}

كشوف جديدة: مخططات الترانسفير الإسرائيلية في قطاع غزة (3/3)

ضفة ثالثة- خاص 16 أبريل 2023
هنا/الآن كشوف جديدة: مخططات الترانسفير الإسرائيلية في قطاع غزة (3/3)
فلسطينيون يغادرون من غزة إلى الأردن عام 1967

إعداد وتقديم: أنطوان شلحت


تقديم

فكرة "تشجيع الهجرة العربية"، وهو المصطلح المُلطّف للترانسفير، تتكرّر كل فترة في الخطاب العام في إسرائيل، على نحو يمكن اعتباره دوريًا.

وهناك ميل عام لدى كثيرين في إسرائيل للترويج بأن سبب معاودة الحديث عن الترانسفير في الآونة الأخيرة يعود إلى ما يُسمى "الانزياح نحو اليمين" الذي شهده المجتمع الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000 وما تسبّبت به من "عودة الصهيونية إلى ذاتها". فمثلًا أشار استطلاع أجري عام 2002 ضمن "مشروع الأمن القومي والرأي العام الإسرائيلي" في "مركز يافيه للأبحاث الاستراتيجية" في جامعة تل أبيب (الذي أصبح اسمه لاحقًا "معهد أبحاث الأمن القومي")، إلى أن مؤشرات الانزياح يمينًا تكمن ضمن أشياء أخرى في ازدياد تأييد الإسرائيليين لمشاريع حلول الترانسفير ضد الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو داخل تخوم "الخط الأخضر"، حيث أيّد 46 بالمئة منهم تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 31 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. غير أن الأستاذ الجامعي الإسرائيلي، آشير أريـان، أكد أن هذا النمط من التفكير لدى الإسرائيليين ليس جديدًا كل الجدة، فقد أظهر استطلاع عام 1991 من الفصيلة نفسها نسبة تأييد للترانسفير ضد الفلسطينيين ليست أقل كثيرًا، حيث أيّد 38 بالمئة من الإسرائيليين تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 24 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. ولفت إلى أن سبب ذلك راجع، في جانب ما، إلى تأصّل فكرة الترانسفير في تفكير الحركة الصهيونية، كما في ممارساتها الميدانية.

كما يورد الذين يعزون معاودة طرح فكرة الترانسفير إلى الوقائع التي تلت الانتفاضة الفلسطينية، أن من مؤشرات الانزياح يمينًا دخول الحزب الإسرائيلي الذي يتبنى علنًا برنامج الترانسفير بزعامة الوزير المقتول رحبعام زئيفي كطرف فاعل في الائتلاف الحاكم الذي تزعمه أريئيل شارون عام 2001، ما أضفى شرعية علنية على هذا الموضوع.

غير أنّ زئيفي نفسه سبق له أن أكد أنه استقى فكرة الترانسفير من آباء الحركة الصهيونية. ففي واحد من مقالاته الكثيرة في هذا الشأن، وهو بعنوان "الترحيل من أجل السلام" والذي نشره في صحيفة "هآرتس" في 17 آب/ أغسطس 1988 كتب ما يلي: "صحيح أنني أؤيد الترانسفير بحق عرب الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول العربية، لكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها، مثل دافيد بن غوريون الذي قال من جملة أمور أخرى ’إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا، وأي شك عندنا في إمكان تحقيقه، وأي تردّد من قبلنا في صوابه، قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية’ ("مذكرات دافيد بن غوريون"، المجلد الرابع، ص 299). كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتسنلسون وآرثر روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين".

وقبل أقوال زئيفي هذه بأكثر من ثمانية أعوام ألمح الوزير الإسرائيلي الأسبق والخبير الإستراتيجي أهارون ياريف إلى وجود "خطة جاهزة" في الأدراج الإسرائيلية الحكومية لترحيل 700 - 800 ألف عربي، حين "تنشأ الأوضاع الموضوعية لذلك"... وحرفيًا قال ياريف في محاضرة ألقاها في "الجامعة العبرية" في القدس، في 22 أيار/ مايو 1980 ما يلي: "هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل ما بين 700 و800 ألف عربي... ولم تتردّد هذه الآراء على ألسنة المسؤولين فحسب، وإنما أيضًا أعدت الوسائل اللازمة لتنفيذها"!

وإذا كان اعتراف زئيفي السالف بأنّ فكرة الترانسفير ليست من بنات أفكاره غير بليغ بما فيه الكفاية لإثبات عمق تغلغل الفكرة ورسوخها في منبت رؤوس حكام إسرائيل الصهاينة، فإنّ إثبات ذلك يمكن أن نستقطره من نتاجات الوعي الجديد بحقيقة هذا الأمر، الذي يكتسب يومًا بعد يوم مناطق جديدة في أوساط مزيد من المؤرخين والباحثين اليهود.

ولئن كان هذا الكلام يريد النفاذ إلى أشياء محدّدة فإنه يريد، أكثر شيء، توكيد خلاصة فحواها أنّ التربة الإسرائيلية على صعيدي المسؤولين السياسيين والرأي العام الشعبي سواء بسواء، لديها من الجهوزية ما يكفي لتقبل فكرة الترانسفير وعدم مضادتها، وإن من الناحية الأخلاقية على الأقل.

عند هذا الحدّ يكفي أن نستعيد، مرة أخرى، ما قاله زئيفي نفسه في هذا المضمار ضمن مقاله السالف ذكره:

"[... ] لقد زعموا أنّ هذه الفكرة (الترانسفير) غير أخلاقية، وبرأيي أنه ليست هناك فكرة أكثر أخلاقية منها، لأنها تحول دون وقوع الحروب وتمنح شعب إسرائيل الحياة. وإذا كانت هذه الفكرة غير أخلاقية فإنّ الصهيونية كلها وتجسيدها خلال أكثر من مئة عام هما غير أخلاقيين. إنّ مشروع الاستيطان في أرض إسرائيل وحرب الاستقلال حافلان بعمليات ترحيل العرب من قراهم. فهل كان هذا أخلاقيًا ولم يعد كذلك الآن؟".

في التحصيل الأخير يمكن القول إن جذور الفكرة المذكورة أعلاه ليست في هوامش اليمين وإنما في القيادة السياسية في إسرائيل بما في ذلك خلال فترة حكم حزب مباي العمالي. فمثلًا، فور انتهاء حرب 1967 بادرت حكومة ليفي أشكول (عماليّة) إلى وضع خطة وفّرت محفزات لعائلات وأفراد في مقابل هجرتهم من قطاع غزة، وأبقت في القطاع، على نحو مقصود، مستوى حياة منخفضًا ومستوى بطالة عاليًا.

ويلقي عدد من الوثائق الأرشيفية التي جرى الكشف عنها مؤخرًا الضوء على هذه السياسة التي تم التكتم عليها لعشرات الأعوام بوصفها "سِرّ دولة".

وآخر ما كتب حول هذه الوثائق هو المقال الذي نقدّم ترجمته هنا على حلقات، بقلم د. عُمري شيفر رفيف، وهو مؤرّخ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني و"إسرائيل الحديثة". وهذا المقال هو فصل من كتاب بعنوان "غزة: موقعها وصورتها في الحيّز الإسرائيلي"، من تحرير: عمري بن يهودا ودوتان هليفي، والذي سيصدر قريبًا عن دار النشر "غاما". والكتاب، بحسب الناشر، عبارة عن مجموعة مقالات تعتبر الأولى من نوعها، وهي مخصصة لمدينة غزة والقطاع عمومًا وصورتهما في الثقافة والسياسة الإسرائيلية.

هنا الجزء الثالث والأخير من هذا المقال:


اعتبارات قوات الأمن (الإسرائيلية) بشأن تشجيع الهجرة

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 بدأت المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد قوات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة تتزايد. وارتفع عدد حالات إلقاء القنابل ووضع الألغام في القطاع على نحو جدّي. فمثلا في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر ألقيت قنبلة على دورية للجيش الإسرائيلي في مدينة غزة؛ في اليوم التالي انفجرت عبوة ناسفة بجانب دورية للجيش الإسرائيلي في خان يونس. في اليوم الذي يليه انفجرت عبوة تحت قطار كان مُسافرًا في المدينة. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفتح نظمتا الجزء الأكبر من هذه العمليات، وقد تعاظمت قوتهما. وفرض الحكم العسكري حظر التجوال على القطاع، وقام باعتقالات جماعية وفتش عن وسائل قتالية، ولكنه لم ينجح في خفض لهيب النيران. إلى جانب المقاومة المسلحة تزايدت أيضًا الاحتجاجات غير العنيفة والتي تميزت بإضراب المدارس، وإغلاق الطرقات ورفع أعلام فلسطين في المظاهرات. شارك في الاحتجاجات على نحو أساسي فتيات في جيل المدرسة. وشكت قوات الأمن أن من يقف خلف الاحتجاجات هم أيديولوجيون بالغون أكثر استخدموا الفتيات انطلاقًا من فرضية أن القوات الإسرائيلية لن تجرؤ على استخدام القوة ضدهن. (38)

في ضوء ازدياد قوة المقاومة الفلسطينية لحكم الاحتلال الإسرائيلي والانخفاض الحاد في عدد المهاجرين، بدأت قوات الأمن تعيد النظر بسياستها في القطاع. وفي جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في تاريخ 13 شباط/ فبراير 1969 شرح الجنرال مردخاي غور، الذي كان حاكم قطاع غزة، بأن هدف الوضع الاقتصادي المتدني كان تشجيع الهجرة، ولكن حين لم تعد هناك هجرة فما من سبب لمواصلة سياسة الحضيض الاقتصادي، والتي دفعت برأيه المزيد من السكان إلى أذرع منظمات الإرهاب. (39)

اقترح ديان العودة إلى تمكين خريجي المدارس في القطاع من مواصلة التعليم العالي في الجامعات في مصر، مثلما اعتادوا ذلك قبل الاحتلال الإسرائيلي


إن نصف المتجندين لحركة فتح في القطاع قاموا بذلك فقط لأنهم كانوا بحاجة إلى مصدر رزق، قال غور، وروى أنه حقق بنفسه مع أحد "المخربين" الذين قبض عليهم، وادعى أنه لو كان لديه مرتب ثابت وجيّد لما كان سيشارك في "عمليات التخريب". كان استنتاج غور واضحًا: يجب على إسرائيل تبنّي سياسة اقتصادية جديدة هدفها التطوّر الاقتصادي في القطاع من أجل إنتاج أماكن عمل ورفاهية اقتصادية تبعِد غالبية السكان عن التماثل مع المقاومة المسلحة والانضمام إليها. (40)

عبّرت السياسة الإسرائيلية من شباط/ فبراير 1969 فما بعد عن الرؤية الجديدة التي تحدث عنها غور. كان أهم القرارات في هذا السياق قد اتخذ في مطلع شباط/ فبراير، ووفقًا له فإن المفتقرين إلى العمل من القطاع، سواء أكانوا سكانًا دائمين أو من لاجئي 1948، يمكنهم العمل في داخل إسرائيل. حتى ذلك الحين، من أجل تشجيع الهجرة، تمّ حظر دخول قوة عاملة من القطاع إلى إسرائيل، على الرغم من أنه تم تمكين سكان الضفة الغربية من الدخول منذ أواسط 1968. بما أن إمكانيات التشغيل في الأراضي المحتلة كانت قليلة وبما أن مستوى الأجر في إسرائيل كان أعلى بعشرة أضعاف من الأجر في القطاع، فإن العمل في إسرائيل كان مطلوبًا جدًّا وكان ينطوي على إمكانية الارتفاع الملحوظ في مستوى الحياة المحلية. (41)

لقد فهمت القيادة الإسرائيلية في تلك الفترة أن سياسة الحضيض الاقتصادي ونسب البطالة العالية قد أنتجت على مدى زمني متواصل خطرًا أمنيًّا على قوات الجيش الإسرائيلي. ولكن الحكومة لم تتنازل بشكل تام عن "خفض سكان القطاع". وفي عام 1969 بدأت جهود تشجيع الهجرة بالتمحور في الأساليب التي جمعت ما بين تحسين الوضع الاقتصادي وما بين الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. جاء الاقتراح الأول بهذه الروح من وزير الدفاع موشيه ديان حين وضعه على طاولة لجنة الوزراء لـ "شؤون المناطق" (الأراضي المحتلة 1967) في 24 نيسان/ أبريل 1969. اقترح ديان العودة إلى تمكين خريجي المدارس في القطاع من مواصلة التعليم العالي في الجامعات في مصر، مثلما اعتادوا ذلك قبل الاحتلال الإسرائيلي. ومثلما ادعى، خرج قبل الاحتلال نحو 3500 خريج مدارس ثانوية من القطاع إلى مصر، 70 بالمئة منهم لاجئو عام 1948، من أجل التعلم في مؤسسات التعليم العالي. خريجو الثانويات تلقوا قبولًا أوتوماتيكيًا لجامعات مصر إذا كانوا قد تجاوزوا امتحانات البكالوريا المصرية بنجاح، وكانوا يحظون بتعليمٍ عالٍ مجاني وحتى بدعم رسوم السفر. "كانت النتيجة"، كما قال ديان، "أن معظمهم لم يعودوا أكثر إلى قطاع غزة. بعد أن تعلموا مهنة بقيت غالبيتهم هناك". ولكن في صيف 1967 قررت إسرائيل استبدال كتب التعليم في القطاع لأنها احتوت على مضامين "معادية لإسرائيل". وخريجو المدارس لم يعودوا يُمتحنون في امتحانات البكالوريا المصرية، وتوقفت الجامعات المصرية عن قبول طلاب جُدد من القطاع. آلاف من خريجي المدارس الثانوية في السنتين الاخيرتين، قال ديان، كان يمكنهم الهجرة إلى مصر لو لم تتغيّر برامج التعليم في مدارسهم. وهكذا لم يعد بإمكانهم الخروج إلى الضفة الشرقية لأن الأردن سدّت هذا الطريق، وبالتالي لم يتبقّ لهؤلاء الشباب من إمكانيات سوى البقاء في القطاع.

وقد لخص ديان العلاقة ما بين الهدف الديموغرافي والمشاكل الأمنية للسلطات في القطاع بالقول:

إذا نجح الأمر [...] فسيغادر 5000-6000 من هؤلاء الشباب على أمل ألا نراهم ثانية يعودون. إذا كنا نضع خططًا للهجرة، فهذه هي الهجرة الأهم، لأن هذا هو الجمهور الأكثر إثارة للشغب. كما قلت، أنا أؤيد الأمر لهذا السبب، من أجل التخلص منهم، لأن قطاع غزة هو مكان يجب إخراج الناس منه. (42)

تركزت جهود تشجيع الهجرة من القطاع حتى ذلك الحين، على دفع الناس - أفرادًا أو عائلات بأكملها - إلى مغادرته بسبب اليأس الاقتصادي. واقتراح ديان جمع بين المصلحة الأمنية الإسرائيلية وبين طموحات خريجي المدارس للخروج مؤقتًا للدراسات العليا من أجل اكتساب مهنة، وعلى الرغم من أن عددًا من الوزراء كانت لديهم تحفظات على الاقتراح، فقد تمت المصادقة عليه بأغلبية الأصوات (43). وهكذا بدأت سياسة تشجيع الهجرة توجّه جهودها نحو هجرة العمل والتعليم المؤقت للشباب المتعلم، سواء أكانوا لاجئين أو مقيمين. (44)

فهمت القيادة الإسرائيلية في تلك الفترة أن سياسة الحضيض الاقتصادي ونسب البطالة العالية قد أنتجت على مدى زمني متواصل خطرًا أمنيًّا على قوات الجيش الإسرائيلي!

بعد حوالي عام على ذلك، في 1970، وبوساطة منظمة اليونسكو، ولأول مرة منذ الاحتلال الإسرائيلي، أجريت امتحانات البكالوريا المصرية في قطاع غزة. وقد نجح 3000 طالب في الامتحانات، واندمج 1200 منهم في الجامعات المصرية في العام نفسه. (45) وحتى عام 1978، غادر كل عام حوالي 1500 من خريجي المدارس الثانوية قطاع غزة للدراسة في مصر. في عام 1978، قرر الرئيس المصري أنور السادات وقف هذا الإجراء بعد اندلاع مظاهرات واسعة النطاق في قطاع غزة ضد خططه للسلام مع إسرائيل وضد فكرة الحكم الذاتي. (46)

ومثلما رأينا سابقًا، تم منذ حزيران/ يونيو 1967 ذِكر أميركا الجنوبية مرارًا وتكرارًا كهدف "وراء البحار" يمكن تشجيع هجرة اللاجئين إليه من قطاع غزة. في شباط/ فبراير 1968، طُلب من عادا سيريني أن تجد دولة توافق على قبول اللاجئين، غير أنه من خلال الوثائق الموجودة، من المستحيل تحديد ما إذا كانت قد عملت بالفعل على هذا الأمر. ولكن جهاز الموساد عمل في ذلك، وفي أيار/ مايو 1969 أثمرت جهوده: فقد تمكن ممثل الموساد في أميركا الجنوبية من التوصل إلى اتفاق مع ممثل حكومة باراغواي لاستيعاب ستين ألف لاجئ فلسطيني في بلاده. وقدم رئيس الموساد، تسفي زامير، تفاصيل الصفقة إلى لجنة الوزراء لـ "شؤون المناطق" أواخر أيار/ مايو 1969. وبحسب زامير، وافقت حكومة باراغواي على منح ستين ألف تأشيرة عمل للاجئين من قطاع غزة لمدة أربع سنوات؛ وسمحت تأشيرة العمل هذه لمواطنيها بدخول باراغواي بشكل قانوني والعمل هناك وفي دول أخرى في أميركا الجنوبية، بما في ذلك البرازيل والأرجنتين وأوروغواي. من كان بحوزته تأشيرة دخول إلى باراغواي وعمل هناك لمدة خمس سنوات يحق لهم الحصول على الجنسية منها أيضًا. كان توقيع الاتفاقية مشروطًا من قبل حكومة باراغواي بشروط عدة: تتحمل إسرائيل جميع نفقات سفر المهاجرين (قدرها زامير بحوالي 600 دولار للشخص الواحد)؛ تهتم إسرائيل بأن يحمل كل مهاجر ما لا يقل عن مئة دولار للنفقات الأولية؛ تدفع إسرائيل لحكومة باراغواي 33 دولارًا للشخص الواحد؛ تدفع إسرائيل مقدّمًا مبلغًا قدره 330 ألف دولار مقابل أول عشرة آلاف مهاجر؛ وتضمن إسرائيل أن المهاجرين ليسوا شيوعيين (47). وقد وافق جميع أعضاء اللجنة على الاتفاقية بجميع بنودها فور انتهاء رئيس الموساد من عرضها أمامهم.

عندما أعيد فتح معبر رفح بين غزة ومصر بعد إغلاقه لمدة عشر سنوات تقريبًا، سارع 35 ألف شاب إلى مغادرة القطاع


ولكن سرعان ما سادت خيبة الأمل من التوقعات العديدة من الخطة. ففي عام 1970، وصل إلى باراغواي شابان يبلغان من العمر عشرين عامًا من قطاع غزة. عندما لم يتمكنا من العثور على عمل دائم لمدة شهر، وعندما تبدّدت آمالهما في الحصول على مساعدات إسرائيلية إضافية لاستيعابهما، لجآ إلى العنف. في 4 أيار/ مايو، دخلا إلى السفارة الإسرائيلية في أسونسيون، عاصمة باراغواي، وبحوزتهما مسدسان. ويبدو أن نيتهما ​​الأصلية كانت ابتزاز مساعدة إضافية من السفير أو قتله انتقاما لتضليله. تعقدت عمليتهما، وفي النهاية أطلقا النار وقتلا سكرتيرة السفيرة، عدنا بئير، لأنهما اشتبها في أنها كانت تحاول استدعاء الشرطة. ادعى الاثنان في المحكمة أن إسرائيل أغرتهما بواسطة وعود كاذبة للسفر إلى باراغواي وتخلت عنهما هناك بعد وصولهما، لكن قلة فقط صدقتهما. أدى هذا الفشل الذريع والمأساوي إلى توقف الخطة السرية لنقل اللاجئين من قطاع غزة إلى باراغواي، وكان عدد الفلسطينيين الذين هاجروا إلى هناك فعليًا بين حزيران/ يونيو 1969 وأيار/ مايو 1970 قد بلغ بضع عشرات على الأكثر (48). ويستنتج من هذا الأمر أنه حتى قبل تم دفن الخطة نهائيًا بعد القتل المأساوي، اتضح أنها فاشلة.

في آب/ أغسطس 1969، وفي اجتماع للجنة الوزراء لـ "شؤون المناطق"، أعلنت رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مئير، التي ورثت المنصب عن الراحل ليفي أشكول، أنه لن يكون من الممكن حل مشكلة اللاجئين في قطاع غزة بواسطة سياسة تشجيع الهجرة. وقالت إن الحكومة التي تقودها ستواصل اتخاذ الإجراءات لتشجيع الهجرة من القطاع، لكن من يعتقدون أن اللاجئين "سيبدأون برزم أمتعتهم على الفور والمغادرة في قافلة، إنما يعيشون في أوهام" .(49)

طمحت الحكومة الإسرائيلية إلى نقل الفلسطينيين شرقًا إلى الأردن، وغربًا إلى مصر، وعبر البحر إلى أميركا الجنوبية

لوحة تحكّم الاحتلال

حين بدأ الاحتلال الإسرائيلي (1967)، نظرت القيادة في إسرائيل إلى أراضي قطاع غزة على أنها منطقة إسرائيلية بكل معنى الكلمة، ونظرت إلى الفلسطينيين الذين يعيشون هناك كأناس يمكن التخلص منهم. لغرض مواجهة التوتر بين الشعور بالانتماء لأرض القطاع وبين الاغتراب عن سكانه، طمحت الحكومة الإسرائيلية إلى نقل الفلسطينيين شرقًا إلى الأردن، وغربًا إلى مصر، وعبر البحر إلى أميركا الجنوبية. لا توجد مجموعة اجتماعية تتسبب للقيادة الإسرائيلية بالذعر أكثر من اللاجئين، الذين عاشوا حتى عام 1948 على الأراضي التي أصبحت جزءًا من دولة إسرائيل. منذ إقامة الدولة، ألقى اللاجئون ظلالًا على شرعية إسرائيل وعلى أغلبيتها اليهودية الراسخة. فشلت المحاولات الإسرائيلية لتغييب اللاجئين من قطاع غزة، بل إنها أدت إلى نتائج غير متوقعة مثل تقوية حركة فتح في الأردن. بعد حوالي عام ونصف عام من الاحتلال، لم تتعامل القيادة الإسرائيلية مع سؤال كيفية نقل الفلسطينيين فقط، وإنما مع سؤال كيفية السيطرة عليهم بشكل أكثر فاعلية. ومن هذه النقطة، تم دمج سياسة تشجيع الهجرة مع اعتبارات قوات الأمن وبدأت في التركيز على الشباب "المثير للقلاقل". فبنظر الحكومة الإسرائيلية، بدأ هؤلاء الشباب يأخذون مكان اللاجئين في دور العنصر المقلق الذي من الأفضل التخلص منه.

كانت الوسيلة التي استخدمتها الحكومة وقوى الأمن لتحقيق هذا الهدف الديموغرافي أو ذاك هي التلاعب بحياة السكان، لا سيما في المجال الاقتصادي. رأى عدد من الوزراء والضباط وكبار المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم كمهندسين اجتماعيين يمكنهم تشكيل المجتمع الخاضع لسيطرتهم وفقًا لإرادتهم. يمكن لمن يقرأ بروتوكولات محادثاتهم أن يتخيل عامل تقنيّات خلف لوحة تحكّم: أحيانًا يضغط على زر يرفع مستوى البطالة وأحيانًا على زر يخفضها، وفقًا لاعتبارات منظوماتية مجهولة، يكاد لا يكون هناك رابط بينها وبين رغبات واحتياجات السكان الفلسطينيين. كان عدد السكان قليلًا جدًا. سرعان ما اكتشف الإسرائيليون أن طموحهم الإقليمي لا يتماشى مع طموحهم الديموغرافي، وبالتالي فإن تحقيق أيّ من هذه الطموحات بالكامل أمرٌ مستحيل. فالظروف الاقتصادية السيئة كان يمكن أن تؤدي إلى زيادة الهجرة الفلسطينية، لكنها شجعت أيضًا الاضطرابات السياسية وأدت للعمل على تقويض الحكم الإسرائيلي؛ أما تحسين الوضع الاقتصادي فقد جلب "الهدوء" لقوات الأمن لكنه أسقط الدافع الرئيسي للهجرة. وبذا ولدت سياسة تشجيع الهجرة الانتقائية التي هدفت إلى رحيل الشباب المتعلم، وكحلّ وسط وضعت احتياجات استقرار نظام الاحتلال فوق كل اعتبار آخر.

ليس من المعروف ما الذي سيُطبّق من نوايا الوزيرة (السابقة) أييليت شاكيد في عام 2019 لتشجيع الهجرة 


السياسة الإسرائيلية لتشجيع الهجرة التي أوردتُها هنا هي مثال على الطموح الإسرائيلي لإحداث تغيير ديموغرافي جوهري في قطاع غزة. على الرغم من فشل هذه السياسة، إلا أنها حرّكت اتجاهًا ديموغرافيًا طويل المدى. وفقًا للمكتب المركزي للإحصاء، في الأعوام 1968-1987، غادر القطاع 94.200 مواطن، أي ما نسبته 23.5 بالمئة من سكان القطاع المسجلين في عام 1967. غادر حوالي ثلثهم- أي 32.300 نسمة- عام 1968. متوسط ​​العدد السنوي للمهاجرين من القطاع في الأعوام 1969- 1987 بلغ 3257 شخصًا، معظمهم من الشباب والمتعلمين.

مع اتخاذ الحكومة قرار السماح لسكان غزة بالعمل في إسرائيل لغرض تهدئة المقاومة، ارتفع عدد العمال في إسرائيل من ستة آلاف عام 1970 إلى 28 ألفًا عام 1975 وإلى 36 ألفًا عام 1980. (50) بالنسبة لكثير من الفلسطينيين، كان العمل الجسدي في الزراعة والصناعة الإسرائيلية تجربة مذلة. ومع ذلك، فإنهم تقاضوا في إسرائيل راتبًا أعلى بكثير مما يمكنهم أن يكسبوه في القطاع، وبالتالي يمكنهم تحسين مستوى معيشتهم بدرجة كبيرة. مثلًا، قفزت نسبة الأسر في قطاع غزة التي تمتلك ثلاجة بين عامي 1972 و1981 من 5.7 إلى 66.2 بالمئة، وارتفعت نسبة الأسر التي تمتلك جهاز تلفزيون في تلك السنوات من 7.5 إلى 70.3 بالمئة (51). وبدأ كثير من الفلسطينيين يرون في تحسين مستوى المعيشة كشكل من أشكال المقاومة السياسية - التمسك بالأرض والصمود أمام المصاعب، كما يُقال باللغة العربية. (52) ولقد سمح لهم تحسّن الوضع الاقتصادي بمواصلة العيش في بلدهم وعدم الهجرة. يمكن لفكرة الصمود أن تشكّل صورة مرآة لوجهة النظر الإسرائيلية القائلة إنه يمكن فصل الفلسطينيين عن وطنهم بسهولة من خلال هندسة اقتصاد شاملة.

عام 2021، من أجل إحداث استقرار للوضع الأمني ​​غير المستقر، بدأت الحكومة الإسرائيلية - مثل سابقتها قبل خمسة عقود - في تغيير الاتجاه والسماح لعدد صغير من المعطلين عن العمل من القطاع بالعمل في إسرائيل

يبدو أن القيادة الإسرائيلية لا تزال تبحث اليوم أيضًا عن أفضل سياسة لتحقيق طموحاتها فيما يتعلق بقطاع غزة. فعلى الرغم من اندلاع انتفاضتين، وعملية سلام، وعملية فك ارتباط، وجولات قتال وحشية، ما زال بعض صنّاع القرار في إسرائيل متمسكين بفكرة تشجيع الهجرة من غزة. وإن التشاؤم السائد في إسرائيل بشأن احتمالات التسوية السياسية وظهور خطاب "تقليص الصراع" قد يفتحان بابًا أوسع على اعتماد "حلول" من نوع تشجيع الهجرة.

ويبدو أن الأفكار الجنونية لدى القيادة الإسرائيلية لتشجيع الهجرة في هذه الأيام تعود إلى الأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية الخطيرة التي يعيشها القطاع، خصوصًا منذ عام 2007، الذي استولت فيه حركة حماس على السلطة وتم فرض الحصار الإسرائيلي. فتقرير البنك الدولي لعام 2018 يجزم بأن اقتصاد قطاع غزة هو في حالة سقوط حرّ. وبلغ معدل البطالة، بموجب التقرير، 70 بالمئة بالفعل (53). ووجد مسح أجري بين الشباب في قطاع غزة أن 37 بالمئة منهم كانوا معنيين في عام 2017 بالمغادرة بشكل دائم (54). ليس من المفاجئ أنه في عام 2017، عندما أعيد فتح معبر رفح بين غزة ومصر بعد إغلاقه لمدة عشر سنوات تقريبًا، سارع 35 ألف شاب إلى مغادرة القطاع، ومعظمهم من أصحاب التحصيل العلمي والمهني. (55)

ليس من المعروف ما الذي سيُطبّق من نوايا الوزيرة (السابقة) أييليت شاكيد في عام 2019 لتشجيع الهجرة. يُظهر البحث أن من عملوا بمسألة هذه السياسة فهموا بجدية أنه من الأفضل عدم الحديث عنها علنًا. (56) وربما لهذا السبب توقفت شاكيد أيضًا عن الحديث عنها منذ ذلك الحين. ومن الممكن أيضًا أن هناك محاولات جرت مؤخرًا لإقناع الفلسطينيين بالهجرة إلى دول بعيدة، مثل محاولة نقل الفلسطينيين إلى باراغواي. ولكن في عام 2021، من أجل إحداث استقرار للوضع الأمني ​​غير المستقر، بدأت الحكومة الإسرائيلية - مثل سابقتها قبل خمسة عقود - في تغيير الاتجاه والسماح لعدد صغير من المعطلين عن العمل من القطاع، بالعمل في إسرائيل. ليس واضحًا ما إذا كان هذا الاتجاه سيتعزّز أم سيذوي، لا سيما في ضوء مواقف الشخصيات الرئيسية في الحكومة اليمينية الجديدة؛ (57) بتسلئيل سموتريتش، على سبيل المثال، وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع، يؤيد علنًا سياسة تشجيع الهجرة العربية. (58) ولكن الأمر المؤكد هو أنه منذ عام 1967 وحتى اليوم، ما زالت إسرائيل تبحث عن المعادلة التي ستنجح في تحقيق التوازن بين مجمل الاعتبارات الأمنية والإقليمية والديموغرافية في غزة.

(انتهى)

 

هوامش:

 [38] Daniel Dishon (ed.), Middle East Record, 1969–1970 (vol. 5), Tel Aviv: The Reuven Shiloah Research Center, 1970

[39] لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، 13.2.1969، أرشيف الدولة.

[40] المصدر نفسه.

[41] جلسة حكومة، 9.2.1969، أرشيف الدولة.

[42] لجنة الوزراء لـ "شؤون المناطق"، 24.4.1969، أرشيف الدولة، أ-7354/3.

[43] المصدر نفسه.

[44] المصدر نفسه.

[45] مناحيم رهط، " بعثة بحثت في القاهرة قبول طلاب لكليّات"، معاريف، 26.1.1971; عزرا ينوف، "الطلاب الذين يخرجون للدراسة في الخارج يشكلون جزءا من التطبيع في القطاع"، معاريف، 10.8.1971.

[46] Ann M. Lesch, “Gaza: Forgotten Corner of Palestine,” Journal of Palestine Studies 15(1), 1985, pp. 43–61

[47] لجنة الوزراء لـ "شؤون المناطق"، 29.5.1969، أرشيف الدولة، أ-7354/4.

[48] ميلمان ولوري (هامش 4 سابقًا)؛ ساره ليبوفيتش- در، "التهجير إلى الجنة"، معاريف، 13.8.2004;John Tofik Karam, “On the Trail and Trial of a Palestinian Diaspora,” Journal of Latin American Studies 45(4), 2013, pp. 751–777.

[49] لجنة الوزراء لـ"شؤون المناطق"، 7.8.1969، أرشيف الدولة، أ-7354/4.

[50] Sara M. Roy, The Gaza Strip: A Demographic, Economic, Social and Legal Survey, Jerusalem: Jerusalem Post, 1986

 [51] Raphael Meron, Economic Development in Judea-Samaria and the Gaza District: Economic Growth and Structural Change, 1970–80, Jerusalem: Bank of Israel, 1983

 [52] Sara Roy, The Gaza Strip: The Political Economy of De-Development, Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1995

 [53] World Bank, “Economic Monitoring Report to the Ad Hoc Liaison Committee,” September 27, 2018

[54] Interpeace and Mustakbalna, “Palestinian Youth Challenges and Aspirations: A Study on Youth, Peace and Security Based on UN Resolution 2250,” 2017

[55] ينيف كوبوفيتش، "35 ألف فلسطيني غادروا غزة عام 2018؛ حماس يمنع الأطباء من الخروج"، هآرتس، 19.5.2019.

[56] Omri Shafer Raviv, “Studying and Occupied Society: Social Research, Modernization Theory, and the Early Israeli Occupation, 1967–8”, Journal of Contemporary History 55(1), 2020, p. 178

[57] أوهاد حيمو، "إسرائيل سمحت بدخول آلاف العمال: هكذا تبدو الترتيبات الهادئة أمام غزة"، N12, 19.2.2020.

[58] نداف شرغاي، "تشجيع الهجرة بمساعدة تعويض مالي سيبتر الأمل بدولة فلسطينية"، يسرائيل هيوم، 6.9.2017.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.