}

نشيدُ الصمتِ في حضرةِ "حروبِ الصلاة"

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 8 أبريل 2023
هنا/الآن نشيدُ الصمتِ في حضرةِ "حروبِ الصلاة"
صلاة التراويح في باحة المسجد الأقصى في القدس (6/4/2023/الأناضول)

في كلِّ مرّةٍ أتابع خلالها مواجهات المرابطات والمرابطين داخل باحات المسجد الأقصى، يستميتون وهم يحاولون منع تدنيس حرمات مقدساتهم، يُصيبني ما يُشبه اليأسَ مِن لغة الكلام. ما الذي يمكن أن يقوله المرء فيلخّص بحروفِه حقيقة ما يجري؟ ما الذي يمكن أن تقدمه قصائد الشعراء من إضافة لتلك الملحمة اليومية المتواصلة من زهاء مئة عام (بدأ الصراع حول مقدسات القدس قبل، حتى، إعلان دولة الكيان، وهو ما تؤكده ثورة البراق في عام 1929)؟ ماذا في جعبةِ الرواية والرواة لِيَنْضاف إلى سرديّةِ أن نكون أو لا نكون هناك في أكْنافِ بيتِ المَقْدس؟
في مقدمة كتابه "عالم الصمت"، يقول الفيلسوف والكاتب اللاهوتي السويسري/ الألماني ماكس بيكارد (1888 ـ 1965): "الصمت ظاهرة مستقلّة، ولهذا فهو لا يتطابق مع تعطيل الكلام. إنه ليس مجرّد طرف سلبيٍّ يبدأ عندما يُزال الطرف الإيجابيّ؛ إنه على العكس كلٌّ مستقلٌّ، يقتاتُ على نفسه وخلالها. إنه خلّاق، مثلما هي اللغة خلّاقة". (ماكس بيكارد، "عالم الصمت"، دار التنوير، 2017، صفحة 23).



وها أنا أبحث، هنا، عن هذا المخزون الخلّاق داخل حدود الصمت، أو لعلني مفترضًا لا محدوديّته، أبحث عن آفاق الصمت وكاريزْمات التعبير داخل قوانينه واشتراطاته وأعماق أسراره. وهل للصمت المشتهى هنا نشيد؟ هل نملك ترف ما يقترحه علينا الشاعر الياباني زني كوشو: "اجلس بصمت، لا تفعل شيئًا، الربيع آت، والعشب ينمو..."؟


(حلّوا عن...)

في عرضه المونودراميّ الجديد "بأمّ عيني 1948"، تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا، ينقل الفنان الفلسطيني/ الأردني غنّام غنّام، رسالة أكّد عليه مُعمِّرٌ ناصريٌّ (من مدينة الناصرة) أن ينقلها على لسانه إلى كل الزعماء العرب: (اتعبتوا معنا... شقيتوا معنا... تغلّبتوا معنا... وانهزمتوا معنا... والآن بدنا نترجاكم: حلّوا عن...).
من الواضح أن ما يستفزّ الفلسطينيّ الناصريّ الذي وُلِد قبل دولة إسرائيل، ليس صمت الأنظمة العربية، بل كلامهم الذي يقع في دائرة الحكمة التي تقول: "أسمع قرقعةً (أو جعجعةً) ولا أرى طحنًا". هذا الضجيج المزعج لعباراتٍ تتكرّر من 75 عامًا. تزعجه هذه الخفّة في طبقاتِ أصواتٍ فقدت منذ عقودٍ طويلةٍ ماضيةٍ هَيْبةَ الجَهير Bass العميقة مقابل دويّ السوبرانو Soprano الزنّان المُلعلِع الفاقِع مثل صراخ النساء. دويٌّ بلا رصاص، وصياحٌ بلا أثر.




لو آثروا الصمت المُتأمّل، إلى أن تحين مواقيت الكلام المقرون بالعمل، لكان أوجب لهم وأجدى وأكثر معنى.
لخّص العجوز في مدينة المسيح عليه السلام كل شيء، وتحدّث بلسان كلّ من يروا في الصمتِ قيمةً أعلى من الكلام المجّاني، والبيانات الممزوجةِ بِما لم يبلعه الرّيق، ولم يمنعهُ جفاف الشّفاه.


حائطٌ نحو أبواب السماء

يهود يصلون أمام الحائط الغربي للمسجد الأقصى في القدس (17/ 3/ 2023/ فرانس برس)


بقليلٍ من الصمتِ البَليغ، ينكشفُ لأي باحثٍ عن الحقيقة أن القصة ليست (براقَنا مقابل مبكاهم)، أو تدافعًا نحو مكانٍ ممكنٍ للذَّبح (ذبح القرابين، أو الأُضحيات). إنه صراعُ وجودٍ بامتياز. فمنذ احتلال فلسطين ونكبتها في عام 1948، وعلماء دولة الاحتلال يبحثون، من دون جدوى، عن أي لقيةٍ، أو نقش، أو أثرٍ يدلّ عليهم في القدس وما حولها، ما دفع عالم الآثار اليهودي يسرائيل فينكلشتين، رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، إلى التشكيك بوجود الهيكل جملة وتفصيلًا، يقول: "لا يوجد أيّ سندٍ علميٍّ لِما ورد في العهد القديم بشأنِ حائط المبكى". أمّا المؤرخ البريطاني كيث وايتلام، صاحب كتابيّ "اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني"، ‫و"إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين" (الكتاب الثاني صادر، من ترجمة د. لمى سخنيني، عن دار العائدون للنشر والتوزيع)، فيرى أن تاريخ البحث عن إسرائيل القديمة، انتابه "الاستعجال في تفسير معلومات يفترض أن تكون موضوعية وخارجة عن التوراة، على أساس افتراضات مستمدة من التوراة"، مؤكدًا أن هذا الاستعجال "سِمَةٌ ينخرطُ في مَزاليقها كلُّ تاريخ البحث عن إسرائيل القديمة". وَبِالفم المَليان، وخلال مقابلة أجراها معه مخرج الفيلم الوثائقي "السامريون... الخلاف التوراتي"، يصدح عالم الآثار الأردني محمود أبو طالب: "لا يوجد هيكل لِسليمان، لا في القدس، ولا خارجها".
أبو طالب يورد في كتابه "من السلط إلى القدس"، الذي ترجمه عمر الغول عن الإنكليزية، ما يأتي: "إن الرواية التوراتية تقول إن بني إسرائيل قد هاجروا إلى المنطقة في الفترة الزمنية التي تعود إلى 1250 عامًا قبل الميلاد، ويفترض أنهم حسب الرواية قد دخلوا في صراعات وتحالفات مع الممالك القائمة، كالمُؤابيين والأَدوميين والعمونيين، ولكن التنقيبات والمسوحات الأثرية التي جرت في المنطقة لا تشير إلى أي أثرٍ لِاستيطان في المنطقة في العصر المشار إليه في التوراة، رغم أن العمليات التي جرت كانت مجتهدة في محاولة البحث عن أي إشارة توافق الرواية التوراتية. وتذكر التوراة أسماء 31 مدينة احتلّها الإسرائيليون في فلسطين، ولكن عمليات البحث والتنقيب في هذه المواقع المشار إليها تؤكد أنها لم تكن مستوطنة في الفترة المذكورة في التوراة". أبو طالب، وأمام هذا المأزق المتمثّل بعدم العثور على أي دليل ماديّ يؤكد ادّعاءات اليهود، يقترح فرضية مفادها أن هجرتهم قد تكون حدثت على هيئة عمليات هروب من الرِّقِّ والاضطهاد في مصر، ولجوءٍ إلى الصحراء، موضحًا أن كلمة خابيرو، أو عبيرو، تعني، كما وردت في النصوص المصرية القديمة، الأشخاص الذين يعملون أرقّاء، أو جنودًا مأجورين في كيانٍ سياسيٍّ لا ينتمون إليه.




إنه، بالتالي، صراعٌ سياسيٌّ وجوديٌّ بامتياز. والآن، ومع أكثر حكومات إسرائيل تطرفًا وصهيونيةً دينيةً وتعبيرًا عن أفكار المجموعة المعروفة باسم (كوهيلت) ومخططاتها (أنصح في هذا السياق قراءة المقال الذي ترجمه عن العبرية الزميل أنطوان شلحت، ونُشر في ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 14 آذار/ مارس 2023، تحت عنوان: "من أين يأتي تمويل "الانقلاب من أعلى" في إسرائيل؟")، فإن لحظة الانفجار المتسلّلة تحت غطاء الصراع الدينيّ (حروب الصلاة)، باتت وشيكة، بل وربما وشيكة جدًّا.
المسألة مسألة أطماع، وليست قضية قوميات، يقول عالم الاجتماع البريطاني/ التشيكي أرنست غلينر (1929 ـ 1995): "إن القومية ليست إيقاظ الشعور بالذات لدى الأُمم، إنها تخترع أممًا لم تكن موجودة من قبل".
عند هذه النقطة المفصلية من انهيار لائحة الادّعاء، وصعود نزعات إمحاء مسعورة، لا يعود لأيِّ كلامٍ مقام، نعود للصمت نشيد عنواننا، هذا السرّ الذي يلتفّ، بحسب الأديب الأردني هاشم غرايبة، "بأقنعةٍ كثيرةٍ، قشرُها رقيق، لكنّه صلب"، ويقيم، كما يرى، "وراء المعنى"، ويتجلّى بوصفه "معنى المعنى". فلا "بدّ أحيانًا من لزوم الصمت ليَسمعنا الآخرون" كما يقترح الأديب المصري أحمد تيمور (1871 ـ 1930).
فـ"إذا كان الكلام مهماز الصمت"، فإن "الصمت لجام الكلام" ("ضفة ثالثة"، باسم سليمان، "الصمت حمّال أوجه"، 5 آذار/ مارس 2023)، وإن كانت صلاة التراويح لا تشفع للقائمين عليها من الركّع السجود، خلوّهم لِعباداتهم من دون مساس، ولا تدنيس، ولا دخول المساجد بِبصاطير الجند الحاقدين، فإن للصمت هنا ما بعده، وإن أي محاولة لإقامة دروب السلام قد أصيبت في مقتل.
أنا لا أتحدث هنا عن الصمت الذي يلي قوة الحجّة والبيان، بل عن الصمت الرائي في أي كلام غير محسوب مضيعة للوقت، الخاشع أمام شجاعةِ الفلسطينيّ المتصدّي وحده لحمايةِ مقدساتٍ قيل إنها تخصّ العالم أجمع.
فاصعد يا حائط الحروب حتى أعالي السماء، اجعل من حبل البُراق جسرًا، ومن إطلالة جبل الزيتون شاهدًا، ومن ترانيم القِيامة الكبرى نشيدًا وطنيًا للصمت، "النّاجي الوحيد"، بحسب ماكس بيكارد، من "الحداثة والتسْليع الرأسماليّ".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.