}

في ذكرى اليوم العالمي للكتاب والقراءة: احتفاء بمحمد شكري

 

أقرّت منظمة اليونسكو يوم الثالث والعشرين من نيسان/ أبريل من كل عام، للاحتفاء باليوم العالمي للكتاب، وقد تم اختيار هذه المناسبة للاحتفاء بالكتاب والقراءة، والترويج لأهمية القراءة والكتاب في العالم، ودعم الإبداع والثقافة، والاعتراف بجهود الكتاب، وذلك منذ عام 1995. ولم يكن اختيار هذا اليوم اعتباطًا، بل بالنظر لرمزيته؛ إذ يوافق هذا اليوم ذكرى رحيل كتاب كبار، بصموا تاريخ الإبداع العالمي بإبداعاتهم الخالدة: ثربانتس، وشكسبير، ودى لا بيجا.

وبما أن الاحتفاء بهذا اليوم، يشكّل لدى المهتمين، هنا وهناك، مناسبة للاحتفاء بالكتاب والقراءة على حد سواء، فهي أيضًا مناسبة لاستعادة سير بعض الكتاب والمبدعين في العالم، كما هي الحال في بلادنا العربية، ممن غادرونا، وقد تركوا بصماتهم وأثرهم في مجتمعاتهم وحتى خارجها، وأثروا المكتبة العربية بإنتاجاتهم الإبداعية، إلى جانب ما حققوه من انتشار عالمي لكتاباتهم، جراء ما حظيت به كتبهم من ترجمات عديدة، إلى لغات مختلفة، فضلًا عما اشتهرت به سيرهم من تجليات لجوانب أخرى، كان لها، هي أيضًا، حضور خاص ومضيء ومواز لسيرة الكتابة لديهم؛ يتعلق الأمر، هنا، بسيرة القراءة، كما عكستها تجاربهم الفريدة مع الكتابة والقراءة على حد سواء.

ومن بين هؤلاء الكتاب الراحلين، ممن يستحقون أن نستعيد سيرتهم، بمناسبة اليوم العالمي للكتاب والقراءة، يحضرنا اسم الكاتب المغربي محمد شكري، الذي اشتهر بكتابته النوعية لسيرته الذاتية، في أجزاء متفرقة، وإن كان الجزء الأكثر شهرة منها، هو "الخبز الحافي"، إلى جانب كتابات أخرى، حظيت، هي أيضًا، بانتشار كبير وتلقيات واسعة، وإن ظلت "الخبز الحافي"، مع ذلك، لحظة صدورها، سيرة ذاتية منفلتة وذات خصوصية ونكهة حكائية وجمالية لافتة ومغايرة لما عهدناه من محكيات في سير ذاتية أخرى. فهي السيرة الذاتية التي حققت، كما هو معروف، نجاحًا كبيرًا ومتعدّدًا، فحظيت بمجموعة من الطبعات، داخل المغرب وخارجه، وتركت صدى خاصًا على مستوى التلقي، محليًا وعربيًا وعالميًا، وأيضًا على مستوى ما أثارته هذه السيرة الذاتية من أسئلة واحتفاء عربي وأجنبي بها، ساهمت فيه مجموعة من المعطيات الموازية، منها ما حظيت به هذه السيرة الذاتية من ترجمات عديدة إلى لغات أجنبية بلغت تسعًا وثلاثين لغة أجنبية، عدا ما طاولها من قرار المنع لفترة قبل أن يتم الإفراج عنها، كل ذلك وغيره، ساهم بقسط وافر في بلورة انتشار سيرة شكري الذاتية وتصاعدها، بما جاءت محملة به من جرأة غير مألوفة في السرد والبوح والكتابة وكسر التابوهات، لم نعهده من قبل في كتابات من سبقوه، وإن بدا أن صدى هذه السيرة الذاتية قد بدأ يخفت في العقود الأخيرة إثر ظهور تراكم جديد في نصوص السيرة الذاتية العربية، في تحررها وجرأتها...

وسيرة محمد شكري العامة، لا يمكن تتبع كل خيوطها المتناسلة والمتشابكة، من خلال ما تكشف عنه كتاباته السير ذاتية فقط، من معطيات بيوغرافية مرجعية، مرتبطة برحلة محمد شكري في الأزمنة والأمكنة وفي الوجوه والوجود، بل إن ثمة صورا أخرى تميز سيرة شكري الذاتية، تكشف عن تضافر مجموعة من الاهتمامات والانشغالات الموازية لرحلة الكتابة السيرذاتية لدى شكري، والتي لا تقل أهمية عن تلك الصورة التي اشتهر بها الكاتب وعرف بها، باعتباره كاتبا عالميا ذا تجربة إبداعية لافتة؛ يتعلق الأمر، هنا، تحديدا بصورة "محمد شكري القارئ"، بالمفهوم الواسع، هنا، للفظ القراءة. بما هي صورة لا تقل أهمية ودلالة وتأثيرًا وإشراقًا عن صورة محمد شكري الكاتب التي ألفناها أكثر من غيرها، وإن بدا أن كل صورة، من هاتين الصورتين، تكمل الأخرى وتتداخل معها، كما تكشف عن ذلك كتابات شكري الأدبية، وحواراته الصحافية وأحاديثه السير ذاتية، ورسائله المنشورة، وكذا مذكراته الموازية لتجربته الكتابية السير ذاتية... ولا غرابة في ذلك، ما دام أن إغواء القراءة قد سبق عند شكري فتنة الكتابة، وهو ما يجعل منه، في الآن ذاته، كاتبًا كبيرًا وقارئًا كبيرًا أيضًا.

ومن يقرأ رسائل محمد شكري المتبادلة مع محمد برادة، سوف يدرك أن عملية القراءة عند شكري تشكل جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية، ومن الأخبار الواجب نقلها للأصدقاء، فتجده دائمًا يحيل على مقروءاته من الكتب والمجلات، إلى الحدّ الذي يجد في القراءة مجالًا للتطهر والإدمان: "إنني أطهر نفسي. الكتب تنام معي. عادة اكتسبتها منذ سنين. القراءة والكتابة في الفراش. مذكرات اللص لجان جينيه أعيد قراءتها بالفرنسية والإسبانية. كذلك أقرأ Nadja لـ Breton، تاريخ العلم لجورج ساتورن، شعراء المدرسة الحديثة لـ M.L. Rosental، مجلة عالم الفكر (العدد الخاص بالزمن)، وقصائد حب على بوابات العالم السبع للبياتي. غارق في القراءة، لكن الإحساس بالكتابة لم يغرني بعد..." (من رسالة إلى محمد برادة، ضمن كتاب: "ورد ورماد"، رسائل، ص 27).

كما أن من يتتبع بعض الصفحات المشرقة من الجزء الثاني "زمن الأخطاء" من سيرته الذاتية، سوف يلمس عن كثب أن محمد شكري كان، منذ بدايات اكتشافه لعوالم الأدب والثقافة، مقبلًا بلهفة وولع على القراءة، مستمتعًا بلذتها، قبل أن يقبل، فيما بعد، على الكتابة ويستهويه إغراؤها، إن لم نقل بأن القراءة كانت بالنسبة لشكري محفزًا أساسيًا على ممارسة الكتابة فيما بعد: "بدأ يسكنني شيطان الأدب فصرت أهتم بقراءة الكتب الأدبية أكثر من اهتمامي بدروس علم النفس التربوي، والتشريع المدرسي" (ص129)، وهو الذي كان يفضل، كذلك، فعل القراءة على الإنصات للدرس: "ضبطني أستاذ التربية وعلم النفس أقرأ: ‘البؤساء‘ فأخرجني صارخًا: ‘هذه قاعة الدرس وليست مكتبة‘"، أو في قوله كذلك: "أوزع وقتي بين القراءة بالعربية والإسبانية والعربدة في الحانات" (ص130).


كما أن من يقرأ بعض الفقرات الصادقة والوفية عن شخصية الكاتب المغربي محمد الصباغ، تلك التي يتحدث فيها محمد شكري عن بداية علاقته بالصباغ واكتشافه له، ومن خلاله يكتشف، ولأول مرة، ما معنى أن يكون الإنسان كاتبًا، سوف يفطن إلى أن شكري كان منذ البداية قارئًا مكثارًا قبل أن يقبل على الكتابة، وتعميق قراءاته، بإيعاز من الكاتب محمد الصباغ نفسه، هذا الذي قال موجهًا نصيحته الخالدة لمحمد شكري، بعد أن قرأ هذا الأخير كتبه وكَتب محاولة عرضها لإبداء الرأي على الصباغ: "لغتك لا بأس بها. استمر في الكتابة بانضباط واقرأ كثيرًا". ويضيف شكري: "صار يوجّهني في قراءاتي الشعرية بالعربية والإسبانية" (ص131). ثم يسرد شكري سلسلة من الكتب التي قرأها بتوجيه من الصباغ، ففتحت أمامه مجالا أوسع لاكتشاف أسماء كتاب عالميين، والتلذذ بعذوبة الشعر الرومانسي لدى عديد من الشاعرات الأجنبيات. كما انفتح مجال القراءة لديه لأول مرة على الأدب المغربي، من خلال قراءته لـ"قصص من المغرب" لأحمد عبد السلام البقالي.

أما عن شغف محمد شكري وهوسه الكبير واللامتناهي بالقراءة، وكذا الإغراء الذي كانت تمارسه عليه، فيمكن التمثيل عليه عبر هذا الشاهد النصي من "زمن الأخطاء"، في قوله: "أقرأ أي شيء مكتوب: كتابًا معارًا أو مسروقًا، أو ورقة مكتوبة من على الأرض، أغلبها بالإسبانية. عناوين المتجر والمقاهي يستحوذ علي قراءتها ونقلها، أحيانًا على ورقة أو دفتر المسودات(...) صارت القراءة والكتابة عندي هوسًا في الحلم واليقظة..." (ص49ـ 50).

ومن يتتبع كذلك أحاديث محمد شكري الصحافية، سيكتشف، بشكل لافت، مدى الحضور المتميز للحديث عن تجربة القراءة لديه في حياته، ودورها وتأثيرها العام في أدبه ومخيلته وفي ثقافته ككل، بالاستناد إلى مجهوداته الفردية تحديدًا، حيث لم يكن موجها في البداية من لدن قراء جادين، كما عبر هو نفسه عن ذلك، وهو الذي يقول: "مع مرور التجربة القرائية، بدأت أميز بين الجيد والغث في اختيار ما أقرأ، سواء بذكائي الخاص أو بمساعدة بعض أذكياء القراءة..." (من حديث معه أجراه يحيى بن الوليد والزبير بن بوشتى، جريدة القدس العربي، 30 يناير 2000، ص13).

تلك، إذًا، مجرد شذرات عن تجربة القراءة في حياة محمد شكري، سقناها، هنا، للتدليل أساسًا على الأهمية التي كانت تحظى بها القراءة في حياة شكري في بداياتها، وأيضًا في بدايات تفتّح وعيه على عوالم الأدب والكتب والمحاولات والأسماء والنصوص العالمية، بهذه اللغة أو تلك، قبل أن يأخذه هوسه بعالم القراءة إلى مناحٍ أخرى، في حياة شكري وفي تجربته الأدبية والفكرية، على نحو أكثر عمقًا وانفتاحًا.

وفي هذا الصدد، يمكن أن نتتبع جوانب من سيرة محمد شكري، باعتباره القارئ الكبير الذي صاره إلى حد الإدمان، وكذا محطات من تجربته الغنية مع القراءة والتأمل والتعليق على المقروء، من خلال مجموعة من المداخل الأساسية التي تكشف جميعها عن تجليات صورة ذلك القارئ الذكي الذي سكن عمق شخصية الكاتب شكري، ليس فقط عبر ما تتميز به شخصيته من ثقافة واسعة، وما تبرزه حواراته وأحاديثه العديدة، إلى جانب ما تضمره لغة الكلام لديه، من قدرة على الاستيعاب والاستثمار الجيد للإحالات المرجعية على نصوص غائبة وعلى كتابات عالمية، من الشرق والغرب، في حقول مختلفة، ولكن أيضًا عبر ما تكشف عنه كتاباته الأخرى الموازية لكتاباته القصصية والمسرحية، ولسيرته الذاتية ولمذكراته مع كتاب عالميين آخرين من نضج ثقافي ومعرفي كبير، ومن ذكاء خاص في اختيار المقروء وقراءة المكتوب أيضًا.

ويكفي، في هذا الإطار، أن نستدلّ على ذلك بكتاب فريد من نوعه لمحمد شكري، بعنوان "غواية الشحرور الأبيض"، الصادر عام 1998. كتاب أعتبره شخصيًا من بين أهم الكتب التي ألّفها شكري، وإن لم ينل ما يستحق من متابعة ورصد، على الأقل من زاوية طرافة موضوعه وتنوع مواده وانفراد هذا الكاتب فيه، بخلاف كتاب مغاربة آخرين، بالكتابة عن سيرة القراءة لديه، وأيضًا من زاوية ما يكشف عنه هذا الكتاب من ثراء لافت في مادته ومعانيه، وفي أفكاره ومرجعياته أيضًا، إلى جانب ما يضمره الكتاب من إمكانات تركيبية هائلة، تميز شخصية محمد شكري في التأمل والمقاربة والتذوق وقراءة الأعمال الأدبية والفكرية، العربية والأجنبية، قديمها وحديثها، وما يكشف عنه، كذلك، من حس نقدي وروح مرحة، ومن سخرية ودعابة وحِكم أيضًا، الأمر الذي يساهم، هنا، على الأقل من خلال هذه الصورة التي يرسمها هذا الكتاب لشكري القارئ، في زعزعة جوانب من طبيعة ذلك الارتباط الأزلي الكتابي بينه وبين الجزء الأول خصوصًا من سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، بما هو ارتباط ما فتئ شكري نفسه يحاول فكه، وبالتالي التخلص مما جناه عليه "الخبز الحافي"، وبالتالي قتل تلك الشهرة الواسعة التي ولدها له هذا النص، دون غيره من النصوص الأخرى الممتعة التي كتبها قبل "الخبز الحافي" وبعده، بما فيها الجزآن التاليان من سيرته الذاتية "زمن الأخطاء" و"وجوه"، وكذا كتابه الممتع والعميق "غواية الشحرور الأبيض"، هذا الكتاب الذي "سيقدّم لأولئك الذين لا يريدون أن يقرأوا مرة أخرى عن طفولة بائسة ما بين تطوان والعرائش وجها آخر من وجوه هذا الكاتب المتنوع والبالغ الخصوبة" (محيي الدين اللاذقاني، في تقديمه للكتاب، ص7).

 نتتبع في كتاب "غواية الشحرور الأبيض" محمد شكري قارئًا ذكيًا، ومتتبعًا كبيرًا للإنتاج الأدبي العربي والعالمي، بمجهوداته الفكرية الفردية، هو الذي لم يتابع دراسته قط بالجامعة، بل إنه قد "حفر مساره الخاص من الأمية إلى العالمية"، كما عبر عن ذلك اللاذقاني، فاخترع شكري، بذلك، لنفسه شرطه الأدبي والتأملي والنقدي، بموازاة مع افتتانه الكبير، وعلى حد سواء، بغواية القراءة إلى جانب غواية الكتابة.

كما نتتبع في هذا الكتاب آراء شكري في عديد من القضايا ذات الارتباط بعوالم القراءة والكتابة والنقد والتذوق... فعبر هذه العوالم جميعها، يخوض تجربة القراءة العاشقة والعالمة للعديد من النصوص والظواهر، كما ينظّر لتجربته هو مع الكتابة، ولتجارب كتاب آخرين أيضًا، مميزًا في الوقت نفسه بين أنواع الإبداع والنقد ووظيفة كل منهما. ويسافر شكري في بعض الأزمنة الإبداعية العربية، عبر قراءات مركزة في بعض التجارب الأدبية لكتاب عرب، من بينهم على الخصوص نجيب محفوظ والطاهر بنجلون وعبد الرحمن مجيد الربيعي، كاشفا، في الآن ذاته، عن صورة ذلك "الناقد" الذي كانه، ومعلنًا، في الوقت نفسه، عن بعض مواقفه من بعض الظواهر والعلائق الكونية، من منطلق امتلاكه لقدرة على إدراك ما يدور في العالم من حوله، كتناوله لطبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والعالم، والعلاقة بين القبيح والجميل، فضلًا عن إبرازه لموقفه من مقولة انتهاء دور الأدب.

وإلى جانب السرد، يحضر الشعر في كتابات شكري، كما في تجربته القرائية أيضًا. ولا غرابة في ذلك، فقد كان الشعر من بين أولى الأجناس التعبيرية التي أقبل على قراءتها والافتتان بسحرها وتأثيرها.

ويكفي، هنا، أن نستحضر كتاب الغواية لنكتشف جوانب لذلك الوجه الآخر المشرق في شخصية هذا الكاتب المغربي، كما كانوا يلقبونه، قبل أن تكسر العالمية جدار محليته، وهو وجه آخر يبدو، من خلاله محمد شكري، أنه قد انتقم لتلك السنوات والأشهر والأسابيع والأيام والساعات والدقائق التي قد يحسب البعض أن شكري قد ضيّعها سدى في حياة التشرد القاسية، والمغامرات الشطارية الصعبة، قبل أن يقبل على تعلم القراءة والكتابة، أو حتى بعد أن أقبل عليهما بلهفة أوصلته إلى العالمية، لكن هيهات، فالشحرور إنما كان يطوي المسافات تلو أخرى ويلتهم الكتب بذكاء ذلك الشاطر الذي كانه وظله إلى أن رحل عن عالمنا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.