}

مسلسلات رمضان 2023: هل الدراما العربية في طريقٍ مسدود؟

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 29 أبريل 2023
هنا/الآن مسلسلات رمضان 2023: هل الدراما العربية في طريقٍ مسدود؟
عابد فهد في شخصية جمال باشا في "سفربرلك"
هل وصلت الدراما العربية إلى طريقٍ مسْدود؟ سؤال يطلّ بِرأسه، منذ أعوام، بعد كل موسمٍ دراميٍّ رمضانيّ.
ولكن، ما مدى مشروعية سؤال بكلّ هذا النسف لِجهدِ الآخرين وَتَعَب كتاباتِهم وإنتاجاتِهم وإخراجِهم وتمثيلِهم، وما بين كلّ ذلك من مونتاجٍ وموسيقى وَديكور وَملابس وَخدمات وفنيّات وَعمليات وقائمةٍ تَطول؟
على أنَّ السؤالَ ليس كلَّهُ من دون معنى، ولا بِداعي التّحطيبِ الكئيبِ الدّافع نحوَ أبوابِ اليأْس.
تبدأُ المسألةُ بِالنسبة لِلمتابعين؛ المختصّين منهم وَالمشاهدين العاديين على حدٍّ سواء، من هاجسِ المُقارنة بين قديم الدّراما العربية وجديدِها. من تلمّسهم حجمَ التِّكرار في بعض الأعمال، ومدى إِتيان بعضِها الآخر بِجديد. من صدمتِهم لِرَّكاكة بعض الأعمال، مُقابل الإِجادة المدفوعةِ الأجْر لِتمرير أجنداتٍ بعينِها في أعمالَ أُخرى. من الضياعِ في قائمةِ مسلسلاتٍ لها أوّل وليس لها آخِر (بلغ مجموع الأعمال العربية التي قُدِّمت خلال رمضان هذا العام 2023، زهاء 151 عملًا، منها المسلسلات التي تتسلسلُ أحداثُها على مدار 30، أو 15 حلقة، أو 20، أو 10 حلقات، وَمِنها السّهرات المتّصلة المُنفصلة، التي تنتهي مقولاتُها بانتهاءِ حلقاتِها اليومية).
زمان، قبلَ الأقمار و(الستالايت)، والإنترنت، و(سيرفرات التهْكير)، ومنصّات العرض، كانت الأُسر العربية جميعُها، تقريبًا، تلتفّ حوْل مسلسلٍ واحدٍ (سوريٍّ، أو مصريٍّ، أو تاريخيٍّ مشترك، أو بدويّ) يشاهدُهُ الناس من الخليجِ الثائرِ إلى المحيط الهادرِ. وكانت حلقات المسلسل 13 حلقة فقط، تُعرض الحلقةُ منهُ مرّة كلّ أسبوع، وَيجري تبنّي موسمٍ برامجيٍّ دراميٍّ جديدٍ كلّ ثلاثةِ أشهر. وَلم تكُن تحظى بِثلاثين حلقةً إلا الأعمال الدراميّة التاريخيّة، أو السيريّة، الكُبرى.
لا يعني كلامي أن في هذه المُعطيات الخيرَ كلّه، ولا يعني، في المقابل، أن التطوّر الذي تحقّق حَمَلَ الخيرَ كلّه. على أن الحاجةَ إلى شكلٍ من أشكالِ توحيدِ الإنتاج الدراميّ العربيّ باتت، بِصدق، ملحّة. تحضرُ في هذا السياق شركاتُ إنتاجٍ عربيّ كانت واعِدةً قبلَ أن يطويها النسيان.

خليجٌ لا يهدأ
في التفاصيل، حافظ الإنتاج الدراميّ الخليجيّ على زخمهِ الذي كشف عن نفسه منذ زُهاء عشريةٍ ماضية، وواصلت دول الخليج التّسابقَ على تقديمِ مسلسلاتٍ تحمل الطابع السعوديّ، أو الكويتيّ، أو البحرينيّ، أو القطريّ ("قالوا الأولين" على سبيل المثال، الذي تدورُ أحداثه في قالبٍ تراثيٍّ كوميديّ، مُستعرضًا أبرز الأمثال الشعبية التي تداولها أهل قطر عبر الأزمنة). ومع هذا الإنتاج القطريّ يصل عدد المسلسلات الخليجية التي عُرضت في رمضان 2023، إلى زهاء 16 عملًا، منها الذي يمثّل أجزاء جديدة من أعمالٍ عُرِضت في مواسم رمضانية سابقة، مثل الجزء الثاني من "سكّة سفر"، والجزء 19 من "طاش ما طاش" رائعة الإنتاج السعودي للمخضرميْن ناصر القصبي، وعبدالله السدحان، ومعهما، كالعادة، يوسف الجرّاح، من دون إنكار أن العمل الذي حقّق نجاحات لافتة قدّم لنا وجوهًا نسائية سعودية مبدعة في حقل التمثيل، خصوصًا الكوميديّ منه الأصعب، مثل الممثلتيْن السعوديّتيْن إلهام علي، وسناء بكر يونس، والممثلة اليمنية ريماس منصور. وبلا شك فرض الممثل السعوديّ راشد الشمرانيّ نفسه بقوة في الموسم الجديد، الذي استفاد، بشكلٍ واضح، من الانفتاح الثقافيّ والاجتماعيّ الذي تحياه السعودية.

دُفعات المَشاري
لِلموسم الثالث على التوالي، تواصل الكاتبة الكويتية هبة مشاري حمادة سلسلة الدُّفعات التي بدأتها بـ "دُفعة القاهرة" (2019)، أتبعته بـ "دُفعة بيروت" (2020)، وصولًا، هذا العام، إلى "دُفعة لندن". والمقصود بالدُّفعة هنا، الإشارة إلى دُفعةٍ طُلابية من الطلبة الكويتيين الذين كانت تبتعثهنّ/ تبتعثهم الحكومة الكويتية لإكمال دراستهنّ/ دراستهم الجامعية في القاهرة، أو بيروت، أو لندن.


رسائل الدُّفعات تباينت؛ من نَفَسٍ قوميٍّ باهر في "دُفعة القاهرة"، والإشارة إلى مشاركة طلبة كويتيين في حرب عام 1956، إلى جانب أشقائهم المصريين، إلى نَفَسٍ كوميديٍّ في "دُفعة بيروت"، إلى تشتُّت الوِجهات في "دفعة لندن"، رُغم البداية الفاقعة في الحلقة الأولى من المسلسل الذي أخرجه محمد بكير، مع اقتحام الأميرة الراحلة ديانا لِشقة الطلاب الكويتيين هاربةً من إزعاج المصوّرين والصحافيين. يؤخذ على الدُّفعة الجديدةِ حشدَها مواضيعَ كثيرةٍ في عملٍ واحدٍ انتهى عنْدَ حلقتِه السابعةِ والعشرين؛ ثورة الخميني وما نتج عنها من هروب بعض أزْلام النظام الذي أطاحت به الثورة إلى لندن، احتلال العراق للكويت، وَما نتجَ عنه من شرخٍ عميقٍ في علاقة الشعبيْن العراقي والكويتيّ بِبعضهما، الإرهاب العربي في لندن، وهي موضوعات كبرى، مفصلية، لا يَليق طرحها بشكلٍ استسهاليٍّ يتّكئ على ذكاء النص فقط، وشاعريّته في بعض الأحيان!

بيْن... بيْن
بما يمكن أن نرى فيه إنتاجًا عربيًّا مشتركًا يستعيد الأيامَ الخَوالي، جاء مسلسل "سفربرلك" بيْن... بيْن؛ لا هو بالخليجيّ/ السعوديّ الخالِص، ولا، في الوقت نفسه، العروبيّ المفتوح على جهات الأمة جميعها. وكما هي حال "وأخيرًا" الذي نجا من مأزق الثلاثين حلقة، فإن "سفربرلك" الذي شارك بتأليفه كتّابٌ من سورية والعراق ومصر وفلسطين، وأخرجه السوري الليث حجو، اكتفى بِعشرين حلقة، كل حلقة منه حملت عنوانًا فرعيًا، مع إصرار القائمين عليه أن ما عُرض في رمضان هذا العام هو الجزء الأول منه (فكيف جزء أول، في حين لم تصل حلقاته إلى ثلاثين حلقة؟).





على كل حال، جاءت العربية السعودية في المقدمة عند الحديث عن عدد الممثلين في العمل، منهم بطل المسلسل الممثل السعودي عبدالرحمن اليماني، الذي تُرِكَ له اسمه (عبدالرحمن) ليؤدي دور البطولة عبرَه. إلى جوار اليماني، أدت أربع ممثلات سعوديات، و11 ممثلًا سعوديًا، أدوار بطولة في العمل الذي رصد فترة التجنيد الإجباريّ للمشاركة في حروب السلطنة العثمانية، وهي ما عُرفت عربيًا بِاسم "سفربرلك". اللمسات الغنائية داخل أحداث المسلسل (التتر والمواويل) كانت للمغنّي السعودي إبراهيم الحكمي، والموسيقى التصويرية كانت للمؤلف الموسيقي التونسي أمين بوحافة.

سُبات الدراما الأردنية
تواصل الدراما الأردنية سُباتها الذي طال، مع مسلسل واحد "أكباد المهاجرة" المتكرّرة ثيماته، الغائبة عن الواقع مشهدياته. سباتٌ يشير إلى غياب التنافسية الإنتاجية، وإلى خشية المنتج الأردني من الأعمال المعاصرة، مع رهانهِ الأزليّ على الأعمال البدوية الواقفة مكانها: الخيل والخيمة، كما لو أنّ الزمنَ لم يستعِض عن الخيل بِالسيارة، وعن الخيمةِ بِالبيت الحجر!! وأسأل: هل هواجس ابن البادية الممتدة كفلاةٍ بِلا حدود، ومشاغل عيشِهِ وَأسئلة وجودِه، تقتصرُ على حُبِّ ابن عجلان لوضحة، أو منصور لِشمس؟ وهل اطّلع القائمون على العمل، تأليفًا وإنتاجًا وإخراجًا، على شكل البادية الأردنية المعاصرة، وَتشابكاتها، وتحوّلات ناسِها، قبل الشُّروع بِكتابة السّيناريو وَالحوار؟

في الانتظار
على كل حال، نحن في انتظار مسلسل "شارع طلال" علّه يأتي بجديد، وَيستعيد حركة درامية أردنية تكاد تلفظ أنفاسَها. يقال إن حلقات "شارع طلال"، من إنتاج مجموعة المركز العربي الإعلامية (طلال عواملة)، وتأليف الصديق مصطفى صالح (أبو فراس)، وإخراج السوري محمد زهير رجب، ومشاركة أزيَد من 200 ممثلةٍ وممثلٍ من بلدانٍ عربية عديدة، قد تصل إلى 90 حلقة. وحتى اللحظة، العمل في إطار القول عنه، والمكتوب حوله. في انتظاره هو شخصيًّا من مشاهد وَكوادر وَعوالم وصراعاتٍ وحواراتٍ وأداءٍ وتوثيقٍ وَمواقع تصوير وَاستنطاق نبْض أشهر شوارع العاصمة الأردنية عمّان على وجه الخصوص، والأردن على وجه العموم.

مأزق الثلاثين حلقة
وقعت كثيرٌ من أعمال رمضان هذا العام بمأزق الثلاثين حلقة. أقول كثيرًا، لأن بعض الأعمال وجدت لها ما تقوله على امتداد الحلقات، من دون إطالة مفضوحة، ولا تكرارٍ واهِن. في هذا السياق، نجا المسلسل السوريّ اللبنانيّ "وأخيرًا" من هذا المأزق/ المَطب، واقتنعَ أنْ يعرض مقولتَه على امتدادِ 15 حلقةً فقط، وهو ما منحهُ جمهورًا إضافيًّا، وَجعله، بشكلٍ، أو بِآخر، مقنعًا أكثر من أعمال كثيرةٍ أخرى.

"النّار بالنّار"
سوريًّا، وسوريًّا لبنانيًّا، لم يقتصرْ الأمر عندَ "وأخيرًا"، ففي قائمةِ أعمال رمضان هذا العام مسلسلات مهمّة، مثل "النّار بِالنّار"، و"للموت 3"، إنْ اعتبرناه، مجازًا، عملًا سوريًّا/ لبنانيًّا مشتركًا، كونه، إلى حد بعيد، لبنانيًا، باستثناء مشاركةٍ تمثيليةٍ محدودةٍ من السوريين:  يامن حجلي، ومهيار خضور، وفايز قزق، وعلي سكّر، وسحر فوزي، وَمشاركة الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان، وَالممثل التونسي بلال التونسي، علمًا أن التأليف والإخراج والإنتاج لبنانيٌّ بامتياز، وكذلك الموسيقى والغناء، وروح العمل وآفاقه ومواضيعه.


التكرار والشطّار
لم ينسَ صنّاع الدراما السوريون حبّة بركة عمل شامي، أو تدور أحداثه في أجواء غير معاصرة تمامًا (الجزء الثالث من "حارة القبة"، "زقاق الجن" و"مال القبان" الذي خرج فجأة من السباق الرمضانيّ، و"العربجيّ")، وآخر من حبّات بركاتِ السّماح لهم تناولَ بعضَ وجوهِ الفساد و(التطاول) عليه ("مقابلة مع السيد آدم" نموذجًا). ولا نعرف لماذا نُحّيَ "دوار شمالي" في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق موسم رمضان لِهذا العام.
التكرار المُمل مسّ كثيرًا من الأعمال السورية هذا العام في مقتل (لن أتطرّق، وَلا بأيّ شكل، للجزء 13 من "باب الحارة"، فمن العيب، في رأيي، الإصرار عليه، أو الحديث عنه)، فأين شطّار الدراما السورية الذين تحوّلوا إلى مدرسةٍ في العشرين عامًا الماضية، لينبّهوا عشّاق التكرار إلى مطبّات ذلك، وما يأكله مِن رصيد كلِّ مَن صنع رصيدًا خلال ربيع الدراما السورية؟

دراما عراقية صاعدة
شهدت السوق الدراميّة الرمضانيّة عودة واعدةً للأعمال العراقية، سواء العراقية الخالصة تمثيلًا وإخراجًا وإنتاجًا ("اقتحام" نموذجًا)، أو تلك المشتركة ("ليلة السقوط" عراقيّ الإنتاج نموذجًا).
أكثر من عشرة مسلسلات عراقية عرضتها فضائيات محلية وعربية، شكّل هاجس الإرهاب قاسمًا مشتركًا عندَ نصفها تقريبًا، وابتعدت عن هذا الهاجس أعمال مهمة مثل: المسلسل الكوميديّ المتّصل المنفصل "محتوى خابط"، تأليف قاسم محمد، وإخراج سامر حكمت، و"غيد" الاجتماعيّ، تأليف علي فاضل وإخراجه، و"انتقام روح" الرومانسيّ، تأليف أحمد عبدالفتاح عثمان، وإخراج إبراهيم فخر.




ولا ننسى أن مسلسل "بغداد الجديدة"، من تأليف مصطفى كاظم، وإخراج مهند حيّال، المحتوي على قدرٍ من العنف، الراصد أركان الفساد في العاصمة العراقية، وما حولها، يشكّلُ طرقًا شجاعًا على باب معاينة أحوال بلاد عانت ما عانت مما ألمّ بها من احتلال واختلال خلال العشرين عامًا الماضية. وفي العمل أكّد باسم قهّار أن المُجيدَ فوق خشبة المسرح مجيدٌ فوقَ كلِّ منصّة أخرى؛ أتلفزيونية كانت، أم سينمائية، وأن في إمكان المخرج الجيّد، أن يكون، إلى ذلك، ممثلًا جيدًا.


مُتلازمةُ الإِخوان
شهدت أعمال هذا العام خفوتًا في الموجة المسعورة في الأعوام الماضية من مهاجمة جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، والإسلام السياسيّ على وجه العموم. وإن كانت الأعمال التي تذهب وجهتها نحو إدانة مشروع "داعش" في بلادنا مشروعة، ومطلوبة، إن أحسنت التناول، وخاضت في الأسباب العميقة لأي تطرّف جاء نتيجة القمع والطغيان وحكم النار والحديد، فإن الخلط بينهم وبين جماعة لها تاريخها الذي قد نختلف عليه، ومنجزها الذي قد نختلف حوله، هو مما يكشف وَهَنَ الورق المكتوب، ويشير بإصبع الاتهام لِلدافعيّة المأْجورة الموْتورة.
وباستثناء مسلسل "سرّه الباتع"، سيناريو وحوار وإخراج خالد يوسف، العائد إلى حضن الولاء بعد حردٍ غير بريء على ما يبدو. وعلى ما كشفه العمل بشكل مؤسف في كثير من الأحيان، فإن الأعمال المصرية الدرامية ابتعدت، هذا العام، عن دوامةِ مهاجمة الإخوان.

سرّ الرجوع
كأني بالصديق خالد يوسف يقول ما أحلى الرجوع إليه، وهو الذي كان حاضرًا (تمامًا) في مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، وربما مخرجًا لِبعض تلفيقاتِها الفاقِعة، فَبعد أن نظنَّ (وإنّ بعض الظنِّ إثْم) أن العمل سَيتسلسل معْنا في كيفيةِ إطاحةِ المصري العتيد بالاحتلال الفرنسيّ لمصر، وجعلِه احتلالًا قصيرًا مهزومًا، عبْرَ وليٍّ من أولياء الله الصالحين، استقرّ الوجدان الشعبي المصريّ على مناداتِه بِالسلطان حامد، وإذا بالمسلسل، وبشكلٍ إقحاميٍّ لَوَى عُنْقَ كلِّ شيء، يريد أن يُبْلِعَنا فكرة أنّ وصول الإخوان إلى سدّة الحكم في مصر عبرَ صندوق الاقتراع هو احتلال آخر لا يقل ضراوة عن الاحتلال الفرنسيّ، لا بل إن الاحتلال الثاني المعاصر أبشع وأخس، حين يظهره يتعاون ليتمكّن، مع لصوص آثار مصرية، ومع بائعات هوى، ومجرمين خطرين. على مستويين، تحرّك العمل؛ مستوى في الماضي، يقارع حامد (أحمد فهمي) خلاله الاحتلال الفرنسي المدجّج بِالمدافع وَالأسلحة التي لم يكن الفلاح المصري يعرف عنها شيئًا. وهو مسْتوى مقبولٌ فنيًا وأخلاقيًا ودراميًا، وَمستوى معاصر يُسْقِطُ فيه خالد يوسف كلَّ حقدِه على الإخوان في مشاهد أرشيفية وصور حقيقية، ولا يتوانى عن الإساءة إلى رئيسٍ قضى ومضى ورحل إلى دار الحق، حيث يجتمع الخصوم، ورحل معه ابنه، من دون أن يرف له جَفْن!!
النتيجة التي يخرج بها خالد يوسف أن (الاحتلال الإخوانيّ) أخطر، لأنه سعى إلى تغيير الهوية المصرية، في حين لم يسعَ الاحتلال الفرنسي نحو هذا الفعل الخطير! فإذا بنا نخرج من إطار الدراما منحدِرين، مع الأسف الشديد، نحو المنشور السياسيّ الفاقِعِ الفاقِدِ لِلعمق والبَحث والنَّزاهة.
مكانةُ خالد يوسف داخل مصر وعلاقاته الواسعة مكّنته من حشد بعض الأسماء، فجاءت مشاركة الشاعر الشعبي والشعبويّ هشام الجخ في الجزء التاريخيّ من العمل لافتة، ورغم أنها مشاركة رمزية، كونه استشهد على يد الجنود الفرنسيين في الحلقات الأولى من العمل، مع قليلٍ من مشاهد استعادته (فلاش باك)، إلا أنها منحت المسلسل وفكرته بعض المشروعية، لِما يحظى به الجُخ من شعبية ليست فقط مصرية، ولكن عربية أيضًا، خصوصًا بين أوساط الشباب العربي. جاء لافتًا، أيضًا، تقديم الفنان محمد منير أغنية الشارة، التي ظلّ يوسف يكرّرها (على الطالعة والنازلة) داخل المشاهد التاريخيّة وَالمعاصرة.

زِنْدُ العاصي
على طريقته، يتصدى الممثل السوري تَيْم حسن لدوره في مسلسل "الزِّند... ذِئْبُ العاصي". وعلى طريقتهم، يتبنّى آل الصبّاح هذه الإنتاجية الضخمة ليوصلوا ما يريدونه من رسائل. وعلى منواله، يواصل سامر برقاوي الإجادةَ في حقل الإخراج، وهو الحقل الذي أظهر كثيرٌ من مخرجي هذا العام ضعفًا مزعجًا فيه (فادي سليم في الجزء الثاني من مسلسل "مقابلة مع السيد آدم" نموذجًا).


عمل ضخم، مواقع تصوير أخّاذة، محاكاة حاولت، ما استطاعت، الدقّة والإِجادة؛ الدقّة في اللهجات، والجغرافيات، والعِمارة، والطّبيعة، وَالأسواق، وَالوقائع.
مرحلة حسّاسة ومعقّدة خاض فيها العمل، حينما كانت شمس السلطنة العثمانية في طريقها إلى الأُفول، وحينما كان القرن التاسع عشر يُسقط أوراق أعوامه الأخيرة بكلِّ ما لها وما عليها.
بطل "الهيبة" بِأجزائه الخمسة ظهر بِتخريجةٍ جديدةٍ في المُحتوى، متكرّرة في الشكل: البديهة الحاضرة، الذكاء الألمعيّ، القوّة البدنيّة الحاسمة في بعض المواقف، التعلّم من تجارب الحياة (وفي حالته، فإن انغماسَه في الجيش السلطاني 17 عامًا، جاب فيها معظم آفاق أوروبا الشرقية، ودول البلقان، والإمبراطورية الروسية، علّمه كثيرًا). وبغض النظر عمّا كتبه المعترضون على العمل، وبعض تلك الكتابات والمتابعات افتقرت للدقّة بسبب الاستعجال في الكتابة عن "الزند" (الزميل أنور محمد، على سبيل المثال، أورد في مقال له نشر في ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 2023، تحت عنوان: "عاصي الزند": "رامبو" الدراما السورية" أكثر من معلومة خاطئة، منها أن عفراء (نانسي خوري) شقيقة عاصي الزند ماتت من الحلقات الأولى بسبب سرطان الثدي، وفي الحقيقة أنها قُتلت في نهاية الحلقة 12، مُنْقِذَةً حياةَ شقيقِها عاصي الزِّند من طعنةٍ في الظهر غادرة؛ رأت النَّصل يتّجه نحو ظهر أخيها فاستدارت به وَاستجاب لها القدر، لأن شقيقها يحمل بُنْيَةً لا تقبل الاستدارة المِطواعة من يديّ امرأة)، ولكن زِّند نهر العاصي وحامي حماه، منذورٌ، على ما يبدو، لِحياةٍ أطوَل، وَمكابدات معها، وَمع باشاوات فاسدين، وضباطٍ مأجورين، وسفراء متحكّمين مزنّرين بالأجندات (سفير بريطانيا العظمى على سبيل المثال). معلومةً خاطئةً أُخرى وقع فيها من استعجل الكتابة عن المسلسل، أن العاصي تحوّل فيه إلى قاطعِ طريق، وهي معلومة غير دقيقة؛ مرَّ بتجربة قطعِ الطريق صحيح، ولكن على طريقِ تحوّله لاحقًا، وَحتى نهاية الحلقات، إلى شخصيةٍ عامّة مؤثّرة، ليست نقيّةً خيّرةً تمامًا، ولا شريرةً تمامًا، وَلطالما مَنَحت هكذا تناقضات، حيويّةً داخل روح الدراما، ومصداقيةً تقتربُ من تناقضاتِ البشرِ أنفسهِم خارجَ علبةِ التصوير وَأفكار المؤلّفين وَالمخرجين.
يكشف العمل (إن كان دقيقًا في تأريخيّته) أن مخطط تقسيم العالم العربي (خصوصًا بلاد الشام) سبق سقوط السلْطنة بِعشرين عامًا على أقلِّ تَقدير.
تحوّلَ المتمرّد العائدُ من حروب السلْطنة محمّلًا بِهاجس الثّأر ممّن قتل والده على مرأى عينيه وهو في سنّ المراهقة، إلى آغا جديد، بكل ما لِهذا المنصب من شروط، وما عليه من استحقاقات. وفي المشهد الأخير، قبل التقاط الصورة التذكارية التي جمعته مع زوجته الطبيبة نجاة (دانا مارديني)، وعمّته (نُهاد عاصي بعد طويل غياب)، وابن عمّته يونس (وسام رضا)، صاحب الصوت الموّاليّ الجميل، وابنيْ شقيقته الراحلة عفراء، يسأله المصوّر كم ثمن القصر الذي يقيم فيه الآغا المُسْتجِد، فإذا بِلسان حال العاصي يقول إن ثمنه مئات الضحايا من عموم الناس وفلّاحي الأرض ورِفاق السرّاء والضرّاء.
مشهد آخر في الحلقة الأخيرة أكثر إيلامًا وإثارة أسئلة هو المشهد الاسترجاعيّ الذي يتعلّق بأحداثٍ وقعت خلال أعوام الزند في العسكرية، حيث ظلّ العمل يقفل الباب على تفاصيلها مكتفيًا بحديث الزند عنها من دون مُرافقة مشهدية، أو بِالتقائه أحد رفاق تلك الفترة الزمنية الطويلة، وما يتبع ذلك من حرارة اللقاء، إلى أن قرّر المخرج أن يطلعنا على مشهد طويلٍ أليم، يكابدُ خلالَه عاصي من جراح خطيرة جرّاء إصابته، على ما يبدو، في إحدى المعارك، ويتعثّر فوق ثلج البلاد البعيدة بِآخر خطوات ما قبلَ لَفْظِ الأنفاس، عندما لمحه رفيقا السلاح خليل (طارق عبدو)، وصالح (مجد فضّة)، ولازماه إلى أن استعاد فرص بقائه على قيد الحياة، وَحملاه رغم تحذير الضابط العثمانيّ لهما أن الأعراف في حروبهم هي ترك الجريح الذي قد يعيق الحركة، وعندما لم يستجيبا لتحذيره رفع مسدسه بوجههما، وفي اللحظة التي همّ عندها إطلاق الرصاص، أفاق العاصي، ونجح الرفيقان في مسعاهما. هذان الاثنان كان عاصي قد صفّاهما خلال أحداث المسلسل بدعوى خيانته من وجهة نظره. من وجهة نظرهما أن العاصي انقلب على ما خرجوا من أجله: الانتصار لِحقوق الناس، التخلّص من استعباد الفلاحين وتحويلهم إلى (مَرَابعية) و(قَطاريز) فوق أرضهم، الوقوف بوجهِ تَفْقير الأهالي وَإغراقهم بِالديون، وحرْق مخزون محاصيلِهم، مواجهة الظلم والبطش والفساد.
المأخُذ الوحيد عليهما هو تحويلهما خلافهما معه إلى تعاونٍ مع خصومه وَخصوم أهلِهما وناسِهما وأحلامِهما، ما يُبقي تصفيةَ العاصي لهما محلَّ خلافٍ يَقبلُ تعدّدَ وجهاتِ النّظر.

(يتبع...).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.