}

عن تصاعد كتابة "رواية الحرب" في مشهدنا الروائي العربي

عبد الرحيم العلام 27 فبراير 2024
آراء عن تصاعد كتابة "رواية الحرب" في مشهدنا الروائي العربي
(Getty)

 

"لو كان الوعي السياسي في المنطقة متقدمًا لأمكنه أن يوظف هذا القتل من أجل الوقوف في وجه زحف الموت الذي يغطي كامل التراب العربي"

عبد الرحمن منيف، "الكاتب والمنفى" (ص196).


من بين ما نخشاه اليوم على أدبنا العربي المعاصر أن يرتبط، بشكل أوسع ومتزايد، بما أصبح يصطلح عليه، بـ"أدب الحرب"؛ بفعل التغيرات التاريخية والحروب والصراعات الداخلية التي تعرفها بعض الأقطار العربية، وأيضًا بفعل الإرغامات الجيو- سياسية المتتالية على المنطقة العربية، بعد أن أضحت مرتعًا مفتوحًا ومغريًا لعديد من الأطماع السياسية والاقتصادية، ومجالًا مستهدفًا بمزيد من الحروب والعدوان والصراعات النابعة من الداخل، والقادمة أو الموجهة من الخارج.

وتعتبر الرواية اليوم أحد الأجناس الأدبية الأكثر استجابة لاستيحاء ثيمة "الحرب" فيها، بالمعنى الواسع، هنا، لمفهوم "الحرب"، أي كحدث وذكرى وواقعة، وكمرحلة تاريخية وزمنية، قد تسبق الحرب وقد توازيها وقد تأتي بعدها، وأيضًا باعتبارها رؤية إنسانية وأبعادًا نفسية وإرغامات اجتماعية وثقافية واقتصادية، دون أن نقلل من الأدوار الموازية التي يلعبها كل من الشعر والقصة والمسرحية في هذا المجال، وغيرها من الأجناس والمكونات التعبيرية الأخرى (كالتلفزيون والسينما...)، وذلك على مستوى بلورتها جميعها لمتخيل كتابي وشفوي وبصري، سياسي واجتماعي وثقافي ونفسي، حول أجواء الحروب والصراعات والهزائم والانتفاضات، كما عرفتها المنطقة العربية في العصر الحديث، على مدى عقود زمنية متلاحقة، بدءًا بحروب التحرير ومواجهة المستعمر في البلدان العربية، مرورًا بحرب 1948، وحرب السويس، وحرب حزيران/ يونيو 1967، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر 1973، وحرب اليمن، فالحرب الأهلية في كل من لبنان والجزائر، والمقاومة الفلسطينية المتواصلة، والحرب العراقية الإيرانية، فغزو العراق للكويت، ثم حرب الخليج الثانية، وغزو قوات التحالف للعراق، والعدوان الإسرائيلي على لبنان، والحرب الصهيونية الجارية على غزة، ولا أحد يدري ما الذي يخبئه القدر والمستقبل للمنطقة العربية...؟

فمع توالي الحروب والصراعات والخيبات التي عرفتها وتعرفها المنطقة العربية، ينتعش نوع خاص من الأدب والمعاناة، يأتيان كرد فعل على واقع معين مطبوع بالصراع، أو استجابة لهواجس وتطلعات ومواقف ذاتية محددة، أو تفجيرًا لهموم وأحاسيس ومشاعر خاصة، من قبل هذا الكاتب أو ذاك، إلى درجة يعزو فيها البعض ظهور الرواية الجديدة، في بعض البلدان العربية، إلى الحرب، كما هي الحال بالنسبة للرواية اللبنانية، في تميزها اللافت وانفرادها الخاص بتمثل ثيمة الحرب فيها، بكثافة وشاعرية، في عديد من نصوصها الروائية المتباينة، وإن كان بعضهم اليوم ينتقص من أهمية "رواية الحرب" اللبنانية، كما قال بذلك جورج جحا، في مقالته "رواية الحرب اللبنانية... متى تكتب؟".

يحدث هذا، بغض النظر عن بعض السياقات التي يتم فيها تحويل وظيفة هذا المغاير الأدبي (رواية الحرب) لخدمة أطروحة ما، سياسية أو استعمارية أو أيديولوجية، من لدن بعض الأنظمة والمؤسسات والأجهزة، سواء بالنسبة للأدب العربي أو بالنسبة لغيره من الآداب الأخرى، بحيث تلجأ بعض المؤسسات المعادية إلى توجيه هذا النوع من الكتابة (رواية الحرب، مثلا) لخدمة مواقفها ومبادئها السياسية والدعائية، كما هو الشأن، مثلا، بالنسبة للطريقة التي تسخر بها الحركة الصهيونية الرواية لخدمة آلتها الإعلامية والدعائية والعدوانية ضد العرب.

ومن شأن المتأمل في المشهد الروائي العربي، منذ النشأة إلى اليوم، أن يدرك مدى الاهتمام الذي أولته الرواية لمختلف الأحداث السياسية والتحولات والصراعات التاريخية الحديثة، الطارئة على المنطقة العربية، الأمر الذي تولد عنه بروز تصنيفات جديدة، لها علاقة بمجال الكتابة عن الحرب بشكل عام، من قبيل: "رواية المقاومة"، "رواية المعركة"، "رواية الصراع"، "رواية الهزيمة"، "رواية النكسة"، "رواية العجز"، "رواية الانتفاضة"؛ وكلها تصنيفات يمكن إدراجها في خانة ما يطلق عليه اليوم "رواية الحرب". كما كانت الحروب، أيضًا، سببًا رئيسًا ومحفزًا لظهور بعض المبدعين الجدد، ومجموعة من النصوص الأدبية المستوحية للحروب وأجوائها.

وتعكس النصوص الروائية الصادرة للروائيات والروائيين العرب، على حد سواء، داخل هذا القطر العربي أو ذاك، جوانب من الأجواء المشحونة بهذا الصراع الحربي أو ذاك، أو بهذه الهزيمة أو تلك، بحيث يصعب، اليوم، حصر عدد النصوص الروائية التي استوحت ثيمة الحرب فيها، بدرجات مختلفة ومتفاوتة، بالنظر إلى الكم الهائل المنشور منها، وإن كان هناك من يرى أن ما صدر، حتى أيامنا هذه، من روايات عن الحرب لا يرقى بعد إلى المستوى المطلوب، مقارنة بما عرفته المنطقة العربية، من حروب ومقاومة وصراعات ونكبات، رغم المساهمات اللافتة لأهم الروائيين العرب، من مختلف الأجيال والأقطار العربية، في بلورة محكيات روائية، تستوحي أجواء الحرب والمقاومة والصراع والانتفاضة في بلدانهم، وفي غيرها من البلدان الأخرى؛ مساهمات فيها نصيب لافت كذلك للروائيات العربيات أنفسهن، ممن تنتصر بثينة شعبان لرواياتهن في كتابها "100 عام من الرواية النسائية العربية"، حيث إن استبعاد نصوصهن عن روايات الحرب، يشكل، في نظرها، "إفقارًا لأدب الحرب العربي، سواء في المادة الحقيقية المتوافرة أو في وجهة النظر".


ويرجع الفضل، في النهوض بكتابة "رواية الحرب"، للرواية المصرية بشكل خاص، في توسيعها لمجال وأشكال استثمار أجواء بعض الحروب فيها، بخلاف رواية الحرب في أقطار عربية أخرى، والتي بقيت في معظمها منغلقة على جانب محدد من الأحداث التي ولدتها بعض الحروب، في هذا القطر العربي أو ذاك، نشير، هنا، إلى الرواية المغربية، مثلًا، في تفاعلها مع حرب فلسطين وحرب أكتوبر وحروب مقاومة المستعمر الأجنبي، حيث تم استيحاء أجوائها، في بعض نصوصها، بشكل محتشم وعابر أحيانًا.

ويشهد للرواية المصرية بانفتاحها الواسع على تمثل مجموعة من الحروب، بما فيها تلك التي وقعت خارج مصر، في الجزائر واليمن والخليج ولبنان. ونشير، هنا، على سبيل المثال، إلى استيحاء "حرب اليمن" في رواية "رجال وجبال ورصاص" لفؤاد حجازي، ورواية "حرب اليمن" لصبري موسى، نشرت في مجلة "روز اليوسف"، ورواية "بيروت... بيروت" لصنع الله إبراهيم حول الحرب الأهلية في لبنان، ورواية "بغداد... لا أحد" لجمال عبد المعتمد حول حرب الخليج الثانية، وغيرها من النصوص الروائية الأخرى لكتاب مصريين، وغيرهم، حول هذه الحرب أو تلك، وخصوصًا منها "حرب 67" و"حرب أكتوبر"، باعتبارهما من بين أهم الحروب التي راكمت من حولها متنًا روائيًا مهمًا، لمجموعة من الروائيين، في انتمائهم إلى أقطار عربية مختلفة.

وإذا كان بعض النقاد العرب اليوم قد ارتبط معظم إنتاجهم النقدي بالبحث في هذا النوع من الكتابة الأدبية ودراسته ("رواية الحرب" تحديدًا)، كالكاتب والناقد المصري السيد نجم، المعروف بكتبه وأبحاثه العديدة عن "أدب الحرب"، وبنصوصه الروائية والقصصية حول الموضوع نفسه، بل والمعروف عنه، كذلك، مشاركته المباشرة في حرب أكتوبر 1973، فإن روائيين عربًا آخرين قد تمكنوا، هم أيضًا، من ترك بصماتهم في هذا المجال، من خلال نصوص روائية أساسية عن الحرب، كما جاء في بعض روايات إلياس خوري وإسماعيل فهد إسماعيل ويوسف حبشي الأشقر وعلوية صبح التي تعتبر، في نظر البعض، من بين أهم الروائيات العربيات اللائي بقين وفيات لثيمة الحرب (اللبنانية) في رواياتهن، جراء ما تركته ويلاتها في النفوس، وما رسمته من صور الدمار والخراب والتشويه الذي طاول لبنان، لكن برؤية تفاؤلية عند علوية صبح، بحلول زمن جديد، هو زمن ما بعد الحرب عمومًا.

وكذلك لعبت القصة القصيرة بدورها، إلى جانب الرواية والشعر، دورًا لافتًا في إثراء موضوع "كتابة الحرب"، سواء تم ذلك لدى بعض كتاب الرواية والقصة القصيرة، من موقع معايشة ومعاينة مباشرة لأحداث الحرب، وهو أمر نادر في الأدب السردي العربي، كما هي الحال لدى السيد نجم، حيث جاءت روايته "السمان يهاجر شرقًا" ومجموعته القصصية "أوراق مقابل قديم" تتويجًا لمشاركته المباشرة في الحرب، وكذلك الكاتب اللبناني إلياس الخوري الذي عاش جوانب من التجربة الحربية اللبنانية كمقاتل، والكاتب المصري علي فؤاد حجازي الذي خاض بدوره غمار حرب 67، وقضى ثمانية أشهر أسيرًا في سجن عتليت، فكتب عن هذه التجربة عام 1976 روايته "الأسرى يقيمون المتاريس"، ما جعل البعض يصفه بـــ "أمير رواية الحرب"، والكاتب يوسف القعيد، ويعتبر كذلك من أشهر كتاب "رواية الحرب" في العالم العربي، هو الذي كان بدوره مجندا في أحد المستشفيات خلال حرب أكتوبر، فكتب عن تداعياتها في نفوس الجنود، باعتبارهم، في نظره، "ناسا عاديين" وليسوا "أبطالا"، وكذلك الروائي فتحي أمبابي، في مشاركته في الحرب التي كتب عنها روايته "مراعي القتلوفيها يحكي عن مصير جندي عائد توًا من الحرب. وكذلك فعل ميخائيل نعيمة، وإن بشكل آخر، في تنديده، في سيرته الذاتية "سبعون"، بالحرب العالمية الأولى التي شارك فيها جنديًا في الجيش الأميركي، وحارب في فرنسا ضد ألمانيا...

ذلك وضع، ساهم، أيضًا، بالكتابة فيه بعض العسكريين أنفسهم، ممن عاشوا تجربة الحرب عن كثب، كعلاء مصطفى والضابط والأديب عصام دراز من مصر، هذا الأخير الذي صدرت له بعض الروايات والمجاميع القصصية، منها ما يتحدث عن حرب 67، وما يتعرض لحرب اليمن، أو تم ذلك لدى بعضهم، انطلاقًا من بعد مسافة من حدث الحرب، أي فقط من موقع التفاعل التذكري والعِرقي والوجداني والنفسي والفكري مع الحرب، كتجربة إنسانية عامة، مع ما يطرحه هذا التباين بين هاتين الحالتين، وخصوصًا ما يتعلق بطبيعة المسافة القائمة بين الكاتب والحدث، من أسئلة ذات صلة بقدرة هذا الكاتب أو ذاك على التقاط تفاصيل الحرب واستعادتها في حقيقتها، وتدقيق وصفها وتصوير أمكنتها، وتمثل الحالات الشعورية والنفسية للمتحاربين فيها، وكذا امتلاكهم القدرة على التعبير عن الحد الفاصل بين الحياة والموت إبان الحرب، وهو ما يبرر ما ذهب إليه البعض من أن الحروب عموما تشجع على الكتابة والإبداع (كما عبرت عن ذلك إيفلين عقاد)، وتحفز على صوغ أسئلة جديدة (حسب هدى بركات).

وبالرغم من ذلك، فثمة اليوم آراء تقول بأن الروائيين العرب لم يكتبوا "رواية الحرب" بعد، بالشكل الفني المرتجى، مع بعض الاستثناءات النادرة جدًا، كما هو الشأن بالنسبة لتجربة إلياس الخوري الروائية، وخصوصًا في روايتيه الممتعتين "الجبل الصغير" و"رحلة غاندي الصغير"، حيث لا زالت الجرأة، في نظر البعض، تنقص جل الروائيين العرب في الحكي عن الحروب ووصف أجوائها، والكشف عن حقائقها ونتائجها، وخصوصا ما يتصل منها بواحدة من أشهر الحروب الطائفية العربية، هي الحرب اللبنانية تحديدًا. فعادة ما يتدخل الخوف والتعصب الطائفي والحقد بالرقابة الذاتية، للحد من تلك الجرأة والصراحة في الكتابة والحكي عن الحرب، كما تساهم المسافة القائمة، أحيانًا، بين الروائي والحرب في تأجيل الكتابة عنها، كما هو الشأن لدى الروائي اللبناني أمين معلوف، في توزع مشاعره بين شخص كان وسط الحرب وشخص لم يعشها، ما دفعه إلى القول: "لا أشعر بأنني أستطيع أن أكتب عن الحرب وأنا مرتاح"، وهو ما جعل إلياس خوري، في مقالته "الهوية وأوهامها"، يقول بـ"أن انفجار الحرب عام 1975، وانهيار المحرمات الذي صاحبها، أفسحا المجال أمام ولادة الرواية اللبنانية المعاصرة، التي بنت فضاءها من شقوق الواقع والذاكرة"، في حين يرى بعضهم الآخر بأن رواية "الحرب اللبنانية" لم تكتب بعد، شأنها في ذلك شأن رواية "حرب أكتوبر"، ربما لكون هاتين الحربين وغيرهما، في نظرهم، "لم تنتهيا بعد" (نفسيًا على الأقل).

السيد نجم معروف بكتبه وأبحاثه عن "أدب الحرب"، وبنصوصه الروائية والقصصية حول الموضوع نفسه، بل والمعروف عنه، كذلك، مشاركته المباشرة في حرب أكتوبر 1973


ويبدو أن هزيمة 1967 استأثرت بالنصيب الأوفر من الاهتمام السردي والشعري بها، في عديد من النصوص الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية العربية، الراصدة والمستوحية لأجواء حرب حزيران، ولانعكاساتها التاريخية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والنفسية، على الأفراد والمجتمعات العربية ككل، بمنظورات مختلفة، ومن زوايا إبداعية متباينة، باعتبارها الهزيمة العربية التي كان لها، إلى اليوم، الوقع الكبير والأثر البالغ على شعوب المنطقة العربية برمتها، وعلى المثقف العربي بشكل خاص. كما أنها الهزيمة التي خلخلت الكثير من المفاهيم والأفكار، وزعزعت العديد من القناعات والقيم واليقينيات. وإذا كان الأمر على هذا النحو، بالنسبة لهزيمة 67، فإن بقية "الحروب" و"الهزائم" و"الانتفاضات" الأخرى التي عرفتها المنطقة العربية، كان لها، هي أيضًا، حضور مهم على مستوى الاستثمار التخييلي والأدبي لها، ومن بينها على الخصوص "الحرب الأهلية اللبنانية" و"حرب أكتوبر"، باعتبارهما من بين الحروب العربية التي لا زالت أجواؤها العامة وآثارها النفسية والذهنية تفرض حضورها وثقلها على فئة المثقفين والكتاب العرب، ويخيم شبحها إلى اليوم على فكرهم ومخيلتهم، بالرغم مما يراه البعض من خفوت واضح في درجة الحماس للكتابة عن "حرب أكتوبر"، مثلًا، نتيجة تضافر معطيات تاريخية وسياسية بعدية، هي التي ساهمت، بشكل كبير في الحد من ذلك الإحساس الصادق، ومن الآثار النفسية لتلك الحرب على الكتاب.

وقد ساهمت مختلف الحروب، سالفة الذكر، في توسيع الفضاء التخييلي والدلالي لـ"رواية الحرب" العربية، نصًا بعد آخر، والإضافة إليها عبر عملها على تطوير شكلها العام، وإعادة النظر في بعض المسلمات التي كثيًرا ما تغنت بها بعض الكتابات الأخرى، أدبية كانت أو غيرها، كتلك التي طبلت لحرب أكتوبر، من منطلق التعامل معها كانتصار جاء كرد فعل على هزيمة 1967، في الوقت الذي اعتبرت فيه نصوص أخرى "حرب أكتوبر" انتصارًا وهميًا فقط، بل وهزيمة سياسية جديدة للعرب، كما تعرضت لذلك رواية "أربع وعشرون ساعة فقط" ليوسف القعيد، هذا الذي ما فتئ ينادي بضرورة رفع القداسة التي أضفاها الإعلام على "حرب أكتوبر"، وذلك بمثل التعامل السياسي أيضًا مع حرب 1967، بوصفها "نكسة" فقط، في نظر البعض، في حين اعتبرها آخرون "هزيمة" حقيقية وقاسية للعرب.

ومما لا شك فيه، أن ما حدث في لبنان والعراق، وما يحدث اليوم من حرب صهيونية على غزة على وجه الخصوص، سوف يدفع بالأدباء العرب، وغيرهم، إلى تجديد التفكير في طرائق كتابتهم لـ"رواية الحرب"، التي ستستثمر، بدون شك، ثيمة هذه "الحرب" الإجرامية المدمرة على الشعب الفلسطيني في غزة، بأبعادها ومظاهرها وتجلياتها العديدة، وبنتائجها وانعكاساتها الكارثية، وآثارها المختلفة على الإنسانية بشكل عام.

من هنا، فالكتابة عن الحرب عمومًا، عادة ما تستلزم مسافة زمنية وتأملية، قد تطول وقد تقصر، في محاولة من الروائيين أخذ وقت كاف لفهم واستيعاب ما جرى، وقد تمتد الكتابة عن الحرب من جيل لآخر أيضًا. فمعظم الروائيين الكبار ممن كتبوا عن الحرب، قاموا بذلك انطلاقًا من بعد مسافة منها، قد تصل إلى أزيد من نصف قرن، كما هي الحال عند تولستوي في كتابته لروايته الشهيرة "الحرب والسلم". وقد لا يكون للمسافة الزمنية التي يتخذها الروائي من الحرب أي دور مؤثر في عملية الكتابة، حيث يتدخل العامل الأيديولوجي، أحيانًا، (مسألة الطائفية مثلًا) في تأخير الكتابة عن الحرب أو في تأجيلها، أو في غض الطرف عنها، ما يدفعنا، هنا، إلى طرح التساؤل التالي: هل ما يحدث اليوم من حرب على غزة، سيدفع بروائيي فلسطين، وغيرهم من روائيي العالم، إلى الكتابة عن حرب خاضتها المقاومة الفلسطينية، في شخص حركة حماس، ضد العدوان الإسرائيلي، دفاعًا عن غزة؟

إن بعض المآسي الصغيرة عادة ما تبدأ بعد نهاية الحروب، وقد تكون أحيانًا أشد قسوة من الحروب نفسها، كما عبر عن ذلك عبده وازن، في قراءته لرواية "المسلم" للروائي الروسي فاليري زالوتوخا، باعتبارها رواية عن الوجه الآخر للحرب الروسية الأفغانية، لكونها قد لامست بعمق قضية "العودة" إلى القرية، في معانيها وأبعادها الإنسانية العديدة، كما أنها رواية روسيا الجديدة فيما تشهده من تحولات و"مآس" صغيرة. فالروائي يقوم بتخزين وقائع الحرب ومشاهدها ومآسيها، خلال "زمن الحرب"، لكي يعجنها، بعد ذلك، في إطار عملية تخييل بعد انتهاء الحرب، ما قد يستلزم وقتًا معينًا لتحويل ذلك القلق والتوتر، وتلك المعاناة والمأساة، إلى "إرث إبداعي وإنساني".

وهو ما قد يبرر، كذلك، استمرارية حضور بعض الثيمات والأسئلة المرتبطة بعوالم الحروب ومجتمعات الحرب، وما بعدها، في بعض الروايات، وفي غيرها من الأجناس التعبيرية الأخرى، من موقع إعادة تأمل تلك الأسئلة وصوغ أخرى جديدة، من قبيل: هل بإمكان الرواية اليوم أن ترمم ما خربته الحرب، بعيدًا عن الاستسلام للدمار الذي تخلفه الحروب من حولها؟ بل واستشراف أسئلة أخرى، في انفتاحها على المحتمل، كما فعل الروائي إبراهيم عبد المجيد في استراحته المسرحية "24 ساعة قبل الحرب"، من خلال تصوره لما قد يحدث في حالة قيام حرب بين مصر وإسرائيل. وبموازاة ذلك، سيتم البحث عن دلالات جديدة في ضوء واقع جديد، ليس له من أفق سوى ارتباطه باللحظة والوعي التاريخيين...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.