسها ستان بروكوبينكو، وقد لاحظت في السنوات الأخيرة تركيزه وتركيز كثير من الفنّانين الذين يجري مقابلات معهم على فنّ الديجيتال، باعتباره سوق نجاح الفنّان، خاصّة مع ازدهار حقلي الألعاب الإلكترونية، وأفلام الفانتازيا. لم تحرض فيّ هذه المقابلات الرغبةَ في تجربة الرسم بتقنية الديجيتال، لكنني جربتها مع ابنتي التي تستخدم بعض التطبيقات بشكل ممتاز، ولاحظت أنّ سهولة بناء اللوحة وحذفها هما بمثابة مكان مثالي لتجربة بعض التقنيات. لم أتعامل مع اللوحة الناتجة كعمل إبداعي، ربّما لأنه ليس لها وجود مادي أمامي، فاللوحة التي أرسمها تبدأ بوجودٍ مادي، شيء، ومن ثمّ يتبع هذا الوجود وجود ثانٍ هو الصورة التي أنشرها لهذه اللوحة. بالنسبة للمتلقّي، هذا الفارق غير موجود، فهو يرى صورة، سواء صورة لوحة لها وجود سابق على وجود الصورة، أو صورة لوحة لا وجود لها سابقًا. ومن هنا، يمكن لفنّ الذكاء الاصطناعي، وخاصّة مع أنظمة مثل "ميد جيرني"، و"دال ـ إي 2" وسواهما، أن تقدّم له لوحات تقع في نفسه موقع الفنّ الخالص، وخاصّة مع تحوّل الوعي العامّ إلى وعي رقمي قصير المدى يتشبّه بمقتطفات من أفلام، ودعايات، وفيديوهات منتجة في تطبيقات "تيك توك"، وغيرها.
شخصيًا، أعتقد أنّ الفنّ المنتج في أنظمة الذكاء الاصطناعي هو فنّ له خط وأسلوب، وهو ليس خط وأسلوب الشخص، بل خط وأسلوب النظام ذاته، أي أنّ الشخص في هذه الحالة هو تفصيل من تفاصيل نظام الذكاء الاصطناعي، وليس صاحب اللوحة. على الأقلّ، حتّى الوقت الذي يتمكّن فيه الشخص من الانتقال من كونه مستخدمًا مثاليًا للنظام إلى أن يكون مبدعًا يتفرّد بما ينتجه عن سواه من المستخدمين.
أخيرًا، أود أن أضيف إلى هذه المشاركة القاصرة طبعًا عن إعطاء الموضوع حقّه فكرة إشكالية تتعلّق باقتراب الفنّان (الشخص)، ومع تطوّر أدواته التقنية، من التشبّه بنظام ذكاء اصطناعي، بمعنى أنّ الوجه مثلًا ليس وجهًا، بل هو كتل وأشكال هندسية تنتظم في الفراغ لتخلق كتلة الوجه. وهذا ما يثير بدوره فكرة لعبية عن اقتراب نظام الذكاء الاصطناعي ربّما وهو يجمع كلّ هذه العلاقات الحسابية والأشكال الهندسية والمعلومات من الفنّان (الشخص)! من يدري!

 

التشكيلي الفلسطيني محمد الحواجري:
ما ينتجه الذكاء الاصطناعي هو عمل فنّي من إبداع الإنسان



لم تكن لي أي تجربة سابقة في نتاجي الفنّي بالذكاء الاصطناعي، ولكنّي من الفنّانين المحبين للتجريب، وهذا واضح في طبيعة عملي الفنّي المتعدّد الوسائط، والمتنوّع في الموضوعات والتقنيات.
وأرى أنّ ما يتمّ إنتاجه من خلال الذكاء الاصطناعي قابل لأي احتمال، وهذا يعتمد على عملية تسويقه، وإقناع الجمهور ومحبي الفنون، ومَن يقتنون هذا الإنتاج الفنّي. أعتقد أنه من المتوقّع أن تكون هنالك بعض الطفرات التي يمكن أن تحتلّ شهرة كبيرة، لما فيها من إتقان، أو غرابة، وهذا أيضًا يجعلنا نفكر بالنتائج التي يمكن أن ينتجها هذا التقدّم والتطوّر في الذكاء الاصطناعي.
وأرى أنّ كلّ شيء في النهاية هو من إنتاج الإنسان، فالذكاء الاصطناعي هو نتيجة بحوث يقوم بها بعض المطوّرين في مجال الخوارزميات، والتي هي عبارة عن مواد مغذّية للأجهزة والروبوتات من أجل تقديم نتاج محدّد في مجال الفنون البصريّة والموسيقى. وهذا يعني أنّ الذكاء الاصطناعي يعتمد في الأساس على الإنسان، الذي يلعب دورًا هامًا في استعراض قدراته الذهنية التي يوظفها في خلق حالة جديدة في عالم الإبداع.
وهذا في كثير من الأحيان يكون في صالح الفنّان الذي هو في طبيعته إنسان مبدع، وهو من يقوم بتوظيف كلّ ما هو جديد في عمله الفنّي، وهذا واضح تمامًا في التطوّر الفنّي الذي نعيشه في واقعنا المعاصر، فكثير من الفنون الآن تعتمد على العلوم والصناعة والبحث... إلخ. لذلك، أنا غير قلق من هذا التطوّر، بل بالعكس، أرى فيه تجربة هامّة يجب أن يستفيد منها الفنّان، وهذا يجعلنا نذكر التخوّف الذي كان يوم ظهرت الكاميرا، حينها توقّع كثيرون أنّ هذه الآلة يمكن أن تأخذ أو تلغي دور الفنّان، ولكن مع الوقت تبيّن أنّ الفنّان هو حالة خاصّة ومميّزة في المجتمع لا يمكن الاستغناء عنه في حال كان مبدعًا خلاقًا ومنسجمًا مع أي تطوّر.
أمّا عن نظرتي للفنّ ومستقبله في مواجهة زحف الذكاء الاصطناعي صوبه، وشكل العلاقة المستقبلية بينهما، فأرى أنّ الفنّ هو في طبيعته عبارة عن شكل من أشكال البناء، وهذا واضح لنا، فمنذ الأزل بدأ الفنّ مع الإنسان القديم عندما عبّر عن نفسه في الكهوف ورسم على جدران الكهوف، ومنذ ذلك الوقت والفنّ في تطوّر في كلّ شيء، في الأدوات والأفكار والتقنيات والوسائط وطرق وأماكن العرض... إلخ.
أعتقد بأنّ ما وصل إليه الإنسان من تطوّر، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، هو في حدّ ذاته شكل من أشكال الفنون، فكلّ ما تقوم به الروبوتات، أو البرامج والأجهزة الخاصّة في الذكاء الاصطناعي، إنما هو عبارة عن عمل فنّي من إبداع الإنسان، وكلّ من يقوم بهذا التطوّر هو فنّان، ولكن يختلف في طريقة تعبيره، منهم من اختار أن يكون عمله الفنّي من خلال أداة أو آلة يحركها من خلال خوارزميات، أو برامج، من إبداعه الخاصّ، والتي عدها لغته الخاصّة لتكون كأسلوبه الذي يريد أن يتميّز به مثل باقي الفنّانين الذين يسعون دائمًا إلى خلق كلّ منهم ما يميّزه في نتاجه الفنّي والإبداعي. لذلك يمكن أن يكون الفنّان أكثر المستفيدين من هذا التطوّر، لأنه يساعد على الانتشار بشكل أكبر وأسرع، وهو الذي يعرف بشكل جدّي كيف يوظف هذا التطوّر في عمله الفنّي ليكون أكثر إبداعًا وتأثيرًا دونًا عن باقي الناس الذين يمكن أن يستخدموا هذا التطوّر كلعبة للتسلية فقط من دون أي فائدة ولا معنى.

  

التشكيلي الفلسطيني رائد عيسى:
الفنّ يعتمد على الإحساس والحسّ اليدويّ


صحيح أنه لم يسبق لي أن استخدمت الذكاء الاصطناعي في إنتاج أعمالي الفنية، إلّا أنني سبق أن استخدمت بعض الأعمال الرقمية، أو الديجيتال، على الكومبيوتر، كأداة من أدوات البحث الفنّي. أنا أعشق ممارسة الفنّ يدويًا، وأن تداعب يداي الألوان والفراشي والأدوات الفنّيّة البسيطة، لأنّ الفنّ يعتمد على الإحساس والحسّ الفنّي اليدوي، وهذا ينعكس على أعمالنا الفنّيّة وشعور المتلقّي بهذه الأعمال.
الذكاء الاصطناعي غزا العالم في كلّ المجالات والاتّجاهات، والفنّ هو أحد هذه المجالات التي تأثّرت بما هو محيط بها، وبما يحدث في العالم من تطوّر وتغيّرات. ليس لديّ مانع، بل وأرحب بهذا التوجّه. لا أعتقد أنّ الفنّ سيتّجه بالكامل إلى الذكاء الاصطناعي، لكن من الممكن أن يتأثّر الفنّ بهذا التوجّه لفترات محدودة، أو بشكل محدد.
بخصوص اللوحات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، وكيف سيتمّ تصنيفها؟ وتحت أي بند ستندرج؟ وهل سيتمّ التعامل معها على أنها فنّ حقيقي مثل نتاج الفنانين؟ أرى أنّ الفنّ واستعراضاته الأدائية الجسدية هو ذاته الفنّ. وأمّا ما يتمّ إنتاجه من الممكن أن يصنف تحت مسمى معين، وليس مثل نتاج الفنّان التشكيلي، أو الرسامين، لأنّ النتاج الفنّي يعتمد بشكل أساسي على من هو صاحب اللوحة، وما هو عمره الفنّي، أو سيرته الفنّيّة، وما الذي قدّمه، ومشاركاته الفنّيّة، ولا يعتمد على اللوحة فقط، أو الدقة في الأداء، أو نوعيته. لذا لا يمكن الاستغناء عن الفنّان، ولا عن العمل الفنّي اليدوي الذي ينتجه الفنّان التشكيلي. في كلّ الأحوال، لا يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي بديلًا من الفنّان، ولكن من الممكن له أن يكمل دوره باستخدام أدوات أو أفكار معينة مثلًا، بمعنى أن يلعب دورًا إضافيًا في العملية الإبداعية.
بالتأكيد، سيتأثّر الفنّ التشكيلي بفكرة الذكاء الاصطناعي، ومن الصواب أن يتمّ تسخيره لخدمة الفنّان كنوع من أدوات الفنّان المعاصر، فالأصل أنّ الفنّان دائم البحث عن تطوير أدواته وإمكانياته من خلال التكنولوجيا، وما يتيحه الذكاء الاصطناعي، أو أي شكل من أشكال التطوّر.
من الموكّد أنّ الذكاء الاصطناعي سيفتح طرقًا وأبوابًا جديدة في عالم الفنّ، وللفنّانين المعاصرين، ولكن تبقى كلّ هذه الأشياء أدوات في يد المبدع، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن تلغي الفنّان، أو أن تحلّ بديلًا منه سوى بشكل جزئي، أو مؤقت.

 

التشكيلي السوري محمود الجوابره:
مدينة الفنّ ستغدو أكثر إثارة وأكثر اتّساعًا



لم تكن لديّ أي تجارب في استخدام نُظم الذكاء الاصطناعي في منجزي الفنّي، ولا أعتقد أنني سأستخدم تقنيات أدوات الذكاء الاصطناعي في أعمالي مستقبلًا. الفنّ وحده هذا الكائن اللامحدود، وهو بحث فلسفي عن الجوهر في ما وراء الحواس، وهو منجز مليء بالألغاز والدراما نتيجة الصدام بين العقل والمنطق، وبين العاطفة والانفعال الجمالي، والصراع العبثي بين الخامات والأدوات والذي يتحقّق أحيانًا من دفقات اللاشعور التي تفلت من سلطة العقل وسيطرته، وهذا في كلّيته الذي ينتج الإبداع الإنساني الفنّي، وهذا ما لا يمكن لكلّ نُظم الذكاء الاصطناعي تحقيقه.
لطالما كان الفنّ منجزًا فرديًا للفنّان، خلافًا لما تنتجه نُظم الذكاء الاصطناعي التي تعود لمجموعة كبيرة من الأشخاص المبرمجين وواضعي البيانات والخوارزميات، وهذه في مجملها محدودة، إذ أنّ الفنّ في جوهره لا محدود. ومن المؤكّد أنّ استخدام نُظم الذكاء الاصطناعي لن يلغي الفنّان، ولن يقلّل من مكانته، بل يزيده معرفة تجريبيّة ووعيًا فكريًا عاليًا، إذ أنّ فنّاني القرن الثامن عشر قد واجهوا الأسئلة نفسها عند اكتشاف الكاميرا، التي لم تقلّل من شأن وقيمة الفنّان، فقد كانت عونًا له، فالفنّان أدرك أنّ الكاميرا آلة، بينما هو عقل ووجدان وعاطفة متجدّدة.
الفنّ كائن يتغذّى على مشاعر الفنّان وانفعالاته، وهو لعب وصراع مع المجهول، ولا أعتقد أنّ الخوارزميات والبيانات التي تُلقن للروبوت تمتلك هذا المجهول الذي يشكّل في النتيجة جوهر الفنّ الحقيقي، وأحد أركانه الأساسيّة. لا خوف من زحف الذكاء الاصطناعي الذي سيتعاظم في المستقبل القريب والبعيد، والذي لن يستطيع أن ينافس عبقرية الفنّان الذي يبحث عن المجهول، بينما نُظم الذكاء تبحث في المعلوم.
أعتقد أنّ مدينة الفنّ التي لا تمتلك أسوارًا ولا أبوابًا ستغدو أكثر إثارة وأكثر اتّساعًا، لأنّ نُظم الذكاء الاصطناعي ستفتح آفاقًا كثيرةً وكبيرةً أمام الفنّان والفنّ التشكيلي.

 

التشكيليّة السورية عزة أبو ربيعة:
لتكن ثورة ضدّ الأستاذ المتربع في أدمغتنا


الصدق في العمل الفنّي هو هويته، وسواء إن كان هذا الصدق بالرسم، أم بالتقنية، أم باختيار الألوان، فلا فرق.
الأساليب كثيرة ومواكبة للتطوّرات التكنولوجية، وليس صحيحًا إهمالها، أو الحكم عليها مسبقًا. وفي رأيي، لتكن ثورة ضدّ الأستاذ المتربع في أدمغتنا. لا أجد الذكاء الاصطناعي هو الذي يساعد على اختراع شخصيات خيالية، فهذا كلّيًا من صنع ذكاء الإنسان، وهذا منذ زمن بعيد، وليس وليد القرن العشرين، أو الألفية الثالثة، ودليلنا على ذلك منجز الفنّان الهولندي جيروم بوش.



بعد تخرجي من كلّيّة الفنون الجميلة في دمشق عام 2002، كنت أبحث عن عمل أستطيع منه دفع إيجار مشغلي الفنّي، وهكذا تعرّفت على عالم الرسوم المتحركة، وتعلمته وعملت في هذا المجال مدة تسع سنوات. خلالها، لم يتأثّر عملنا بالذكاء الاصطناعي، وكان إنتاج ثانية من الرسوم المتحركة يحتاج إلى عمل شهر بأكمله، كانت هذه التجربة من أهمّ التجارب في رأيي، تعلمت حينها كيف أخرج كلّ الانطباعات من الوجوه، وكيف أخلق شخصية الكذاب مثلًا، وأن أعرف كيف يتحرك الغبي. في مكان ما، يجب أن يكون الخلق مستمرًّا، وأن تكون الكتله متوازنة، وإلّا فشلت الحركة. في هذا المجال تعلمت التشريح الفنّي أكثر من الجامعة.
الفنّان حرٌّ، والأدوات، وتعدّد التقنيات، تساعده في إيصال رسالته بطريقة أبسط، وبوضوح أكبر. لست ضدّ استخدام الذكاء الاصطناعي بالتأكيد، ولكنّني ضد المبالغات والمغالطات في الفنّ. هنالك من يستخدم الذكاء الاصطناعي في نسخ أعمال، ويقول إنه رسم العمل بشكل مباشر. ولكن هذا الشيء لا يمكن إخفاؤه. إذًا، نحن لا نريد إلّا الشفافية.
مؤكّد أنّ هناك تطورًا ملحوظًا في عالم الفنون البصريّة مع كل تقدّم علمي، فمنذ أن وجدت الكاميرا على سبيل المثال، قلّت الأعمال التي تصور مشهدًا ملحميًا، أو بورتريهات شخصية. وهنالك كثير من الأمثلة في عالم الموسيقى، والسينما، وفنّ التجهيز، وغير ذلك من الفنون.

[للحديث صلة...]

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.