}

كأس العالم في دولة قطر بين الإنجاز والكتابة

هنا/الآن كأس العالم في دولة قطر بين الإنجاز والكتابة
كرة القدم أشغلت الأدباء والفلاسفة على مرّ التاريخ

يشهد المتتبعون في العالم لكرة القدم بأن الدورة الأخيرة لبطولة كأس العالم لكرة القدم، التي أقيمت في دولة قطر، كانت دورة استثنائية بكل المعايير، فضلًا عما حققته من نجاح وجاذبية ومتابعة ومتعة وإقبال جماهيري عالمي. أليست كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في العالم، في مساهمتها في تشكيل "هوياتنا الوطنية"، حسب تعبير أستاذ الفلسفة الإنكليزي سايمون كريتشلي، في كتابه "فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟".
من المعروف أن كرة القدم أشغلت، أيضًا، الأدباء والفلاسفة والمفكرين في العالم، كما تفنن الروائيون في استيحاء هذه اللعبة الساحرة، ويأتي على رأسهم الروائيون الإنكليز، تلاهم آخرون من جغرافيات أخرى، في تناولهم لقضايا وتفاصيل مختلفة، مرتبطة بإبراز أهمية كرة القدم في حياة الشعوب، وما تثيره من تنافس وشغب وتعصب وعنف، ومن معاناة للاعبين والمشجعين، وفساد مالي، وتصوير مشاعر الانتصار ورمزية الصراع، وقصص الحب والكراهية والحسد واللذة والدراما والمشاعر الإنسانية، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة.
وإلى اليوم، ما زالت تفاعلات بطولة كأس العالم لكرة القدم التي استضافتها قطر تثير مزيدًا من الاهتمام بها، بالنظر إلى خصوصية هذه الدورة، على مستوى مجموعة من المؤشرات المتضافرة في ما بينها، منها كونها تظاهرة تنظم لأول مرة على أرض بلد عربي، إلى جانب الحضور الكروي العربي الكبير، ممثلًا بالمشاركة المتميزة للفريق الوطني المغربي لكرة القدم، في هذه البطولة العالمية، بما حققته المشاركة من نتائج مبهرة، تُضاف إلى مشاركاته الأخرى، في دورات سابقة، في كل من المكسيك، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وروسيا، بما خلفته مختلف تلك المشاركات من أصداء وردود فعل إيجابية، عربيًا وأفريقيًا ودوليًا.
وموازاة مع التنظيم المبهر لهذه البطولة العالمية في دولة قطر، نشط مجال التأليف، فكان الموعد مع صدور بعض الكتب في هذه المناسبة الرياضية الدولية، الصادرة هنا وهناك... ويكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى الكتاب الهام الذي أصدره موقع "العربي الجديد" بمناسبة استضافة قطر لهذه التظاهرة الكروية العالمية، بعنوان "سحر كرة القدم"، باللغتين العربية والإنكليزية، من إعداد الكاتب والصحافي معن البياري، ومن تحريره وتقديمه، بمشاركة حسام كنفاني، رئيس تحرير "العربي الجديد"، والمعلق الرياضي علي محمد علي. ويتضمن هذا الكتاب واحدًا وستين نصًا، لأدباء من بلدان عربية وأجنبية، ممن كتبوا عن هذه اللعبة، وعن شغفهم بها وذكرياتهم معها... فضلًا عن كتاب آخر صدر في الولايات المتحدة الأميركية، بالمناسبة نفسها، بعنوان "فيفا 2022 قطر، الإرث"، لمؤلفه م. محمد عيسى، يتوزع على ستة وعشرين فصلًا تدور حول موضوعات عن كرة القدم، بمثل ما يتعرض الكتاب للجهد الذي بذل في سبيل إنجاح هذه البطولة الأولى من نوعها في المنطقة العربية، في دولة قطر.



وإذا كان هذان الكتابان قد صدرا قبيل بداية بطولة كأس العالم في قطر، فإن كتابًا آخر صدر بُعيد نهاية هذه التظاهرة الكروية بقليل، وإثر المشاركة المشرفة للمنتخب المغربي، وما تلاها من استقبال رسمي وجماهيري كبير حظي به المنتخب المغربي والطاقم التقني والمسير، في مدينة الرباط، بعد عودته إلى أرض الوطن، وهو الحدث الذي حفز كاتب البورتريهات المغربي حسن بيريش لتخليد هذه المشاركة المبهرة للفريق المغربي، في كتاب جديد وأنيق صدر له مع بداية هذه السنة 2023، بعنوان "أسود المغرب في قطر: حلم فاق الخيال" .



وتعرف الرواية بكونها الجنس الأدبي الأشهر والأكثر هيمنة، على مستوى اهتمام الروائيين بالكتابة عن كرة القدم والاحتفاء بها إبداعيًا، وهو جانب يعكسه التراكم الروائي الصادر في هذا الباب لأدباء ومفكرين وفلاسفة عالميين تعددت أسماؤهم واتسعت رقعتهم الجغرافية: سارتر، كامي، يفتشينكو، ماركيز، غاليانو، أورويل، هاندكه، العروي، وغيرهم. وقد عرفت بعض تلك الروايات طريقها إلى السينما، فيما اتخذت أخرى منحى الرواية البوليسية، بمثل ما ساهم بعض لاعبي كرة القدم أنفسهم في إثراء التراكم الروائي عن كرة القدم، بل وظهر، في أميركا اللاتينية، تيار يسمي بـ"أدب كرة القدم". يحدث هذا في وقت لم يخف فيه روائيون آخرون سخريتهم وكرههم ورفضهم لهذه اللعبة، من بينهم بورخيس، وكويلو.
وفي هذا الإطار، يكاد يجمع النقاد في الغرب على أن الأدباء هم أفضل من كتبوا عن هذه الساحرة المستديرة، وقد أضحت اليوم ظاهرة مؤسساتية، محفزة على التنافس الدولي، الرياضي والسياسي، وقد تحوّلت إلى صناعة عالمية كبرى.
وبصدور الكتاب الجديد للشاعر والإعلامي والناقد الأدبي، حسن بيريش، ينضاف جنس "البورتريه" إلى فضاء الأجناس الأدبية التي اهتمت بكرة القدم، كالرواية والشعر. ويشهد للكاتب بيريش بكونه من أهم كتاب البورتريه اليوم، وله في هذا المجال عدد من الكتب المنشورة، فضلًا عن إنجازه لكتب أخرى ذات طبيعة خاصة، منها كتب مشتركة، وخصوصًا مع الأديبة المغربية أسماء المصلوحي، من قبيل كتابهما المشترك عن "صاحب الجلالة الملك محمد السادس وتطوان: علاقة ملك بمدينة"، وهو كتاب عن مجمل المشاريع التنموية التي أطلقها الملك محمد السادس في مدينة تطوان، خلال الفترة الممتدة من 1999 إلى 2019، مبرزًا أثرها الإيجابي على المدينة، فضلًا عن كتبهما المشتركة الأخرى عن شخصيات من عالم الفن... بمثل ما عرف بيريش بكتابته لبعض السير الغيرية والمذكرات، كما كتب أخرى بالاشتراك مع غيره، من قبيل مذكراته مع الكاتب المغربي محمد شكري، بعنوان "شكري... وأنا"، وكتابه عن التجربة الفنية للتشكيلي المغربي أحمد بن يسف، بعنوان "بن يسف يتكلم"، وكتابه عن الإعلامي الراحل "خالد مشبال الإعلامي الذي لم يفقد ظله"، ومجموعة من الحوارات التي أجراها مع رموز الثقافة والإبداع المغاربة، من قبيل كتابيه الحواريين: "هكذا تكلم محمد شكري"، و"المعيش قبل المتخيل/ حوارات مع محمد شكري"، إلى جانب مراسلاته المتبادلة مع كتاب آخرين، من قبيل رسائله مع أحد رواد الشعر المغربي الحديث، عبد الكريم الطبال، الصادرة في كتاب بعنوان "رسائل الغواية"، ويتضمن ستين رسالة بينهما، وغيرها من الكتب ذات الصبغة السيرية والحوارية والتراسلية والمفتوحة، ويوجد في الأفق كتاب جديد لبيريش لا يخلو في دوره من أهمية هو عبارة عن "أنطولوجيا كتاب طنجة: مئة عام من الإبداع"، سيصدر متضمنًا مئة اسم من الكتاب الذين أقاموا بطنجة، أو كتبوا عنها، من المغرب وخارجه، وهو ما يجعله اليوم، بعد محمد شكري، من حراس مدينة طنجة الأوفياء، وأحد مؤرخيها الجدد.




وإذا كان فن كتابة البورتريه، أو البروفايل، من بين أهم الأجناس التعبيرية التي يتقن حسن بيريش كتابتها، هو الذي استهوته مجالات تأليف أخرى، من قبيل الكتابة السياسية والأدبية والسيرية والحوارات، وإنجاز التقارير حول قضايا الفساد السياسي والاجتماعي في المغرب، فقد واصل بذلك إثراء هذا الجنس التعبيري (البورتريه)، بإصداراته المتواترة، التي خص بها كتابًا مغاربة، من مختلف الأجيال والاهتمامات الثقافية والسياسية والأدبية والإعلامية والرياضية، من الجنسين، موزعة على كتب، وهو ما جعله يحقق، بمجموع إصداراته إلى الآن، رقمًا قياسيًا غير مسبوق على مستوى كتابة البورتريهات، متوسلًا في ذلك بما يمتلكه من كفاءة وخبرة وعين لاقطة، وذكاء حرفي خاص، وملكة لغوية ونقدية وتعبيرية جذابة، ورصيد ثقافي ومعرفي وموسوعي مرجعي، إنساني وتاريخي وثقافي ورمزي، عن مختلف "الشخصيات" التي كتب عنها، واستعاد تفاصيل حيواتها، وحضورها الرمزي، وإنجازاتها وأنشطتها المختلفة، في مختلف مجالات الكتابة والاهتمام التي عرفت بها تلك الشخصيات، وذلك في تفاعل وتماه تام بين الكاتب والشخصية، محور البورتريه، بكل ما تستلزمه كتابة البورتريه، هنا، من "صدق واستحضار لدواخل وجوهر الإنسان، وإلى التحلي بالحس النقدي"، كما قال الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال، متحدثًا عن تجربة بيريش مع كتابة البورتريه.




وتلك كتابات، في تنوعها واختلافها، تستلزم من بيريش ركوب مغامرة الكتابة عن مجموع تلك الأسماء التي تفاعل معها في نصوصه، مدركًا صعوبة ذلك حتمًا، هو القائل "البورتريه جنس أدبي مسكون بالجموح. إبان أول دهشة، تتوهم أنك قادر على ترويض جموحه، والسيطرة على زمام توثبه. وخلال آخر عبور، تكتشف أنه هو من يملك مهارة ترويضك، وذكاء الإمساك بأعنة قلمك، بين دهشة عبورك أنت، وعبور إدهاشه هو، يدركك اليقين، يكتبك هو، وتصهل أنت"، وهو ما جعل حسن بيريش، اليوم، يبرز كأهم كاتب للبورتريه في المغرب، وفي العالم العربي، ليس فقط من خلال ما أصدره من كتب في هذا المجال، بل أيضًا لكونه يعد أحد من أصلوا كتابة البورتريه في مشهدنا الثقافي والأدبي، ورسخوه إبداعًا جديدًا قائم الذات، ما جعله يتوج بجائزة أفضل كاتب بورتريه في الصحافة المغربية عام 2016 من المنظمة المغربية للإعلام الجديد. 
ومن بين آخر مغامرات بيريش التي تمكن من كسب رهانها مع كتابة البورتريه، بورتريهاته الصادرة في كتاب أنيق عن "أسود الأطلس"، تلك التي كتبها، في ظرف زمني قياسي، أي مباشرة بعد الإنجاز التاريخي والاستثنائي الكبير الذي حققه فريق كرة القدم المغربي في بطولة كأس العالم في قطر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.